تونس

61 عاما على إجلاء آخر جندي فرنسي من تونس.. إما حياة وإما فلا

تحيي تونس، اليوم الثلاثاء 15 أكتوبر، الذكرى الحادية والستين لعيد الجلاء الوطني، تاريخ طرد آخر جندي فرنسي من تونس عام 1963.

معتقلو 25 جويلية

معركة سيادة

وانطلقت معركة الجلاء في فيفري عام 1958، أي بعد عامين من الاستقلال، إثر العدوان الفرنسي على قرية ساقية سيدي يوسف الحدودية مع الجزائر، وخلّف شهداء تونسيين وجزائريين.

وخاض الجيش والحرس التونسيان معركة ضدّ بقايا الاستعمار، بغاية افتكاك السيادة الكاملة على الأراضي التونسية، فاندلعت مواجهات عنيفة في قاعدة بنزرت العسكرية، نفّذ فيها الاستعمار عدوانا غاشما على القاعدة العسكرية سنة 1961، ما أجبر الحكومة التونسية، برئاسة الحبيب بورقيبة، على مراسلة نظيرتها الفرنسية من أجل وقف إطلاق النار والتفاوض على الجلاء.

قبلت فرنسا بالتفاوض دون رصاص، ونجحت تونس في طرد آخر عسكري فرنسي من أراضيها، وهو الأميرال فيفاي ميناد يوم 15 أكتوبر عام 1963، فبات تاريخا شاهدا على افتكاك السيادة والاستقلال النهائي.

ويُعتبر موعد 15 أكتوبر 1963، في كامل مناطق البلاد التونسية وجهاتها وبالأخصّ ولاية بنزرت (شمال)، من المواعيد الوطنية الكبرى التي يعتزُّ بها التونسيون.

فما الدوافع والأسباب وراء خوض التونسيين الحرب؟ ومدى الاستعدادات والتسليح؟ وما حصيلة الأعداد الحقيقية للشهداء؟

كان المستعمر الفرنسي، بترسانته العسكرية المتطوّرة وأسلحته المدمّرة، في معركة الجلاء، يعتقد أنّه منتصر وباق في بنزرت، قبل أن يخيّب مسعاه ويغادر الأدميرال الفرنسي فيفاي ميناد المدينة، وتسترجع تونس سيادتها على أراضيها، بعد فترة استعمارية امتدّت من 1881 إلى 1963، أي 82 عاما.

من 58 إلى 63

كانت مسيرة تحرّر البلاد التونسية، وطرد آخر جندي من الآلة الاستعمارية الفرنسية من التراب الوطني التونسي، وتحديدا من ولاية الجلاء بنزرت يوم 15 أكتوبر 1963، مسيرة نضال بطولي، لاسيما معركة بنزرت أيام 19 و20 و21 و22 جويلية 1961، رواها كلّ من عاشها من مناضلين ومقاومين في أكثر من مناسبة ومجال، وأكّدها المؤرّخون، سواء سياسيّا أو دبلوماسيّا أو بالأخصّ عسكريّا ومدنيّا.

ودفعت تونس مقابلها شهداء بررة من مناطق البلاد وجهاتها كافّة قدّرتها المصالح الرسمية التونسية بحوالي 640 شهيدا بين عسكريين وحرس وطني ومدنيين، دون اعتبار آلاف المصابين وما لحق بالبنية الأساسية من دمار شامل.

ولم تكن أهمية عاصمة الشمال التونسي تنحصر بفائدتها العسكرية وموقعها الجغرافي على المتوسّط، بقدر ما كانت مجال مصالح اقتصادية واجتماعية وعسكرية شاملة لفرنسا، وهو ما جعل إمكانية التخلّي عن المدينة خسارة موجعة لم يكن يقدّر ديغول ولا آلاف الفرنسيين المستقرّين بها على تحمّل تبعاتها.

ويؤكّد مسار الأحداث التي أحاطت بمعركة بنزرت إلى جانب ما ينقله بعض المؤرّخين الفرنسيين المعاصرين، رواية مماطلة القيادة الفرنسية في تسليم السيادة على بنزرت إلى التونسيين، ومباشرة عمليات توسيعهم لنطاق مشاريعهم العسكرية والمدنية لقضم أجزاء إضافية من المدينة.

مع نهاية سنة 1960 التي يفترض أن يقع خلالها استكمال الانسحاب العسكري من بنزرت، بدا واضحا أنّ فرنسا تخطّط لأمر مغاير ولن تلتزم بالجدول الزمني للجلاء، خاصة مع المشاريع التوسّعية الخدماتية والترفيهية التي قامت بإنشائها لخدمة جاليتها، وهو ما يكشف بوضوح أنّ بقاء الفرنسيين في المدينة سيطول لسنوات عديدة.

كانت الساحة التونسية منذ جريمة قرية ساقية سيدي يوسف على الحدود الجزائرية التونسية سنة 1958، تفور مطالبة بإنهاء الوجود الفرنسي في بنزرت، الذي كشّر عن أنيابه للانتقام من المدنيين التونسيين نتيجة دعمهم للثوار في الجزائر.

شرارة المواجهة

يوم الـ30 من جوان 1961 تصدّت عناصر الحرس الوطني التونسي لأشغال توسعة قاعدة “سيدي أحمد”، بما يشكّل اعتداء صارخا على حدود السيادة التونسية لمدّ النفوذ الفرنسي بالقوة، ما دفع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بالتوجّه نحو تعبئة الشارع استعدادا لخوض معركة شعبية ووطنية واسعة لاستعادة المدينة.

وفي الرابع من جويلية دعا الديوان السياسي إلى إعلان الحرب لاستعادة المدينة والدفاع عن السيادة الوطنية وبدأ معها تدفّق آلاف المتطوّعين الذين طوّقوا الثكنات الفرنسية.

لم تكن كرامة شارل ديغول لتتحمّل التصعيد التونسي خاصة مع اندلاع المواجهات صبيحة يوم 19 جويلية التي أسفرت عن تدمير سبع طائرات فرنسية واقتحام إحدى المواقع، ما دفعه إلى توجيه أوامر صارمة للقائد العسكري موريس أميان بالقول: “اضربوا بسرعة وبعنف”، وهو قرار كلّفه ثمنا باهظا في ما بعد.

جحافل الشهداء

ذهب بعض المؤرّخين -على غرار صوفي بسيّس- إلى تقدير عدد الشهداء التونسيين بأكثر من ألفَي شهيد، وذلك وفق التقديرات التي اعتبروها الأكثر اتّزانا، في حين تذكر وزارة الدفاع التونسية في موقعها الخاص بالتراث والتاريخ العسكري، أنّه من الجانب التونسي استشهد 639 شخصا يتوزّعون كالآتي:

364 من أفراد الجيش.

45 عنصرا من الحرس الوطني (الشرطة).

230 مدنيا.

في حين بلغ عدد الجرحى التونسيين نحو ألف.

ومن الجانب الفرنسي قُتل 27 عسكريّا.

وقد كان لأصداء المواجهات في شوارع بنزرت بين سكانها والفرنسيين المدعومين بالطيران الحربي، ولمشاهد الدمار والدم، وقع كبير على صعيد الوطن العربي والعالم، تكلّل بتدخّل سريع لمجلس الأمن الذي أقرّ وقف إطلاق النار، قبل أن يصدر قرارات حاسمة لصالح الحكومة التونسية في أوت من السنة نفسها، أجبرت بمقتضاها باريس على التفاوض مع تونس بشأن إعادة جدولة انسحابها من بنزرت. قرار بدأ تنفيذه في سبتمبر 1963.

بني وطني”.. أغنية الجلاء والشهداء

لقد دفعت عروس الشمال مهر حريتها وسيادة تونس ثمنا عزيزا غاليا محفورا بالدم والتضحيات، لكنها سجّلت يوما في سجلّ البطولات يوم أجلت آخر الغزاة عن أرضها معلنة استكمال السيادة الوطنية.

وتخليدا لهذه الذكرى العزيزة على التونسيين تعنّت الفنانة علية بذكرى الجلاء عبر أغنيتها الخالدة “بني وطني” من كلمات الشاعر عبد المجيد بن جدّو وألحان الشاذلي أنور، والتي يقول مطلعها:

بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفداء

نريد من الحرب فرض السلام ورد العدا

لأنتم حماة العرين أباة، نشدتم لدى الموت حق الحياة

مدًا ومدى، وكنتم تريدون سبل النجاة ورسل الهدى

فلو كان للخصم رأي سداد وعقل يميل به للرشاد

ويردعه عن ركوب الردى

لما اختار نهج الوغى والجلاد

وسالت هباء دما الأبرياء

فإما حياة وإما فلا”.

وتأتي ذكرى طرد آخر جندي فرنسي مستعمر اليوم، في ظلّ ما تسطّره المقاومة الفلسطينية من بطولات أمام الآلة الاستعمارية الصهيونية التي جاوزت عامها الأول، مخلّفة أكثر من 42 ألف شهيد، لكنّ الأكيد أنّ الحق منتصر لا محالة أسوة بكلمات أغنية علية القائلة:

أردنا الحياة ورمنا العلا

وفي حقنا لا نخاف البلا

ومن دمنا قد صبغنا رداء

رفعناه فوق البلاد لواء

فماس به الأفق حين بدا

فإما حياة وإما فلا”.