تونس

مجازفة سعيّد السياسية تُنذر بانهيار الاقتصاد

يُمضي الرئيس قيس سعيّد في تعزيز سلطته في تونس منذ إجراءاته الاستثنائية التي أقرّها في جويلية/يوليو 2021، وتعليقه أعمال البرلمان وإقالة الحكومة، إضافة إلى طرحه دستورا في جويلية الماضي وبرلمانا مازالت معالمه تُثير جدالا واسعا.

ويُبرّر سعيّد إجراءاته بأنّها تهدف إلى إنقاذ البلاد من الانزلاق إلى حرب أهلية بعد حالة العطب السياسي، من خلال إعادة تشكيل نظام جديد للحكم (قاعدي)، فيما تراها المعارضة انقضاضا على المكتسبات الديمقراطية ونكوصا ثوريا رغم الانتقال السياسي الهشّ.

مجازفة سياسية

رغم تعهّدات الرئيس قيس سعيّد المتكرّرة بإنقاذ تونس وإصراره على نهجه الانفرادي، تسير الأوضاع الاقتصادية والمعيشية من سيّء إلى أسوإ، وسط تحذيرات من تحرّكات اجتماعية قد تعصف باستقرار البلاد.

وأمام المؤشّرات الاقتصادية الحمراء، يبدو سعيّد مصمّما على قلب النظام السياسي في البلاد، إذ اقتصرت إجراءاته على تعزيز سلطاته وانفراده بالحكم عبر المراسيم والقوانين التي تمكّنه من إرساء مؤسّسات خاضعة لإرادته.

بدأ الرئيس بتفكيك ممنهج للمؤسّسات الديمقراطية التمثيلية (البرلمان) التي أقامها دستور 2014، وتعويضها بأخرى بعد أن ألغى أدوار المكوّنات الوسيطة كالأحزاب السياسية والمنظّمات المدنية.

ويدّعي سعيّد- في كل خطاباته وتصريحاته- امتلاكه الوكالة والمشروعية لبناء نظامه الجديد، وأنّ مشروعه يقوم على منح السلطة للشعب، لكن الحقائق والوقائع تؤكّد العكس.

  وأسّس الرئيس نظاما سياسيا رئاسيا عبر تحكّمه في البرلمان القادم (فاقد الصلاحيات) ومجلس قضاء يقع تعيينه، وحكومة خاضعة لأوامره، وما البناء القاعدي عنده، إلّا أداة من أدوات التحوّز على الإرادة الشعبية.

ومشروع البناء القاعدي الذي يبشّر به سعيّد، يتركز على تفاعل الهياكل المحلية والجهوية الفاقدة أيّ استقلالية فهي محاصرة بآلية سحب الوكالة، فيما يتركز صنع القرار في هرم السلطة أي بيد الرئيس.

لذلك، يؤكّد المراقبون أنّ استراتيجية سعيّد في إدارة البلاد لا تهدّد فقط الديمقراطية التي كانت تعتبر نموذجا للعالم العربي فحسب، بل إنّها تدفع الاقتصاد أيضا نحو الانهيار.

فصّل الرئيس قيس سعيّد انتخابات تشريعية على مقاسه من أجل إعادة تشكيل البرلمان، باعتباره جزءا من إصلاحات واسعة تعزّز سلطاته، لكن خيبة أمل الناخبين من الطبقة الحاكمة وسط مشاكل اقتصادية حادة ساهمت في مقاطعة شعبية.

ودعت المعارضة، قيس سعيّد إلى الرحيل بعد امتناع نسبة كبيرة من التونسيين عن المشاركة في الانتخابات، مضيفة أنّ النتائج أسقطت وهم مشروعية الرئيس، مشيرة إلى أنّ التونسيين سحبوا ثقتهم بعد أن تسبّبت سياسته في أزمة اقتصادية حادّة.

وطالبت مكوّنات سياسية ومدنية بإجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، متّهمة الرئيس قيس سعيّد بتقويض التقدّم الديمقراطي الذي تحقّق منذ قيام الثورة التونسية في 2011، فيما دعا اتّحاد الشغل (أكبر منظّمة نقابية) إلى التحرّك لإنقاذ البلاد.

الانهيار الاقتصادي

بات شبه مؤكّد أنّ مقاربة سعيّد في الحكم لا تتضمّن أيّ حلول اقتصادية واجتماعية للتونسيين، إذ تقتصر ممارسته للسلطة على اختزال الأزمة في نظامها السياسي والدستوري.

وتؤكّد خطابات الرئيس -التي يصفها خصومه بـ”الشعبوية”- ضرورة استبدال الناتج الإجمالي بالاكتفاء المحلي والتحرّر من المانحين الدوليين، تناقضا واضحا بين دعوته إلى المحافظة على “السيادة” والسياسة الاقتصادية التي تنتهجها حكومته التي عينّها.

وفي وقت سابق، جمّد صندوق النقد الدولي اتّفاقية تهدف إلى مساعدة الحكومة في الحصول على قرض لدفع رواتب القطاع العام، وسدّ فجوات الميزانية التي تفاقمت بسبب جائحة كورونا وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.

وسابقا، توصّلت تونس إلى اتّفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي من أجل حزمة إنقاذ تبلغ قيمتها 1.9 مليار دولار، مقابل إصلاحات لا تحظى بتأييد شعبي، منها خفض دعم الغذاء والوقود وإصلاح شركات القطاع العام.

وأرجع محلّلون قرار الجهة المانحة إلى الانقسام السياسي الحاد الذي تشهده البلاد، وازدواجية خطاب السلطة (الرئاسة والحكومة)، إضافة إلى غياب التشاركية مع الأطراف الاجتماعية والسياسية.

 وأكّدت تقارير دولية في وقت سابق، أنّ مسار قيس سعيّد قام على الانفراد بالسلطة، وتدمير الديمقراطية والاعتداء على الحريات العامة والسلطة القضائية، وتوظيفها كل ما سبق لضرب المعارضة.

وقالت الخبيرة في الشؤون التونسية، مونيكا ماركس، إنّ “المواطن لم يطلب من سعيّد إعادة اختراع عجلة السياسة وكتابة دستور جديد أو تعديل قانون الانتخابات، بل دعا إلى تشكيل حكومة تلبّي احتياجاته من الخبز والزبدة، وتمنحه الكرامة الاقتصادية.”

وأكّدت ماركس أنّ سعيّد لم يقدّم بعد خطة أو استراتيجية للتعافي الاقتصادي لحكومته المثقلة بالديون، ولم يؤمّن الأموال اللازمة لتوريد الغذاء والطاقة، بل همّش دور الاقتصاديين وأفسد بيئة الاستثمار في البلاد.

من جانبه، قال محلّل تقييم المخاطر في شمال إفريقيا جيف بورتر: “يبدو أنّ الرئيس سعيّد يعتقد بسذاجة أنّه إذا تمكّن فقط من استكمال خارطة الطريق السياسية، فإنّ الاقتصاد سيصلح نفسه”.

وقال بورتر إنّ مصنّعي الأدوية نوفارتيس وباير وجلاكسو سميث كلاين، غادروا البلاد لأنّهم لا يحصلون على أموالهم من الموزّع الدوائي الحكومي غير المموّل بشكل كاف، مضيفا أنّ شركة رويال داتش شل -تشغل حقلي غاز يشكّلان 40٪ من الإنتاج المحلي التونسي- أعلنت في نوفمبر خروجها من تونس بحلول نهاية العام.

يشكّك مراقبون في قدرة السلطة بقيادة سعيّد على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، ويرون أنّ الوعود التي تُطلقها الحكومة، ومنها تمسّكها بدورها الاجتماعي، لا تعدو أنّ تكون إلّا محاولة لدفع المواطنين إلى التطبيع مع الوضع.

وتعاني تونس أزمة اقتصادية ومالية تفاقمت حدّتها جرّاء تداعيات جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى عدم استقرار سياسي تعيشه البلاد منذ بدء الرئيس قيس سعيّد فرض إجراءات استثنائية في 25 جويلية 2021.

وتحتاج تونس بشكل عاجل إلى مساعدة دولية منذ أشهر، إذ تواجه أزمة في المالية العامة أثارت مخاوف من عجزها عن سداد الديون وأسهمت في نقص الغذاء والوقود.

وفي وقت سابق، أعلن المعهد الوطني للإحصاء، ارتفاع نسبة التضخّم في البلاد إلى 9.8%، والعجز التجاري بـ58.8% مسجّلا 7.34 مليار دولار من بداية العام الجاري وحتى نوفمبر الماضي، مقارنة ًبالفترة نفسها من عام 2021.

هذه الوضعية، دفعت نظام سعيّد إلى تعديل خطابه تجاه المانحين الدوليين، إذ يؤكّد محلّلون أنّ ختمه قانون المالية لـ2023، يعدّ تبنيّا صريحا للإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي.

وبعد تهرّبها من الالتزام سابقا، يبدو أنّ السلطة وجدت نفسها مجبرة على الخضوع لحزمة الإجراءات التي يصفها التونسيون بالمكلفة، وهو ما أوضحته ميزانية 2023 التي أظهرت أنّ فاتورة الأجور في القطاع العام ستنخفض من 15.1% في 2022 إلى 14% العام المقبل، وهو إصلاح رئيسي طالب به صندوق النقد الدولي.

وفق ميزانية العام المقبل التي نشرتها وزارة الاقتصاد، فإنّ السلطة تعتزم خفض الإنفاق على الدعم بنسبة 26.4% إلى 8.8 مليار دينار، مقابل زيادة في الإيرادات الضريبية بـ12.5% إلى 40 مليار دينار.

ويرى مراقبون أنّ إقرار قانون المالية يسمح للسلطات التونسية بإعادة عرض ملف القرض على صندوق النقد الدولي، إلّا أنّه لا يعني بالضرورة موافقة الأخير، إذ تعرقل عملية التفاوض شروطا أخرى أهمّها التوافق المحلي وضرورة إشراك المكوّنات الاجتماعية وعلى رأسها اتّحاد الشغل.

عمليا، فقد سعيّد بانفراده بالقرار دعم اتّحاد الشغل المنظمة القوية في البلاد، وذلك بعد رفض الأخير خطة الإصلاح التي وضعها صندوق النقد الدولي مقابل حزمة الإنقاذ، مبرّرا قراره بالتداعيات الاجتماعية.

 زد على ذلك، رفض الاتّحاد -الذي يضمّ نحو مليون نقابي- مسار قيس سعيّد السياسي، ودعوته إلى المنظّمات بالتحرّك العاجل لإنقاذ البلاد، محذّرا من “الانحراف في الحكم إلى نظام يُشكّل تربة صالحة للاستبداد”.

مع مضي سعيّد في ترسيخ أسس حكمه الفردي وغياب مؤشّرات تراجعه، وبداية تشكّل حراك معارض للسلطة، تغيب مسارات الحل والحوار في البلاد التي يبدو أنّها تتّجه إلى المواجهة عبر الاحتكام إلى الشارع، وسط تعاظم شعور المواطنين بعدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي.