الحديث عن الأسير ياسر الحمدوني في “هبوط مؤقت” لم يكن سردا لتاريخٍ موجع، بل إعادة إحياء لرجلٍ اختُصر في رقم فصرخ العرض باسمه كي لا يُنسى
صابر بن عامر | تطاوين – بوابة تونس
أهم الأخبار الآن:
بشراكة إعلامية مع بوابة تونس، تواصلت، ظهر اليوم الخميس 8 ماي، بولاية تطاوين ومعتمدياتها (جنوب شرق تونس)، فعاليات النسخة السابعة من المهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج، الممتدّة حتى التاسع من الشهر. وبقلب الولاية النابض، وأمام إعدادية المدينة، انطلق الاقتحام الفني عدد (117) من الاحتجاج المسرحي في المركب الثقافي تطاوين بعنوان “أشلاء المسافة 0،579” للمسرحي التونسي نزار الكشو، وذلك قُبيل انطلاق العرض الفلسطيني “هبوط مؤقت” الذي وقع برمجته في تمام الساعة منتصف النهار بالمركب الثقافي بتطاوين.
اقتحام مؤقّت.. لكنه دائم
وعلى عادته متكّئا على عكّازه تهادى الكشو مُتقمّصا شخصية الضرير “عبد البصير”، مُحدّثا الأطفال-التلاميذ عن فلسطين الصمود والنضال ودرء الاحتلال، داعيا إياهم أن يردّدوا بصوت واحد “تحيا فلسطين” بعلمها وقدسها العاصمة الأبدية لأهم قضية إنسانية. نداء سُمع صداه من تطاوين إلى فلسطين.. فتحلّق التلاميذ أمام الشيخ الضرير المُبصر بصيرة وحكمة، ليقودهم التؤدة إلى المركّب الثقافي بتطاوين، ليُتابعوا العرض الفلسطيني المُرتقب.
وهو ما كان رغم أنّ الزمان منتصف النهار، وهو موعد لحاق الأطفال بذويهم للغداء قبل مُعاودة الدرس بعد ساعتين.
فما كان منهم إلاّ أن استنجد بعضهم بمعارفهم وبصاحب هذه الورقة ليمكّنوهم من الاتصال هاتفيا بأوليائهم يستأذنونهم البقاء لمُشاهدة عرض “هبوط مؤقت”. فأيّ هبوط مؤقت، لكنه دائم في ذاكرة أطفال كانوا مارين فباتوا فاعلين ومُتفاعلين مع العرض الفلسطيني، وهو ما يحسب للكشو ولإدارة المهرجان، فلا معنى لمهرجان دون تفاعل مع المدينة وأهلها، وخاصة أطفالها.
وعلى خشبةٍ ترتجف بالحقيقة، في المركب الثقافي بتطاوين، لم يُعرض مجرد مشهد مسرحي، بل انشقّ الزمن على نفسه. صعدت الأرواح من تحت الأرض، ولم تأتِ كأشباح، بل كأدلةٍ دامغة، تمشي على ساقيها، وتفضح.
كانت الستارة بابًا لمقبرة جماعية فُتحت صدفةً أمام جمهور جاء يبحث عن الفن، فوجد نفسه وجهًا لوجه مع وجعٍ غير مؤرشف، وجريمةٍ ما زالت تُرتكب كل يوم، في صمتٍ عالميٍّ رسميٍّ جدا ومُخجل جدا.
ندبة على وجه الذاكرة
في لحظةٍ اخترقت الزمن، أطلّت علينا وعلى أطفال تطاوين خاصة، مسرحية “هبوط مؤقت”، لا كعرضٍ فنيّ، بل كجمرٍ حيّ يمشي على الخشبة، كندبةٍ على وجه الذاكرة، كصرخةٍ لم تجد أذنًا، فتسلّلت إلى القلب مباشرة.
من اللحظة الأولى، لم يكن العرض عرضا، بل اشتباكا. اشتباكٌ بيننا وبين الصور الجاهزة التي كوّنتها نشرات الأخبار، بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين قدرتنا على احتمال الحقيقة كما هي، بلا موسيقى خلفية، بلا تعليق سياسي، بلا تعاطف استهلاكي. كانت الخشبة زنزانة، جدرانها الكلمات، سقفها أنين الأسرى، وأرضها خوف الأمهات. وكانت الأضواء شمسا مصلوبة. أما الممثل، فكان شاهدًا وشهيدًا يعيش موته على الهواء مباشرة..
لا ليُؤدّي دورا، بل ليبعث حقيقةً دفنتها الأخبار.
في كل مشهد، كانت فلسطين تتجلّى لا كرمز، بل كجسد حقيقي: مُتعب، جائع، يعرق، يئنّ، ويقاوم. وكان “ياسر حمدوني” لا مجرد اسم، بل اسما مركّبا من وجوه الآلاف.. أولئك الذين يُمحى وجعهم كل ليلةٍ بضغطة زرّ، بينما العالم ينشغل بسهراته.
“أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي”
بدندنات أغنية مارسيل خليفة بدأ مشهد آخر، سمعنا وجع أمهات الأسرى. هنّ اللواتي لا ينمن، لا يتوقّف قلبهنّ عن الخفقان في كل لحظة، يعشن في زمنٍ متوقّف، حيث لا أخبار تصل ولا زيارات تُسمح. كلّ واحدة منهنّ تحمل في قلبها سجنا أكبر من سجون الاحتلال.
هي الأم التي تتخيّل ابنا يضع رأسه على صدرها، لكن لا تجد سوى الصورة المعلّقة على الجدار، والذكرى التي تقتلها في كل لحظة. تنتظر دون أن تعرف إذا كان حبيبها، أسيرها، ما يزال على قيد الحياة أو أنه صار جزءًا من معركة الأمعاء الخاوية والزنزانة الخالية إلّا من أنين وجعه.
بين كل جملةٍ وجملة، كان هناك أسير يتنفّس بصعوبة. بين كل صمتٍ وصمت، كانت هناك أمّ تنتظر خبرا منذ اغتصبت الأرض.
وبين شهقات الجمهور، كان هناك شهيد يهمس: أنا هنا، لم أمت بعد. الممثل كان ينظر إلينا، لا بعينيه فقط، بل بعين كل من خلفه، ممّن لا يستطيعون الصراخ.
وكان الصمت بين الجمل ليس استراحة، بل خيانة لو نطقت.
حتى شهقات الجمهور، حتى دموعهم، كانت جزءًا من النص، مكتوبة مسبقًا، محسوبة، مقصودة. وفي قلب المسرحية، وقف ثائر ظاهر (الممثل الحكّاء لقصة الأسير ياسر الحمدوني وآلاف مثله)، يحمل في جسده ظلّ ياسر الحمدوني، وروحه، وقلبه الذي توقّف خلف القضبان بينما العالم يبدّل قنواته وقناعاته.
لم يكن الحديث عن الحمدوني سردا لتاريخٍ موجع، بل إعادة إحياء لرجلٍ اختُصر في رقم، فصرخ العرض باسمه كي لا يُنسى.
التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم
في زنزانة لا تتعدى المتر على المتر، حيث الجدران تضيق أكثر من قلب العالم، يُسجن ياسر، لا لأنه مجرم، بل لأنه فلسطينيٌّ حرّ. هناك، في العتمة القاسية، يتحدّث إلى نملة، ليس من الجنون، بل من الحاجة إلى أن يشعر أن هناك من يمرّ، من ما يزال حراً، من ما يزال حيّا”.
“شرّفت يا نملة.. نيالك، انت حرة”، يقولها ياسر، والعبارة وحدها تفضح العالم.
أيّ زمن هذا الذي صارت فيه حرية نملة حلما لأسير؟!
منفى صغير في مساحة العذاب، ومنفى أكبر في صمت العالم الذي يُراقب ولا يسأل.
إنّ عزلة ياسر ليست فقط عزلة جسد، بل عزلة وطن، عزلة ضمير بشري. ومع ذلك، يصمد..
لأنّ في روحه وطن لا يمكن أن يُسجن.
في سجون الاحتلال، لا مكان للرحمة، لا دواء لمن يئنّ، لا زيارة لمن يُنسى، لا شمس، لا هواء، لا صوت غير صوت السجّان، وهو يطرق الحديد كأنّه يطرق على الروح. ياسر، وغيره آلاف، يُتركون ليواجهوا الموت البطيء وحدهم، في غرف ضيّقة كالقبر، باردة كالنسيان، محاصرين بالقذارة، بالقمل، بالأمراض، بالألم الذي لا يُسمع كحال العفن.
يُحرمون من العلاج، يُتركون ينزفون حدّ الصمت، حدّ الفناء رغم أنه باق ببقاء البقاء.
تُمنع عنهم الزيارات كأنّهم لم يعودوا بشرا لهم أهل ينتظرونهم. كلّ ما في تلك السجون هو شكل من أشكال الإعدام المستمرّ، لا يرى العالم منه شيئا، أو يرى ويصمت.
سجون الاحتلال ليست فقط انتهاكا للقانون، بل صفعة على وجه الإنسانية، ووصمة عار في جبين كل من يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان ويغضّ الطرف.
وأبدا لا ننسى أن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم.
يا حرية.. كم مرة خُنتِنا؟ وكم مرة خذلَكِ العالم؟
كم مرّة صارت أسماء المقاومين أرقامًا؟ وتواريخ الإعدامات مناسبات تُنسى؟ كم مرّة وُضع الشهداء في أرشيف الذاكرة لا في دفاتر الحقّ؟ ولكن لا، لن تُنسى.
لأنّ المسرح هنا لم يكن منصة، بل تابوتا يُفتح ليلتهمه ثم من يأتي بعده.
وكان العرض قراءة جنائزية معكوسة: لا لنقول وداعًا، بل لنقول: “هأنذا.. شهيدك يتكلّم من جديد”. “هبوط مؤقت”؟
لا. لم يكن هبوطا، بل صعودا إلى السماء. صعودٌ في سلم الوعي، صعود وارتقاء بزغردة أم شهيد ستلد آخر وآخر.
اختبارٌ لما تبقّى فينا من إنسان.. كل مشهد، كل كلمة، كانت تشبه يدًا تُربّت على كتف الحقيقة وتقول لها: “قومي”.
في زمنٍ تُخنق فيه الكلمة، يُصبح المسرح فضاءً يصرخ فيه الحجر قبل الإنسان. يُصبح الفنان بديلا عن الرصاصة. يًصبح الجمهور جبهة. ويصبح العرض مقاومةً حقيقية، لا افتراضية. إنها ليست مسرحية.. إنها فعل مقاومة.
في زمنٍ صار فيه النضال مشهدا مكرّرا على وسائل التواصل، يختنق الكلام لتثرثر الصورة.. فمن يسمع؟
في زمن يُصبح الفنّ فيه آخر الخنادق.. وكان العرض خندقًا برائحة العفنة التي نشتمّها من عرق الممثل ثائر ظاهر، الثائر دائما وأبدا.
وكان الجمهور جنودًا بلا بنادق، لكن بقلوب تنزف، وتنبض، وتفهم. وهكذا، لم يسقط أحد.. بل ارتفع الجميع.
ارتفع الشهيد، ارتفع الجمهور، ارتفعت فلسطين فينا، لا كقضيةٍ تُبرّر، بل كجرحٍ لا يُشفى، كأملٍ لا يُقهر، كاسمٍ لا يُمحى.
الحرية؟ ليست شعارًا، بل فعل. لا تتحقّق في الميادين فقط، بل أيضًا في المسارح، في النصوص، في الضمائر التي لا تُباع.
وفي نهاية المطاف، يا من حضرتم، اعلموا من خرج من العرض، لم يخرج كما دخل.
خرج شيءٌ منه، وبقي شيءٌ آخر أسيرًا لذاك الحلم الذي لا يريد أن يُؤجل: أن تكون الحرية فعلاً، لا شعارًا. أن تكون المُقاومة حياة، لا نشرة. أن يكون الفنّ سلاحًا، لا زينة.
أن نعود بشيء من البطولة في أرواحنا.. ولو مؤقّتًا.
آسف يتعذّر.. جواز سفرك فلسطيني
وبسؤال بوابة تونس للممثل ثائر ظاهر عن أسباب غياب مخرج العمل قدري كسبة، قال: تعذّر على مخرج المونودراما “هبوط مؤقت” الحضور إلى تونس والمشاركة في فعاليات المهرجان بسبب عدم حصوله على تأشيرة الدخول، نظرًا لحمله جواز سفر فلسطيني”. وأضاف: “في المقابل، تمكّنت رفقة التقنيين من القدوم، حيث نحمل جميعنا ثانية مكّنتّنا من تجاوز هذا العائق الإداري”.
أضف تعليقا