محمد بشير ساسي
منذ افتتاحه رسميّا قبل أكثر من شهر وحتى خلال سنوات من المفاوضات الماراثونية والشاقة، يتصاعد الخلاف بين مصر وإثيوبيا بخصوص سدّ النهضة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين ودول حوض النيل بشكل عام، وبما يُخشى معه – في حال استنفاد كل الحلول وخاصة من الجانب المصري – أن تخرج الأزمة من دائرة التّحذيرات التقليدية إلى نزاع عسكري محتمل يعيد مجدّدا عدم الاستقرار إلى شرق إفريقيا.
اتساع الهوة
ولعلّ أبرز ما كشفته “التوترات الدبلوماسية” بين مصر وإثيوبيا في الفترة الماضية وانتقادات القاهرة من طريقة تشغيل السد النهضة -التي أدت مؤخرا إلى فيضات في السودان ومصر نتيجة اختلال التدفقات المائية للنيل- هو تحلّل النسق التقليدي لإدارة الملف المعقّد واتساع الهوّة بين مصالح الأطراف المعنية به وتحديدا القاهرة وأديس أبابا اللّتين باتتا تتبدلان رسائل حادة ومستفزة، قد تجنح في أي لحظة بسير الأحداث نحو مطبّات دبلوماسية وربما نحو خيارات عسكرية كانت بالأمس مستبعدة وغير مطروحة بالمرّة.
فبينما تتباهى القيادة السياسيّة في إثيوبيا بالسد العملاق وتسوّق له رمزا للنهضة الوطنية والتنمية، وثمرة لتضحيات الشعب الإثيوبي، وفي الخارج يُقدَّم إنجازا إفريقيا يُثبت قدرة القارة على تحقيق مشاريع كبرى بإمكاناتها الذاتية، فإن القاهرة تعتبره تهديدا وجوديا لأمنها المائي الذي تعتمد عليه بنسبة تقارب 90 % لتلبية احتياجاتها المائية الزراعية والحياتية، في حين يرى السودان إمكانية استفادته من طاقة رخيصة وتحكم أفضل بالفيضانات إذا تم الاتفاق على آلية تشغيل مشترك.
ورغم كلّ التطمينات التي قدمها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضمن مسار المفاوضات أو خلال حفل التدشين الاستعراضي بإقليم بني شنقول بتأكيده عدم الإضرار بالأمن المائي للقاهرة والخرطوم واستعداد بلاده على تعزيز الشراكة معهما في مشروع سد النهضة الذي وصفه بالحلم التارخي، إلا أن النظام السياسي المصري لم يقتنع بتلك التعهدّات الإثيوبية ليختار لغة التصعيد والوعيد..
رسالة إنذار
ففي كلمة مسجلة ألقاها قبل أيام خلال الجلسة الافتتاحية لأسبوع القاهرة الثامن للمياه، اتهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إثيوبيا بإلحاق الضرر عبر سد النهضة بدولتي المصب مصر والسودان، داعيا إلى تحرك دولي وإفريقي لعقد اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل السد.
وخلال الكلمة أكد السيسي أن اختيار مصر على مدار 14 عاما طريق الدبلوماسية واللجوء إلى المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، لم يكن يوما ضعفا أو تراجعا، بل تعبيرا عن قوة الموقف ونضج الرؤية”، مؤكدا أن “مصر لن تقف مكتوفة الأيدي وستتخذ كافة التدابير لحماية مصالحها وأمنها المائي.
فالبنسبة إلى القاهرة فإن اكتمال السد بعد الإصرار الإثيوبي على الملء المنفرد دون تنسيق ودون التوصل إلى اتفاق ملزم لآليات التشغيل؛ يعني تغيرًا جوهريًا في معادلة القوة المائية والاقتصادية، وأن مستقبل النيل بات مفتوحًا على سيناريوهات لم تعد تخلو من أشباح الصراع.
في المقابل ردت إثيوبيا بنبرة التحدي بأنها لن تخضع لأي ضغوط أو ترهيب للتخلي عن حقها “المشروع” في استخدام مياه النيل لتلبية احتياجاتها التنموية والمائية، مشيرة إلى أن مصر تتجاهل حقوق الدول المشاطئة الأخرى وتتمسك بما تصفه بـ”حقوق تاريخية تعود إلى الحقبة الاستعمارية”.
نهر في الوعي
لفهم طبيعة المشكل في سدّ النهضة بعيدا عن حرب التصريحات النارية والاتهامات المتبادلة بين مصر وإثيوبيا، حري بكل باحث أن يضع في الحسبان أن الأزمة تعكس حالة استثناء؛ فهي – على عكس ما يميز الأزمات الدولية من عنصر المفاجأة – لها تاريخ يمتد خمسة عقود، آخرها العقد الراهن الحافل بجولات التفاوض، والذي يمكن ببساطة عنونته بـ”العقد الضائع” الذي قدم دليلًا واضحًا على الطبيعة المركبة لهذه الأزمة التي تتخطى حدود النيل الأزرق، موضع السد، بل حدود حوض النيل نفسه.
هنا تحديدا يطرح السؤال المركزي والأهم نفسه: كيف أوصل سد النهضة الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد والتأزّم والخطورة؟
منذ آلاف السنين، لم يكن النيل مجرد مجرى مائي في الجغرافيا، بل كان نهرا في الوعي، شريانا في الجسد الحضاري الذي صاغ هوية المصريين عبر آلاف السنين، فبينما كانت شعوب العالم القديم تبحث عن الماء لتستقر، كان المصريون أبناء الماء ذاته، إذ ولدت قراهم ومدنهم ومعتقداتهم على ضفافه، وارتسمت ملامح دولتهم على إيقاع فيضانه. وفي كل عام، حين كان النهر يفيض، لم يكن ذلك مجرد حدث طبيعي، بل طقس كوني يرمز إلى تجدد الخلق، وعودة النظام بعد الفوضى، وتجدد العهد بين الأرض والسماء.
لقد شكل النيل مع الزمن أكثر من مورد مائي، وأصبح ذاكرة جمعية تجري في الدم المصري. ومنه اشتقت مصر ذاتها اسمها في نصوص المصريين القدماء، كِمِت، أي الأرض السوداء، في إشارة إلى النهر الذي يهب الأرض الحياة. ولهذا لم يكن المصري ينظر إلى النيل بعين المزارع فقط، بل بعين الفيلسوف الذي يرى فيه رمزا للاتصال بين الحياة والموت، بين النظام والفوضى، بين الزمن الدائري الذي يعود كل عام بفيضان جديد، والزمن الخطي الذي يقود إلى بناء الحضارة واستمرارها.
غير أن هذا النهر الذي كان رمزا للخصب والاستقرار، تحوّل في القرن الحادي والعشرين إلى محور توتر وصراع، تتقاطع عنده المصالح الوطنية والمخاوف الوجودية. فبينما ازدهرت حوله واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ، أصبح اليوم مسرحا لواحدة من أعقد الأزمات الجيوسياسية في أفريقيا، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي الكبير.
اعتماد وجودي
يمتد النهر لمسافة تقارب 6695 كلم عبر 11 دولة، ويغطي حوضه مساحة تبلغ نحو 2.9 مليون كلم مربع، ليصبح من أكبر أحواض الأنهار في العالم. وتأتي 86% من موارده من الهضبة الإثيوبية (59% من النيل الأزرق، 14% من السوباط، 13% من عطبرة)، بينما لا يتجاوز إسهام النيل الأبيض القادم من منطقة البحيرات الاستوائية (وأهمها بحيرة فيكتوريا) سوى 14% فقط.
وتحصل مصر على نحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، أي ما يعادل 97% من مواردها المائية المتجددة من مياه النيل، وهو ما يفسر اعتمادها شبه الكامل عليه نظرًا إلى ندرة الأمطار، حيث يعيش أغلب سكانها على ضفتيه.
هذا الاعتماد الوجودي جعل أي حديث عن تحكم طرف آخر في منابعه مثيرًا لمخاوف عميقة في المخيلة المصرية. ورغم توسع البلاد في مشروعات تحلية المياه والاعتماد على المياه الجوفية، فإنها تبقى بلدًا فقيرًا مائيًا، والنيل هو العامل الحاسم في معادلة أمنها القومي والغذائي.
أما السودان، فبالرغم من أن النيل مصدر ثلثيْ استخداماته المائية، فقد بدا موقفه أكثر التباسًا في البداية، إذ انقسمت المواقف بين من رأى في سد النهضة تهديدًا محتملًا للأمن المائي وخطرًا في حال انهياره، وبين من اعتبره فرصة للتنمية والحماية من الفيضانات. غير أن هذا الموقف سرعان ما تماهى مع الموقف المصري لاحقا، إذ انخرطت الخرطوم في المطالبة باتفاق ملزم ينظم الملء والتشغيل، معتبرة أن السلوك الإثيوبي يهدد مصالحها الحيوية.
في المقابل، صاغت إثيوبيا سردية مختلفة تمامًا، قدّمت فيها النيل الأزرق بوصفه موردًا حُرمت منه تاريخيًا. وأمام مجلس الأمن عام 2021، قال وزير المياه الإثيوبي، سيليشي بقلي: “اعتراض مصر والسودان يهدف إلى منعنا من استخدام مياهنا.. مشروع سد النهضة محاولة لتحقيق حلم الإثيوبيين واستجابة لمتطلبات حياتهم”. وسخرت أديس أبابا أدواتها الدبلوماسية والإعلامية للتأكيد أن السد مخصص لتوليد الكهرباء، لا لحرمان دول المصبّ من حصصها المائية.
بيد أن مكمن الصراع ليس في مجرد بناء السد أو حتى الغرض الرئيسي منه، وإنما في سؤال جوهري: هل النيل -تحديدا النيل الأزرق- مورد إثيوبي خالص (كما تروج أديس أبابا ضمنيا وعلنيا في بعض الأحيان)، أم هو نهر دولي عابر للحدود خاضع لقيود الأعراف والقانون الدولي؟ ما يجعل الخلاف أكثر من مجرد خلاف على حصص مائية؛ بل صراع على تعريف هوية النهر نفسه.
مشروع معقّد
كانت مصر على مدى قرون تنظر إلى النيل باعتباره “نعمة إلهية” ذات نظام طبيعي لا يمس، يفيض في موعده ويهب الأرض خصبها. لكن في العصر الحديث، ومع صعود السياسات المائية القائمة على السيطرة، بدأ مفهوم النهر نفسه يتبدل. فبناء السدود لم يعد مجرد مشروع هندسي، بل أصبح فعلا سياديا يمس جوهر السيادة الوطنية، ويعيد طرح سؤال طالما تجاهلته البشرية: من يملك الماء؟ ومن يملك الحق في ضبط حركة الطبيعة؟
في السنوات الأخيرة، خصوصا مع فيضان هذا العام، بدا المشهد أكثر تعقيدا، فقد أدت معدلات الأمطار غير المعتادة على الهضبة الإثيوبية إلى زيادة كبيرة في التصريفات، انعكست في فيضان ضخم تجاوز التقديرات الطبيعية، متسببا بأضرار بالغة في السودان وموجات غمر في مناطق طرح النهر داخل مصر.
وفي الوقت نفسه، جاءت الخطوة الإثيوبية بالملء الأحادي الجديد لخزان السد دون تنسيق مسبق لتثير أزمة مضاعفة، أزمة علمية مرتبطة بإدارة المياه، وأخرى سياسية تمس مبادئ القانون الدولي والثقة الإقليمية.
فسد النهضة الكبير الذي كلف خزينة إثيوبيا أكثر من 4 مليارات دولار يعد واحدا من أعقد المشروعات المائية التي شيدت في القارة الإفريقية خلال العقود الأخيرة، ليس فقط لضخامته الهندسية، بل لأنه أُقيم على نهر دولي رئيسي يغذي أكثر من مئة وخمسين مليون إنسان في دول المصب. من ثم فإن تقييم طريقة إدارته لا يمكن أن ينفصل عن فهم نظامه الفني، ومعادلات تصريفه، وآلية تفاعله مع الدورة الهيدرولوجية الطبيعية للنيل الأزرق.
يبلغ ارتفاع سد النهضة نحو 145 مترًا وطوله أكثر من 1.8 كيلومتر، بسعة تخزينية كلية تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه. هذه السعة توازي تقريبا كل التدفق السنوي للنيل الأزرق في السنوات المتوسطة المطر (الذي يتراوح بين 48 و55 مليار متر مكعب سنويا).
ويتكون السد من جسم خرساني رئيسي، وسد ركامي جانبي، وبحيرة تمتد لمسافة أكثر من 240 كيلومترا في الداخل الإثيوبي، مع محطتين لتوليد الكهرباء بطاقة إجمالية مخططة تبلغ نحو 5150 ميغاوات.
تبدو الأرقام مذهلة من الناحية الهندسية، لكنها في الحقيقة تحمل معضلة توازن مائي، لأن التحكم في هذا الحجم الضخم من المياه يعني فعليا القدرة على تغيير إيقاع النهر الطبيعي.
وهكذا، فإن قضية السد الإثيوبي لا يمكن قراءتها فقط بوصفها نزاعا على الحصص المائية، بل بكونها تعبيرا عن أزمة رؤية في فهم معنى الماء ذاته، وعن صدام بين منطقين، منطق “الحق الطبيعي” في البقاء، ومنطق “الحق السيادي” في التنمية. وفي قلب هذا الصراع تقف مصر، أمة النهر التي بنت على ضفافه تاريخها كله، تواجه اليوم احتمالات أن يختزل مصيرها في معادلات تصريف وملء تتحكم فيها إرادة خارجية.


أضف تعليقا