عبدالسلام الزبيدي
أهم الأخبار الآن:
قِيل إنّ النشأة في تركيا، والصياغة المفهومية في الولايات المتّحدة الأمريكية، في حين كان الاستعمال المكثّف في مصر. والمقصود بالنشأة والمفهمة والتداول هي عبارة “الدولة العميقة”. وقد اكتفينا بلفظ “عبارة” نظرا لأنّ الكلمة لم ترتق إلى مستوى المفهوم المصادَق عليه في العلوم السياسية رغم لجوء بعض الباحثين إلى استخدامه، وتسرُّبِ استعماله للسياسيين الماسكين بالسلطة في لحظة تاريخية ما عندما يعجزون عن تحقيق أهدافهم، فيرمون قوى خفيّة بالتسبّب في إفشال سياساتهم، وتعطيل تنفيذ مخطّطاتهم، والتآمر ضد المصالح الدولة وشعبها.
ولم تكن تونس في معزل عن استعمال هذه العبارة بعد 14 جانفي 2011. فالعجز عن تحقيق أهداف الثورة ذات البعد الاجتماعي، وعدم التمكّن من رتق الفتوق الاقتصادية فضلا عن تحقيق القفزة النوعية والرفاه، وبقاء الوضع الأمني وكذلك السياسي في مستوى الهشاشة السالبة للاطمئنان، تعود كلّها في الأغلب الأعمّ عند العابرين من قصور قرطاج والقصبة وباردو (السلطات التنفيذية والتشريعية) إلى تلك “الدولة العميقة” المتغلغلة في القوى الناعمة والصلبة والمتجذّرة في تقاليد الحكم بآلياته غير المنظورة.
بين الدولة الخفيّة والدولة الظاهرة
لكن يبدو أنّ الأمر لم يقف عند لحظة 25 جويلية 2021 وإجراءاتها الاستثنائية التي جعلت من إعادة سير دواليب الدولة إلى دورانها وسيرها الطبيعي هدفا معلنا. فبعد حوالي 4 سنوات من العمل على ضمان سيرها العادي، تُصدر رئاسة الجمهورية بلاغا على لسان رئيس الدولة قيس سعيّد، نفهم منه أنّ الدواليب لا تسير وفق طبيعتها ولا وفق ما أراد لها صاحب صلاحيات ضبط السياسات العامة للدولة. لنجد أنفسنا أمام خطاب يتطابق في كثير من خلفياته ودلالاته مع خطاب من سبقوه. إنّها الدولة الخفيّة بل العميقة التي تفرمل كلّ سعي إلى تحقيق الثورات القطاعية التشريعية منها والإنجازية. فالتعطيل آتٍ من داخل الدولة ذاتها وليس من خارجها، حتّى وإن كان هذا الخارج عاملا مساعدا.
فخلال استقباله يوم التاسع عشر من ماي 2025 رئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري، اعتبر سعيّد “أنّ عديدة هي المرافق التي لا يعمل القائمون عليها على الوجه المطلوب”، مشدّدا على أنّ “الدولة التونسية واحدة لا اثنتان إحداهما ظاهرة وأخرى توصف عموما بأنّها خفيّة، وما هي في الواقع بالخفيّة بل هي منظومة متشكّلة من فلول وجيوب ردّة لا همّ لها سوى تأجيج الأوضاع والتنكيل بالمواطنين، ولا مجال لأن تبقى خارج المساءلة وفق ما يقتضيه القانون”.
وهكذا نجد أنفسنا أمام معطيين مهمّين، أوّلهما سلبي والثاني موجب. أمّا السلبي فيتعلّق بنفي انقسام الدولة التونسية بين ما هو معلن وظاهر ومُتَحكَّم فيه وبين ما هو خفيّ. وهذا النفي وفق سياق الجملة لا يتعلّق بما هو كائن بل بما يجب أن يكون. وبعبارات أخرى ينتقد رئيس الدولة هذا الواقع الذي نعيشه والمُوحي بوجود دولتين الأولى ظاهرة معلومة وتمثّلها الوظائف الثلاث بمصطلحات دستور 2022 (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وباقي المؤسسات بصبغاتها المختلفة ومهامها المتعدّدة. ولنستحضر أنّ هذا المعنى (وإن كان بعبارات أخرى) صادر عن رئيس الجمهورية في زمن يسوده نظام رئاسوي يمنح لرأس السلطة صلاحيات لم تنبغ لغيره منذ إعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957.
أمّا المعطى الموجب فتأكيد رئيس الجمهورية قيس سعيّد أنّ هذه الدولة الثانية الموصوفة بالخفيّة هي في الواقع أكثر من ذلك بكثير. والمقصود أنّ هذا الخفيّ أو المخفيّ من الدولة “الثانية” يتجاوز ممارسات داخل الدولة يقوم بها أفراد لتحقيق مصالح أو تعطيل سياسات ومشاريع.
إنّها “منظومة” والعبارة للبلاغ الرئاسي الصادر على لسان رئيس الجمهورية. فعلى الرغم من أنّ رئيس الجمهورية منتخب منذ ست سنوات تقريبا وفق دستور 2014 في مرّة أولى وفي مناسبة ثانية وفق الدستور الذي خطّه بيمينه سنة 2022، وتشكيل مجلسين تشريعيين ومجالس محليّة وجهوية وإقليمية باعتبارها أساسا للنظام القاعدي، وعلى الرغم من أداء الوظيفة القضائية المتناغم مع سياسة الدولة الموصوفة بأنّها حرب تحرير، إضافة إلى الانفراد بتعيين الحكومات وكبار موظفي الدولة ورؤساء المؤسسات طوال أربعة سنوات، ما يزال الحديث عن وجود “منظومة” هي أشبه ما يكون بالدولة الخفية وفق عبارات البيان أو الدولة العميقة وفق مدلولاته.
الدولة العميقة، المكوّنات والأهداف
فما هي خصائص هذه المنظومة أو الدولة الخفيّة غير الظاهرة حسب البلاغ الرئاسي؟ اختار البلاغ تعريفها بمكوّناتها وبوظيفتها وحتّى نكون أكثر دقّة من خلال أهدافها. فبخصوص مكوّناتها، فهي “متشكّلة من فلول وجيوب ردّة”، والفلول تعني أشخاصا كانوا ضمن منظومة ما وانشقوا عنها أو فُصِلوا من مهامهم، وتُستعمَل كذلك لوصف الخارجين عن قيم المجموعة وكذلك المهزومين. مع العلم أنّ هذه العبارة كثيرة الاستخدام في القُطر المصري وقليلة الاستخدام في تونس التي عادة ما تُعوَّض بالأزلام. أمّا عبارة الجيوب فهي تدلّ على تمركز في أماكن محدّدة.
وتكمن أهميّة هذه الفلول والجيوب في أنّها مُتشكِّلة في منظومة، ومن هنا تأتي فعاليتها ونجاعتها وخطورتها، ولذلك ينبغي اصطياد الفلول ومحاصرة الجيوب واستئصالها. وما على المنخرطين في حرب التحرير إلّا القيام بما يلزم حتّى تبقى دولة واحدة موحّدة. مع التذكير بأنّ الحديث عن الدولة الخفية والمنظومة المتشكِّلة من الفلول والجيوب جاء في سياق الحديث عن الإدارة والمرافق العمومية وضرورة توفّر مواصفات معيّنة على القائمين على تنفيذ الثورة التشريعية المرجوّة.
وفي ما يتعلّق بأهداف “المنظومة” غير الظاهرة أو الدولة الخفيّة، فأوّلها الردّة حيث وصف الفلول بأنّها “جيوب ردّة” أي الارتداد إلى الوراء. وعلينا أن نفهم أنّ أوّل مستوى من مستويات الرجوع إلى الوراء في خطاب قيس سعيّد هو الرجوع إلى دستور 2022 بما يمنحه من صلاحيات تنفيذية كبرى لرئيس الحكومة فضلا عن صلاحيات الوزراء في اقتراح السياسات وعدم الاكتفاء بتنفيذها. والكلّ يعلم أنّ سعيّد دائم التأكيد أمام رؤساء الحكومات المتعاقبين الذين عيّنهم منذ 25 جويلية 2021 أنّه من الضرورة الوعي بأنّه لا رجوع لدستور 2022 في هذا الشأن.
وبذلك تكون الردّة بهذا المعنى استعادة الحكومة أوّلا والإدارة ثانيا والمؤسسات العمومية ثالثا نوعا أو بالأحرى مستوى معيّنا من الاستقلالية في ضبط السياسات القطاعية والقدرة على التسيير الذاتي. لكن مثل هذه “المطالب والطموحات” لن تساهم وفق “المعجم الدلالي” لسعيّد إلّا في “تفكيك الدولة وتفجيرها من الداخل”.
ولا تتوقّف أهداف هذه “المنظومة المتشكّلة من الفلول والجيوب” على ضمان العودة إلى ما يمنحها استقلالية في القرار والفعل، بل تتجاوزها حسب سعيّد إلى تحقيق همّها الرئيسي والأساسي وهو “تأجيج الأوضاع والتنكيل بالمواطنين”. فالخطر الداهم ليس خارجيا وإنّما هو من الداخل. والأوضاع التي تُؤَجَّج هنا أو هناك وما يعيشه المواطنين من أوجه تنكيل على مختلف الأصعدة ومنها قدراتهم الشرائية والخدمات الصحية والاجتماعية والعلاقة بالخدمات الإدارية، سببه الأساسي هذه الفلول وتلك الجيوب.
دلالة اللجوء إلى مقولة “الدولة العميقة”
إنّ الحلّ الأمثل لضمان وجود دولة واحدة، وفق ما يُفهم من الخطاب الرئاسي، هو التأكيد أنّه “لا مجال لأن تبقى (الفلول والجيوب) خارج المساءلة وفق ما يقتضيه القانون”. وليس غريبا على من اختصّ في تدريس القانون أن تكون معالجته قانونية بحتة للقضايا والنظر في الأوضاع التي قد تكون مؤجّجة، وإيجاد حلول للمواطنين المُنكَّل بهم. وما يؤكّد ذلك هو اعتباره في البلاغ ذاته أنّ الحلّ يكمن في الثورة التشريعية (قوانين)، فضلا عن أنّ تطبيق هذه التشريعات يتطلّب ملامح معيّنة للشخصيات الوظيفية (مسؤولو الإدارة).
والرأي عندي أنّ هذه المقاربة حتّى وإن كانت ضرورية فهي غير كافية، مع عدم الغفلة عن أنّ هذا التشريع الضروري قد يكون سببا، هو الآخر، في التأجيج والتنكيل حتّى وإنْ جاء في إطار تقديم الحلول وتوفير شروط إمكان التنفيذ. وسعيّد نفسه كثيرا ما اشتكى من تعدّد النصوص وتضخّمها ووقوف اللصوص وراءها.
وبغضّ النظر عن مدى واقعيّة التشخيص أو نجاعة الحلول المقترحة (محاربة الفلول بالقانون والقيام بثورة تشريعية وحسن اختيار الكفاءات)، فإنّ قطب الرحى في البلاغ الرئاسي هو اللجوء إلى مقولة أو عبارة “الدولة العميقة” لتفسير البطء في تحقيق المأمول والموعود والمنشود، والصلح الجزائي أو الشركات الأهلية أو التحكّم في الأسعار وايجاد حلول لاهتراء المقدرة الشرائية، ليست إلاّ مجرّد أمثلة.
فقبل البناء والتشييد ينبغي خوض حرب تحرير ضدّ الفلول وجيوب الردّة.. ولذلك يستعيد قيس سعيّد مقولة “الدولة العميقة” محمّلا إياها تعطّل المشاريع وبطء المُنجزات. لكن الإشكال أعمق من ذلك بكثير.


أضف تعليقا