وجدي بن مسعود
عندما يتحدّث المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو المنحدر من السلالة الحسينية عن موقفه المشوب بالعداء لذكرى الخامس والعشرين من جويلية 1957، تاريخ إعلان الجمهورية في تونس، الذي يصفه بـ”اليوم الحزين والأسود”، فإنّ تصريحاته تلامس وترا شديد الحساسية لدى المؤرخين والمتخصّصين في التاريخ الوطني المعاصر، وتحرّك تساؤلات مسكوت عنها، أشبه بحجر ألقي في مياه راكدة.
فبعيدا عن النظرة السطحية للسواد الأعظم من عموم التونسيين تجاه آراء الرجل، فإنّ روايته للإرهاصات التاريخية التي حفّت بإلغاء النظام الملكي وكواليس السجالات التي أحاطت به، تعيد إلى السطح نقاشات شديدة التعقيد بين جدلية الشرعية الدستورية ورمزية المشروعية الشعبية والانتخابية.
من هذا المنطلق كانت لحظة الخامس والعشرين من جويلية أبعد من مجرد إعلان مفصلي في مسار التاريخ الوطني، لتتحوّل إلى حدث قادح وفصل مستمرّ من التأويلات القانونية والقراءات التاريخية المتباينة.
ميلاد بين مفهومين
جدل الشرعية الدستورية والمشروعية التأسيسية، مثّل حجر الأساس الذي رافق ميلاد الجمهورية في تونس، وقدر له أن يتحوّل إلى مفهوم متجذّر في آليات السلطة والحكم، وكذلك الأطروحات السياسية لمسار 25 جويلية 2021 الذي يقوده رئيس الجمهورية قيس سعيد.
ويفسّر عدد من الباحثين في الشأن السياسي جدلية الرمزية والمفاهيم المحددة لتاريخ 25 جويلية، بحالة التقاطع التشريعي والدستوري التي اختطّها أوّل مجلس منتخب بعيد الاستقلال، وصدام التأويل والتفسير ما بين الدور المناط بعهدة النواب الذي حدده الأمر العلي الصادر في 29 ديسمبر 1955 بوضع دستور للبلاد، والمشروعية الانتخابية التي يشكلونها بصفتهم ممثّلين لإرادة الشعب، والتي أشار إليها إعلان الجمهورية ضمنيا، باعتبارها الركيزة الأساسية التي اعتمد عليها المجلس القومي التأسيسي في تسطير قراره.
“انقلاب جمهوري” على الملكية
حدّد الأمر العلي الذي أصدره محمد الأمين باي آخر ملوك تونس، مهام المجلس القومي التأسيسي في وضع دستور يعتمد الملكية الدستورية ذات النهج الديمقراطي، من خلال التنصيص على “تحديد نظام السلط، وتمكين الشعب من المشاركة الفعلية بواسطة ممثليه المنتخبين في إعداد القوانين الأساسية للبلاد”.
سنّ أعضاء المجلس طوال الأشهر الأولى من عملهم، عدّة نصوص لتنظيم السلطة، والحدّ من صلاحيات الباي وامتيازات العائلة المالكة، تأكيدا للتوجه نحو اعتماد الملكية الدستورية المقيدة بنظام برلماني ورقابة الحكومة، لكنهم تحولوا لاحقا إلى بلورة فكرة تغيير نظام الحكم.
وتقطع قراءات عدد من أساتذة القانون، بأنّ تصويت المجلس التأسيسي على إعلان الجمهورية شكّل “انقلابا” على الشرعية القائمة، وتجاوزا لأمر إحداثه وتحديد مهامه الذي يعد وثيقة دستورية، ما فرض على النواب تجاوزها، واعتماد مقاربة المشروعية والاستناد إلى نفوذهم المستمد من صفتهم التمثيلية.
جاء إعلان الجمهورية في خضمّ التقاطع بين المفهومين، محمّلا بتناقضات بين روح البيان ومنطوقه، فبينما ربط إلغاء الملكية بتكريس النظام الديمقراطي، نادى بتعيين الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة قبل صدور الدستور ودخوله حيز التنفيذ.
اشتباك متجدّد
بعد أكثر من نصف قرن، وفي خضمّ المشهد السياسي الراهن، يتجدّد “الاشتباك المفاهمي” بين التاريخ والمصطلحات المحملة برمزيات وتأويلات متنافرة، بعد أن خرج من تحت مظلة “التدابير الاستثنائية” التي أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيد مساء الخامس والعشرين من جويلية 2021.
اعتمد الرئيس سعيّد على الفصل 80 من دستور 2014، جاعلا من المسار الذي تمخّض عنه مشروعا سياسيا يقطع مع طبيعة النظام السياسي، وآليات ممارسة السلطة ومنظومة الحكم التي وصمها بـ”الضعف والعجز عن تحقيق الديمقراطية الفعلية وتجسيد إرادة الشعب”.
وحسب بعض المراقبين، فقد وظّف الرئيس سعيد مفهوم “المشروعية الشعبية”، بديلا عن الشرعية الدستورية والمؤسسات السيادية التي أنتجتها تجربة الانتقال الديمقراطي في العشرية الماضية.
وفي مواجهة اتّهامات خصومه ومعارضيه بـ”الانقلاب”، وخرق الدستور، تمترس سعيد خلف “المشروعية”، باعتبارها تفويضا شعبيا لتحقيق مطالب التونسيين وإصلاح النظام السياسي.
أصدر الرئيس سعيد مراسيم عزّزت صلاحياته وسلطاته بشكل واسع، وعطّل معظم أبواب الدستور، كما أعلن عن حلّ مجلس نواب الشعب السابق، بعد أن وصف جلسته المنعقدة عن بعد في مارس 2022 بـ”محاولة الانقلاب على الدولة”.
جاء حلّ البرلمان وفق مراقبين للمشهد التونسي، استكمالا لخطوات تجسيد المشروع السياسي لرئيس الجمهورية التي وصفها في المرسوم عدد 117 بالإصلاحات السياسية، وضمّنها لاحقا في خارطة طريق، شملت صياغة دستور جديد للجمهورية وعرضه على الاستفتاء الشعبي.
المشروعية واختبار الاستفتاء الدستوري
شكّلت محطة الاستفتاء اختبارا للمشروعية الشعبية التي راهن عليها الرئيس سعيّد وارتكز عليها مسار 25 جويلية 2021، في ظلّ ارتباطها بصياغة مسودة الدستور المقترح، الذي كتب وسط مخاض عسير من العواصف القانونية وفتاوى التشريع.
لكن مسودة الدستور التي نشرتها رئاسة الجمهورية في الثلاثين من جوان 2022، جاءت أقرب إلى كونها منزلة ما بين المنزلتين، أي الشرعية والمشروعية، فلا استمدت صياغتها من هيئات تأسيسية أو تشريعية منتخبة سيرا على العرف المتداول في مختلف الأنظمة الديمقراطية، ولا كانت صنيعة جلسات الحوار الوطني التي عقدتها اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إذ تبرّأ رئيسها العميد الصادق بلعيد من النص المنشور في الرائد الرسمي، قائلا: “إنه لا يمت بصلة إلى المشروع الذي تم إعداده وتقديمه إلى الرئيس قيس سعيّد”.
ألقت أزمة المسودة الدستورية، وما أثارته من انتقادات إعلامية وتأويلات قانونية وسياسية، بتداعياتها مرّة أخرى على موعد الخامس والعشرين من جويلية 2022، الذي أقرّه الرئيس سعيد تاريخا للاستفتاء في الدستور المقترح، فلم ينجح استحضار المشروعية التاريخية ومكانتها الاعتبارية لدى التونسيين في حشد أكثر من ثلاثين بالمئة من الناخبين، لـ”شرعنة” الانتقال إلى ضفة تأسيس الجمهورية الجديدة.
عكست نسبة المشاركة الضعيفة، وفق مراقبين، حالة من العزوف غير المسبوق في صفوف التونسيين من مختلف الفئات، بما يعبّر عن الشكوك والمخاوف وحتّى القطيعة التي بات يقابل بها مشروع رئيس الجمهورية في أوساط الرأي العام، لكنها في المقابل عمقت جدلية تاريخ الخامس والعشرين من جويلية، بمختلف محطاته الراهنة والماضية، إذ ظلت تراوح مكانها بين أزمة الرمزية واشتباك التاريخ بمرجعية الشرعية وسؤال المشروعية.