“تدوينات الإعدام” في تونس.. خطأ “الوظيفة القضائية” أم خطيئة “المنظومة”؟

عبدالسلام الزبيدي  
لم يكن يوم الفاتح من أكتوبر 2025 يوما عاديّا في سجّل القضاء التونسي، وتبعا لذلك لتونس نظاما ومنظومةً وشعبا. قد يعتبر البعض ما جرى مجرّد “حادث في طريق الوظيفة القضائية”، لكنّ الحقيقة غير ذلك تماما. إنّه لحظة تكثّفت فيها دلالات تتقاطع خلالها آمال التونسيين في قضاءٍ هو ملجؤهم الأخير ولو على سبيل الافتراض، بآليات عمل مؤسسة أو مرفق هي في الأصل سلطة مستقلّة، فتحوّلت إلى وظيفة وفق مصطلحات الدستور الذي خطّه رئيس السلطة التنفيذية بيمينه. فكان النزول بالقضاء من منزلة السلطة إلى درك الوظيفة تعديلا للُّغَة التي نتخاطب بها، وللمصطلحات التي من خلالها نفكّر وتتشكّل طرق إدراكنا لواقعنا، وبها نضبط سبل التعاطي معه.
غدا الحكم القضائي حديث وكالات الأنباء العالمية والقنوات التلفزيونية ذات الإشعاع والتأثير، وغيرها من وسائل الاتّصال والوصل بين مصادر المعلومات ومستهلكيها الذين يحوّلون الخبر الخام إلى طبخةٍ من الأحكام والأوصاف الواصمة في الأغلب الأعمّ لمن يعتدي على ما اكتنزوه من قيم ومعايير. ولن يتوانى هذا المستهلك في أن يخدش وجه من يعتبره معتديا على المعايير والقيم التي يؤمن بها، وذلك بغضّ النظر عن الشخص وصفته والدولة ومكانتها. فلا نستغرب ويلات حصائد أحكامنا القضائية على سمعة البلاد. تلك سُنّة العالم المفتوح منزوع الحدود ومُنْتَهَك السيادة بفعل العصر والتكنولوجيا.

من التدوينات إلى الإعدام

لن نجد أفضل من الأستاذ أسامة بوثلجة لفهم الوقائع، فهو محامي المتّهم المحكوم بالإعدام نظير فعله المتمثّل في مشاركة عدد من التدوينات المعتبَرَة مسيئة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد وتضمّنها ما كيّفه القضاء دعوةً للتباغض وحملا للسكان للاعتداء على بعضهم البعض ومحاولةً لتبديل هيئة الدولة.
فقد روى بوثلجة سواء على صفحته بمنصة التواصل فيسبوك أو خلال ظهوره في وسائل إعلام تونسية خاصة وأجنبية أنّ الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بنابل قضت ابتدائيا حضوريا بإعدام منوّبه الموقوف منذ 22 جانفي 2024 من أجل منشورات نشرها على فيسبوك والتي تم اعتبار أنها تشكّل 3 جرائم أدانته المحكمة من أجلها كلّها واعتبارها متواردة وهي التالية:
 الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي، وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، وتعمّد استعمال أنظمة معلومات لنشر واشاعة أخبار ووثائق مصطنعة ومزورة وبيانات تتضمن معطيات شخصية ونسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعته والإضرار به ماديا ومعنويا والتحريض على الاعتداء عليه والحث على خطاب الكراهية وكان الشخص المستهدف موظفا عموميا.
والمعنيّ بالحكم (المواطن أو المتّهم أو المدان ابتدائيا)يبلغ من العمر 51 سنة. وهو عامل يومي وظروفه الاجتماعية صعبة ويعاني من عجز بدني مستمر نتيجة حادث شغل تعرض له سنة 2004. وذكر بوثلجة أنّ مستواه التعليمي جدّ محدود (الثانية ثانوي قديم أي ما يعادل الثامنة أساسي).
كما أوضح أنّ أغلب المنشورات قاسمها من صفحات أخرى والتفاعلات معها ضعيفة جدا بل إنّ بعض المنشورات لم يتم التفاعل معها أصلا. وقد برَّر المعنيّ منشوراته برغبته في لفت نظر السلطات لوضعيته الاجتماعية وطلب العفو ومراعاة ظروفه الصحية والنفسية.
ليس من مشمولاتنا ولا اختصاصنا الغوص في تفاصيل القضية بالمعنى التقني للكلمة، فما يهمنا هو ملابساتها ودلالاتها في علاقة بالشأن القضائي وآليات إدارته، وانعكاس مثل هذا الأحكام على ثقة المواطن في هذه السلطة التي تحوّلت إلى وظيفة، بالإضافة إلى استتباعات ما حدث على صورة البلاد قبل النظام أو المنظومة الحاكمة.

نظرية التآمر كنموذج تفسيري

سارع المرحّبون بتحويل القضاء من سلطة مستقلّة إلى وظيفة والصامتون على عدم تركيز المجلس الأعلى للقضاء إلى الاستنجاد بنظرية التآمر كنموذج تفسيري لما حدث وارتقى إلى مستوى “الفضيحة سياسيا”. فمن أصدر الحكم القضائي غير المسبوق قاضٍ أراد تشويه مسار البناء والتشييد وتوريطه محليّا ودوليا.
إنّ الحكم الصادر عن ابتدائية نابل بهذا المعنى المتداول لدى مساندي منظومة “حرب التحرير بمعاركها المتعدّدة وجبهاتها المختلفة”، من صنع أيادٍ تعمل على عرقلة المنظومة الحاكمة بفضل تغلغلها في مختلف مفاصل الدولة ومنها القضاء.
وبغضّ النظر عن مدى معقولية هذا التفسير أو عن وجود أدلة تؤكد هذا الافتراض التفسيري من عدمه، فإنّ قولهم يؤكّد أنّ هذا الحكم القضائي غير معقول وغير مقبول وغير عادل بمعنى أنه لا يوجد تناسب بين الفعل والقرار القضائي.
لكن تنبغي الإشارة إلى أنّ التفسير التآمري يتضمّن مقولات ينبغي الوقوف عندها. من ذلك أنّ هذا القرار القضائي غير المسبوق قرار فردي لقاضٍ “قد يكون مندسًّا” وتقف خلفه جمعية القضاة التونسيين التي أعلنت موقفها المعارض لسياسة نظام الاستنثاء وما أسمته بتدجين القضاء وضرب المعايير الدولية والدستورية والقانونية في تسييره.
والعنصر الثاني الثاوي في ثنايا التفسير التآمري هو فعل فردي أي لقاضٍ ينبغي محاسبته عمّا أتاه في حقّ القضاء وفي حقّ تونس وكذلك في حقّ رئيس الجمهورية. فجلّ وكالات الأنباء العالمية ربطت بين الإعدام والقول الموحش في حقّ الرئيس قيس سعيّد، وفي ذلك مسّ من صورته ووصم له بأنّه يتحكّم في القضاء ويصفّي المعارضين من خلاله. أي أنه حوّل السلطة القضائية ليس إلى وظيفة فقط، وإنّما كذلك إلى أداة لتصفية الخصوم وإعادة هندسة المشهد السياسي تمهيدا لإرساء منظومته التي تجلّت معالمها مع غروب شمس الخامس والعشرين من جويلية 2021.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ بعضا من المساندين لمسار التشييد ومنظومة التنسيقيات وحرب التحرير بجبهاتها المختلفة، تنادوا منذ تمّ نشر الخبر للدفاع عن الحكم القضائي بحجة الإرهاب والدعوة إلى الاحتراب وتشويه سمعة رئيس الجمهورية. لكنّ تسارع وتيرة الكشف عن الملابسات جعلت تفسيرهم يلقى نفس مصير زعمهم أنّ استهداف الكيان الصهيوني لأسطول الصمود بميناء سيدي سعيد لم يكن أكثر من آثار نيران اللحم المشوي والخمر أو شرارة أصابت سترات.

في المسؤولية السياسية لسابقة قضائية

لا تصمد نظرية المؤامرة كنموذج تفسيري تعتمد الشعبوية عموما أمام الوقائع. فالنطق بقرار قضائي مضمونه الإعدام يتطلّب في الحد الأدنى المرور عبر عشرة قضاة بالتمام والكمال. وهذا لا يحتاج إلى دليل وإنّما يتطلب فقط محو أمية قانونية. فأهل الذكر تدريسا ومهنيّا يعتبرون المرور عبر مسار متعدد المراحل من البديهيات. دون أن ننسى إمكانية نظر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في الملف ثم التخلي عنه مما يرفع عدد الناظرين فيه من حاملي صفة القاضي.
فهذه المعلومة فقط كافية لإسقاط نظرية التآمر من أسسها، ليسقط صاروخ الاتّهام في قاعدته لحظة محاولة الإطلاق (المعجم الحربي غدا وسيلة تواصل شبه رسمية). ويمكن أن نورد سلسلة من المعطيات التي تعضد تعدّد القضاة من ذلك تركيبة دائرة الاتهام أو تركيبة الهيئة التي أصدرت الحكم (خمسة قضاة).
تتجاوز سابقة “تدوينات الإعدام” مقولة التآمر أو تعليق الفضيحة على شمّاعة قاضٍ أساء تطبيق القانون أو عمل لحساب طرف سياسي ضد منظومة الحكم. إنّها تُعبّر عن أزمة حقيقية تعيشها تونس اليوم وهنا. أزمة سياسية عامة من أضلعها الوضع القضائي سواء كان سلطةً أو وظيفةً.
سؤال مركزي ينبغي الإجابة عنه باعتباره مدخلا لتفكيك هذه المسألة وغيرها. ويتمثّل هذا السؤال في: هل أنّ إدارة الوظيفة القضائية اليوم وفق الدستور الجاري به العمل أم لا؟ وللتأكيد نحن نتحدث عن دستور 2022 الذي صاغه رئيس الجمهورية بيمينه وأقسم عليه قبل سنة من الآن لتدشين عهدته الثانية.
الإجابة لا يمكن أن تكون إلّا بالسلب. فالدستور يتحدّث عن مجلس أعلى للقضاء بأقضيته الثلاثة باعتباره المسؤول عن إدارة الشأن القضائي بمختلف مستوياته، لكن ما نراه هو عكس ذلك تماما حيث غدا الأمر بيدٍ سياسية وإدارية.
ويمنح الدستور رئيس الجمهورية صلاحية تسمية القضاة بعد ترشيح المجلس، كما ينص على ضرورة إرسائه بقانون خاصة وأنّ تركيبة المجلس بالصفات وليس بالانتخاب. غير أنّه بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على تفعيل الدستور لم يتمّ إرساء المجلس بما هو عنوان للفصل بين السلطتين (الوظيفتين) التشريعية والتنفيذية وبما هو أحد شروط استقلالية القضاء.
وعليه فإنّ الحديث عن إخلالات في التعيينات أو الممارسات تتحمّلها -سياسيا- الجهة المقصّرة في تفعيل الدستور وفي توفير شروط إمكان استقلالية القضاء بعيدا عن واقع التعيين والنقل بالمذكرات وغير ذلك مما تفصّله المنظمات المهنية والحقوقية.
وفي السياق ذاته تتحمّل السلطة السياسية والوظيفة التشريعية مسؤولية عدم تركيز المحكمة الدستورية صاحبة صلاحية النظر في مدى دستورية القوانين وملاءمتها للمعايير الدولية. والكل يعلم أنّ إرساءها لا يتطلّب إلّا عددا من التعيينات ونص قانوني. فالإشكال في الإرادة والعزم.
إنّ القرار القضائي غير المسبوق لا يكشف فقط أزمة الوظيفة القضائية وإنّما يكشف عن أزمة أكبر وأعمق. فلتتّجه السلطة التنفيذية نحو تفعيل فصول كتبتها بيمينها، وفي ذلك التفعيل سبيل لتحسين الصورة التي لحقها ما لحقها بسبب حكم جاء في سياق يختلط في حابل التآمر بنابل الحديث عن وضع قضائي يشكو التحوّل إلى وظيفة بل إلى أداة.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *