صابر بن عامر
الديجيتال، أو الرقمنة الضيف الوافد إلى كتاباتنا وأفكارنا وصورنا في الألفية الثالثة الجديدة، حامل اقتحم الهواتف المحمولة والحواسيب والكمبيوتر اللوحي دون استئذان ولا سابق إنذار، فأثّر في يومياتنا واجتهاداتنا وحتى ميولاتنا وأثراها إيجابا حينا وسلبا في مواقف أخرى، حتى بات من لم يكن رقميا، اليوم، موسوما بأميّ القرن الحادي والعشرين.
بوابة تونس طرحت سؤال: هل الديجيتال يُثقّف؟ فتباينت الإجابات بين مُنتصر للحامل الجديد ورافض له.. فكانت هذه الإجابات لبعض المُثقّفين التونسيين والعرب في جزئها الأول:
وفرة للرأسمال الرمزي
ردا على سؤالنا، يقول الكاتب والشاعر والناقد الجزائري أزراج عمر: “عندما قرأت لأول مرة كتاب الفيلسوف الفرنسي الراحل جان فرانسوا ليوطار الموسوم بـ”الوضع ما بعد الحداثي” شعرت بخوف شديد، من أنّه قد يأتي يوم لن يصبح فيه للكتاب الذي يُثقّف وجود، لأن الإنترنت ستحلّ محله”.
ويُواصل صاحب ديوان “الجميلة تقتل الوحش”: “إذا كان الكتاب هو الذاكرة الحضارية الإبداعية للإنسان القديم والحديث، وهي من صنعه، فيُمكن لنا القول إن الديجيتال هو ذاكرة الإنسان المُعاصر التي تُصنع له، ولهذا مخاوفه ومُتعه البراقة في آن واحد”.
ويُؤكّد الناقد الجزائري: “طبعا إن سيل المعلومات والأخبار التي تتحرّك عبر الأوطان والقارات من خلال الإنترنت، تُقدّم إلى الإنسان غذاء المعلومات في أسرع وقت، وحيثما يوجد فيه المجال المغناطيسي الخاص بالإنترنت.. هذا النوع من الوفرة الرأسمالية الرمزية، يتيح لنا الوصول إلى مخزون متنوّع من بنوك الأفكار والمعلومات التي يُمكن أن يتعلّم منها الفرد ويستخدمها حين يشاء”.
وفي هذا السياق، يتخوّف -أزراج عمر- من تقلّص دور الذاكرة الطبيعية للناس، وربما تكلّسها وضمورها رويدا رويدا.
ويستدرك: “في الحقيقة، الديجيتال لا يملك الجهاز الذي يُوفّر للعقل البشري الشروط التي بموجبها يصنع البشر المعرفة ذاتيا”، موضّحا: “الديجيتال لا يملك جهاز الفهم والمقولات والمفاهيم والمخيلة التخطيطية والحدس، فجميعها هبات خاصة بالبشرية فقط”.
ووفق هذا الأساس يُوضّح عمر: “هذه الذاكرة الإلكترونية يُمكن أن تُثقّف بسبب الكم الهائل من المعلومات المختلفة، لكن قد لا تقدر، ربما، على أن تُحوّل دوما المكسب الثقافي المعلوماتي إلى حضارة لها روح وأخلاقيات.. وهنا تكمن الأزمة الروحية والمعرفية التي تولد من عصر التكنولوجيا”.
قراءة الوقائع من ثقوب ضيّقة
غير بعيد عن طرح أزراج عمر، يقول الصحفي والكاتب المسرحي التونسي أنور حرزالي: “من المؤكّد أن الديجيتال مساحة شاسعة يُمكن أن تُساهم في توسيع الثقافة، خاصة إذا كان للمُقبل على فعل التثقّف أرضية فكرية ومنهجية تُمكّنانه من تصيّد المعارف على اتساعها، وانتقاء الثابت منها من خلال التدقيق في أصلها ومرجعها.. أو يتحوّل الأمر في معظم الأحيان إلى تلقين ببغائي من خلال الفيديوهات للتنكيل بالتاريخ وتخوين أعلامه، من خلال قراءة الوقائع من ثقوب ضيّقة تحصرها المعايير الذاتية لصاحب المحتوى”.
ويقول المسرحيّ التونسيّ: “لا ننسى كذلك المحتويات مدفوعة الأجر التي تخدم مصالح جهة ما سواء كانت دولة أو تيارا سياسيا أو فكرا دينيا، أو فريقا رياضيا”.
ويستدرك حرزالي: “عدا ذلك، فإن الديجيتال انتقل بالمحتويات الثقافية من إدراج المكتبات إلى قارعة الصفحات، الأمر في ظاهره إيجابي، لكن لا ضامن لمنفعته ما دامت الحقائق والعلوم والمحتويات الفكرية مُعوّمة وسط مستنقعات من الشوائب والأوحال”.
والأمر هنا -وفق مُحدّثنا- لا يقتصر على مدى توفّر المواد الثقافية، بقدر ما هو مُرتبط بقدرة المتلقي على أن يكون مشروع مثقّف ومتقبّلا واعيا، دون الوقوع في اللغط والغرق في بحر التعويم أو الاختناق بالعمى الإيديولوجي.
سلاح ذو حدّين
على عكس عمر وحرزالي المُتحفّظين على نجاعة الديجيتال وقدرته على التثقيف، ترى الإعلامية اللبنانية مايا إبراهيم أنّ للحامل إيجابياته وسلبياته أيضا، مُوضّحة: “لقد واكبت عصر ثقافة الورق وعصر الثقافة الرقميّة، فلكلّ زمن جيله وتقنياته، تحوّل العالم الآن إلى قرية صغيرة قرّبت المسافات.. وكلّ شيءٍ في هذه الحياة سلاح ذو حدّين”.
وتستدرك إبراهيم: “نعم، الديجيتال يُثقّف وبشكل سريع، فقد أصبحت المعلومة بين يديك، فقط عبر ضغطة زرّ، لكنها في نظري، كما تأتي بسرعة لا ترسخ في الأذهان بل ترحل بسرعة، فقد لاحظت أنّني خلال “عشرتي” للورق كانت ترسخ المعلومة أكثر في ذهني وتتخزّن لزمن، أمّا اليوم فأرى أنّ الديجيتال يُعطي المعلومة في برهة من الزمن، لتذهب في ما بعد كما أتت، لذا أفضّل الورق عليه، فالورق حضارة، وله نكهته الخاصّة، وبيني وبينه رابط متين”.
ثقافة مُوازية في طريقها إلى الهمينة
في الشأن ذاته، تقول الصحفية والناشرة التونسية حذامي خريف: “ثقافة الديجيتال أصبحت جزءا من الواقع، وقد دخلت الثورة الرقمية مراحل مُتقدّمة. اليوم ونحن مندهشون من معجزات “شات جي بي تي” والذكاء الاصطناعي بصفة عامة، لا يمكن الحديث إلّا عن ضرورة التأقلم والتفاعل مع هذه الثقافة، لا اعتبارها ثقافة بديلة بل مُوازية وفي طريقها إلى أن تصبح المُهمينة”.
وتُؤكّد سليلة آل خريف: “هنا وجب الاهتمام بتطوير “العقلية” البشرية من حيث التعاطي مع هذه التطوّرات وأيضا من حيث “تقييدها”، حتى لا تخرج الأوضاع عن السيطرة.. ولنا في تونس أمثلة كثيرة على استفادة الشباب من ثقافة الديجيتال في أعمال فنية وسينمائية وتطوير أفكار وبرامج تنموية”.
ومع ذلك تُوضّح: “لكن لنا -أيضا- في المقابل أمثلة أخرى عن مآلات سوء استخدام عوالم الديجيتال، من ذلك علاقة التونسي بالفيسبوك الذي يُقضّي معه 82 ساعة شهريا، وفق دراسة أجراها معهد أمرود كونسيلتينغ”.