“فلسطين 36” لآن ماري جاسر فيلم يكشف تاريخا، يُراد له أن يُطمَس ويُنسى.
والمخرجة الفلسطينية تعرف المطلوب منها، فتُعيد إحياءه سينمائيا، ما يجعله منجزا بصريا مهما: أزياء وإكسسوارات تتطابق مع المرحلة التاريخية؛ تمثيل يتطلب حيوية وديناميكية جسدية، وبعض الممثلين أجانب؛ معارك حربية مُنفّذة بجودة، وبتصوير بارع (هيلين لوفار وسارة بلوم وتيم فليمنغ)؛ حوارات ميّالة إلى الشعاراتية والكليشهات التعبيرية، وهذا أضعف ما فيه.
أهم الأخبار الآن:
أما قوته، فتكمن في عمق بحث كتابته، وفي مهارة تجسيدها سينمائيا، هكذا لخّص الناقد السينمائي العراقي المقيم بالسويد قيس قاسم فيلم “فلسطين 36” لآن ماري جاسر.
كتابة سينمائية رصينة
ويسترسل قاسم في تحليله للفيلم، قائلا: “تتوقّف المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر عند عام 1936 من تاريخ بلدها، وتتأمّل تطوّراته ومآلاته الدراماتيكية. ولأهميته في توثيق السردية التاريخية الفلسطينية، تقترح إعادة تجسيد أحداثه وفق سياقها الزمني، بفيلم روائي يحمل التاريخ نفسه: “فلسطين 36″ (2025)، يستوفي شروط الصنعة السينمائية الجيدة”.
ويُواصل فيي نصه المنشور بموقع العربي الجديد: “فجاسر تنقل تلك المرحلة التاريخية الخطرة بكتابة سينمائية رصينة، تكرّس كل التقنيات اللازمة لنقل أحداثها بجماليات بصرية، من دونها لن يكون هناك ما يستحقّ المُشاهدة”.
في نصها السينمائي محاولة جادة لنقل مشهد فلسطين ذاك العام، استنادا إلى قراءة ذاتية له.
قراءة (سيناريو جاسر) تفصح عن فهم للتاريخ، ومعاينة أحداثه وتحوّلاته بعين فاحصة، ترى المشهد، وتبحث في أسباب تقلباته.
في السنوات التي سبقت 1936، تبدو القرى الفلسطينية متوائمة في عيشها البسيط مع بساطة الحياة نفسها.
مزارعون يعملون في حقولهم، ويتكيّفون مع ما تغدق عليهم من نِعم.
في المدن، حيث مظاهر الانتداب البريطاني أوضح، تتفاعل النخب المثقّفة مع الحاصل فيها وفي العالم، بوعي أكبر. الفارق بين المنطقتين يحمل في ثناياه فروقا طبقية واجتماعية، ستؤثّر لاحقا في مسار الأحداث التاريخية، وفي حيوات الأفراد، يؤكّد قاسم.
يدخل الناس إلى السياسة أحيانا كثيرة بغير إرادتهم، بل بأثر ما تفعله السياسة بهم. هذا يفسّر ما يجري في القرية الفلسطينية بسمة.
أول الأمر، لم يدرك أهلها الجاري حولهم، ولماذا تأتي أفواج يهود غربيين إلى أراضيهم، وتدريجيا يشرعون بقضم مساحات كبيرة منها.
التذمّر من وجودهم يتأتّى من الإحساس بالخطر المقبل معهم، وممّا يُبيّتونه من مخططات سياسية. ولأن قصص “فلسطين 36” عن انتفاضة شعبية ضد الانتداب البريطاني ومخطّطاته، تتخلّى عن البطولة الفردية لصالح الجماعية. وقائعها تقول إنّ أفرادا منها برزوا أبطالا فيها، وآخرون لعبوا أدورا مخرّبة لها، والكلام دائما لقيس قاسم.
بين النفاق العربي والدهاء البريطاني
عامل الميناء خالد (صالح بكري) يدفعه الاستغلال الطبقي إلى المشاركة في الانتفاضة، ويوسف (كريم داود عناية)، الراغب في عيشٍ أفضل من القرية في مدينة القدس، يدفعه إدراكه نيات البريطانيين ومخطّطاتهم إلى الخروج مع الثوار، وحمل السلاح.
يتوقّف نص جاسر عند دور الطبقات المثقّفة في القدس في مرحلة تاريخية، شهدت انقسامات ملحوظة بين من وقف مع المشروع البريطاني ـ الغربي الاستيطاني، ومن عارضوه واصطفّوا مع أبناء شعبهم.
الصحفية خلود (ياسمين المصري) تكتب مقالات وطنية، تفضح الخصوم المحليين والبعيدين، بمتانة أسلوبها وعمق ثقافتها، بينما ينشط زوجها أمير (ظافر العابدين)، بالضد منها، مع مؤسّسات مدنية بظاهرها، وبباطنها تتعاون مع مشروع جهنمي، يُبيّت استلابا ممنهجا للبلد بأكمله.
في سياق أحداثه، يبدو النص موزّعا بين قصص متفرّقة، تربطها قرية بسمة، بؤرة الحراك المسلّح، وبيوتها وأهلها المعرّضون لقمع الجيش البريطاني وعسفه.
تفضح مآلات الحراك المسلّح، وعجزه عن منع معاهدة جديدة، تجيّز تقسيم فلسطين وتسليمها للقادمين إليها من الخارج، نفاقا غربيا ودهاءً سياسيا بريطانيا، رموزه وأدوارهم فيه تتجسّد بكتابة توثّقها تسجيلات فيديو تتسرّب إلى المسارات الدرامية للفيلم بسلاسة، ومن دون إقحام مُفتعل. فكلّ إضافة تسجيلية تعزّز السردية الفلسطينية، وفق تحليلي قاسم.
رحلة مسدس من جيل إلى جيل
لا يستخفّ منجز آن ماري جاسر، مستحقّ الثناء، بالعقول المخطِّطة للمشروع البريطاني، ولا يقدّم أدواتهم المنفّذة له شخصيات شريرة جاهزة التوصيف.
على العكس، يكتبها بالتوافق مع تكوينها النفسي والأخلاقي. يجسّدها دراميا بكل محمولاتها الثقافية.
يقدّم الدبلوماسي بيلي هاول (توماس هوبكنز) شخصية متعاطفة مع الحقّ الفلسطيني، لكنها في نهاية المطاف تجد نفسها عاجزة عن مجابهة مخطّط كوني الطابع، فتنسحب جانبا من دون خسارة موقعها.
إنها ضد من يصوّر النص المُتخيل، المستند إلى وقائع تاريخية مشهودة، الكابتن وينغَت (روبرت أرامايو) كائنا مفرطا بقسوته وكراهيته للفلسطينيين.
إلى جانبه، هناك شخصيات أجنبية فاعلة في المشهد الفلسطيني عامَي 1936 و1937، تعمل وفق قناعاتها وقيمها الاستعمارية.
للإشارة إلى مقاومة الفلسطيني لها ولوجودها، تستدعي المخرجة آن ماري جاسر حكاية مسدس قديم لثائر فلسطيني، تخفيه رباب (يافا بكري) عن أنظار الجيش، لحظة تفتيشهم عنه على الطريق الواصلة إلى قريتها، وتُحيله إلى رمز لمقاومة وطنية.
من يد إلى أخرى، يتنقّل المسدس، ويستقرّ بيد صبي يقرّر إطلاق رصاصة منه على جندي بريطاني، يقول قيس قاسم.


أضف تعليقا