عبدالسلام الزبيدي
من يحدّد أولويات التونسيين ويضبط أجندا اهتماماتهم؟ وكيف تتحدّد هذه الأجندا؟ ووفق أيّة آليات أوّلا ومعايير ثانيا؟ الإجابة تحتاج دراسات تخصصية تتجاوز طبيعة هذا الشكل من الكتابة الصحفية. واستباقا منّي لأيّة دراسة ممكنة لتحديد ما تصدّر اهتمامات التونسيين خلال هذا الأسبوع الموشك على الانتهاء، أرجّح أنّ الحدث الذي حظي باهتمام ذي بال وكان مدار جدل في فضاءات النقاش الافتراضية، هو اعتزام بعض التلاميذ المرسمّين بأحد معاهد مدينة الحمامات السياحية بالشمال أداء الصلاة جماعةً في ساحة المعهد واعتراض المديرة أو القيّمة العامة على ذلك. ليس اعتراضا على الصلاة في ذاتها بل على أدائها داخل المؤسسة “برّة صلّي في داركم” ( أقم الصلاة في المنزل وليس في ساحة المعهد).
أهم الأخبار الآن:
فقد انتزع هذا الحادث/ الحدث أولوية النظر والجدل وقفز إلى صدارة أجندا الاهتمامات على حساب أحداث أو مواقف أخرى لها مقوّمات الارتقاء إلى تلك المكانة. من ذلك المشاركة التونسية بمستوى وزير خارجية بتفويض من رئيس الجمهورية قيس سعيد في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدّة وغيرها من المواعيد الدبلوماسية المهمة بنيويورك (مؤتمر الاعتراف بدولة فلسطين/ لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقادة عرب ومسلمين/ اجتماعات مجموعات إقليمية/ لقاءات ثنائية). والحدث المقصود هنا هو الغياب الرئاسي ودلالاته وأبعاده. ويمكن إحصاء مسائل أخرى مثل مسار أسطول الصمود لكسر الحصار على غزة، أو التغيير الحكومي المرتقب، أو جدل أسعار اللحوم الحمراء، أو حجز 12 مليون حبّة مخدّرة، أو إيقاف أحد أهم رجال الأعمال في تونس (أحمد عبدالكافي).
التلاميذ بين الخطاب الديني وسلاح الصورة
أثارت حادثة السعي إلى الصلاة والنهي عن أدائها في ذلك الفضاء في التونسيين ما كان مكتنزا داخلهم وخبيئا في ثنايا أنفسهم. من كان في صفّ السعي ومن اختار الدفاع عن فعل النهي، إنّما استند إلى سرديّة تتجاوز إشكالا عارضا في معهد ثانوي يمكن حلّه بطرق شتّى باعتباره جزءا من التدبير اليومي للفضاء التربوي وليس التعليمي.
بعض التلاميذ أرادوا إقامة صلاة العصر في ساحة معهد، فطلبت منهم المسؤولة الإدارية مديرةً كانت أو قيّمة عامة إقامتها في المنزل، فما كان من أحد التلاميذ إلاّ أن ردّ بأنّ “هذه الأرض هي أرض الله” وأنّه “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. وعلى تخوم هذا “الحدث العارض” هاتفٌ يسجّل بالصوت والصورة تعابير الوجه ونبرة الصوت والأجواء العامة والبعد المشهدي. ليتحوّل الشأن الجزئي والتفصيلي والعارض إلى حدث يمكن وصفه بكثير من الاطمئنان بالوطني.
إنّها سلطة الصورة. إنّها قيمة الوسائط. إنّها سلاح التعميم والتأثير. إنّها القدرة على الارتقاء بالجزئي إلى الكلّي. إنّها التكنولوجيا بما تخفيه من مرتكزات إيديولوجية في ذاتها (هذا يحتاج تفصيلا أنا بصدد الاشتغال عليه في مقال فلسفي). إنّها الآليات المستحدثة في أيادي أبنائنا المصنّفِين حروفا وفق آخر ترتيب أبجديات اللغات اللاتينية.
انشغل الفسطاطان بما يُعبّر عما يختلج داخلهما وليس بالضرورة عن الحادثة في ذاتها، سواء الفسطاط المنافح عن التلميذ وصلاته وحريته الدينية وعن خياراته الشخصية وقناعاته الذاتية المتناغمة مع الدستور الجاري عمل به، أو الفسطاط المدافع عن حرمة الحرم التعليمي من التدنيس بالمقدّس الواجب طرده إلى الفضاء الفردي والخاص صونا للدولة من مسارب تسرّب السياسة والإرهاب. في حين غفلنا عن أنّنا في زمن تهدّدنا فيه البيانات والمعلومات والخوارزميات وما أثمرته من ذكاء مصطنع ومستحدث.
كان الاهتمام من ناحية بالذود عن حقّ التلميذ وحرية ممارسة العبادة في فضاء تربوي ببلدٍ الإسلام دينه ( لن ندخل غمار التدقيقات والتنازعات)، ومن ناحية أخرى بالتحذير من منزلقات الفعل التلمذي وما يخفيه من جهة من إمكانية تلبّس السعي إلى الصلاة بمخططات خفية وتآمرية تطابقت فيها طريقة تفكير القائلين بها مع جوهر خطاب كاتب الدستور والمؤتمن على احترامه وتطبيقه (مركزية فكرة التآمر محرّكا للفعل المعارض للاختيارات الذاتية)، ومن جهة أخرى أبعاد اعتبار التلميذ المسؤل (ة) الإداري (ة) محرّضا على معصية الله ومانعا للصلاة في أرض جعلها الإله مسجدا وطهورا.
وفي كلّ مرّة يستخرج هذا الطرف وذاك من قاعِ نفسه ما يسقطه على حادثة كان يمكن أن تنتهي بحوار وإنصات وتنظيم وفهمٍ للمتغيّرات ذات الصلة بالجيل الذي ينمو بين عالم تعليم متكلّس وذكاء يجوس خلال النفوس ويعيد تشكيلها.
تلميذ عصر الذكاء والمعلوماتية
جاءت هذه الحادثة/ الحدث لتعرّي أسوأ ما فينا، وتُخرج إلى السطح العُقَد الايديولوجية والتكلّس الذهني والتبلّد. إنّنا لم نع أنّ شيئا ما يحدث حولنا وفينا.
لم تعد شخصية التلميذ تتشكّل تربيةً والديّة أو دراسية إنّها تتشكّل في عالم افتراضي غدا نمطا جديدا للوجود. تلميذ اليوم من جيل تتراكم فيه المعلومات بنسق سنوي يعادل ما أنتجته الإنسانية منذ اختراع الكتابة إلى تسعينات القرن الماضي.
تلميذ اليوم ينبغي أن نفهم نفسه وطبقاتها لا على أساس نظريات تآكلت مرجعياتها، بل علينا فهم دلالات اللاشعور المعلوماتي باعتباره عوامل تكنولوجية خارجية تحدّد طبيعة الشخصية.
تلميذ اليوم ليس صدى لصراع إعادة تنظيم الفضاءات العامة والخاصة في علاقة بالدين وممارسته. ففضاءاته نمطها جديد لا صلة لها بمربعات ممارسة العبادة في المسجد أو المنزل أو المعهد أو الطريق العام. إنّه يعيش تداخلا في الأمكنة والأزمنة. والفضاء اللامحدود في الوجود ( نعم الوجود) الافتراضي لا يملكه أحد ولا يتطلّب الولوج إليه إلاّ ارتباطا بالشبكة، وهذا ما يجعل التلميذ يعتبر أنّ كلّ الأرض لا تخضع إلاّ إلى ملكية المطلق (الله).
تلميذ اليوم لا يعترف بالحدود والحواجز وبالسلطة الخارجية القاهرة، لأكثر من سبب أهمها أنّه يعيش في عالم يشكّله بنفسه ويتشكّل به (في الواقع شكّله المبرمجون والمهندسون والشركات الكبرى…).
قد يقول البعض إنّني ذهبت مذهبا بعيدا في مقاربة المسألة. وقوام الردّ أنّ الاعتراض له معقوليته لكنه يؤكد أنّنا لم نفهم أبناءنا بعد. ولنتمترس حول الخوف من الإرهاب والاسلام السياسي والخشية على قيم الحداثة والعلمانية، أو نعتصم بمقاومة الاستئصاليين والعاملين على محو هوية الأمة ودينها خدمة لإيديولوجياتهم.
وبهذه الطريقة نعطي دليلا إضافيا على أنّنا لم نستوعب الدرس من فشل الانتقال الديمقراطي. فنكرّر الأخطاء ذاتها التي سعد بها من قلب الطاولة على الجميع. ما أسعده بهذه النخب الباحثة قولا عن استئناف الانتقال في الوقت الذي تكشف ممارساتها ومقولاتها عن أنّها لو رُدّت إلى واقع الحريات لرجعت إلى ما كانت فيه من مناكفات. أمّا التفاعل مع حادثة معهد الحمامات فهي دليل على أنّنا لم نفهم أبناءنا التلاميذ ولم نفهم عصرنا المعلوماتي ولم نفهم لماذا يتمدّد الحكم الفردي متغذيّا من حماقاتنا.
أضف تعليقا