تونس

بين خيام المهاجرين في أحواز صفاقس.. مأساة تحجبها حروب الزوارق ومخاوف التوطين

وجدي بن مسعود

استوقفني عدد من الأطفال بصدد خوض مباراة حماسية في كرة القدم بإحدى الساحات الترابية المحاذية للمخيم، كان صوت جلبتهم وصراخهم وضحكاتهم المرحة، يصنع مشهدا سرياليا محملا بالتناقض مع واقعهم المرير، مجرد خطوات بسيطة تفصل ما بين عالمين، الأمل والتمسك بخيوط رقيقة من السعادة على بساطتها، ومأساة إنسانية يحدثك “المخيم الفوضوي” القائم داخل غابات الزيتون عن بعض فصولها وتفاصيلها.

مع قيامي بالتقاط بعض الصور التوثيقية، بدأ الأطفال في التجمع من حولي، والتمعت ابتساماتهم العفوية أمام الكاميرا، مرفقة بتساؤلات عن هذا “الغريب” الذي تجرأ على اقتحام عالمهم وخرق أسوار العزلة المحيطة بهم، والتي لا يقطعها عادة سوى بعض المتطوعين أو نشطاء المجتمع المدني بالمنطقة.

مشهدية باكية        

تطالعك مشهدية مزرية دامعة قاسية وصادمة في لحظتها الأولى، حتى يخيل لك أنك داخل تجمع عشوائي للاجئين من الصومال أو الكونغو أو رواندا، زمن الصراعات العرقية والحروب الأهلية قبل عقود خلت.

“أشباه خيام” و”مساكن مؤقتة” من بقايا البلاستيك، وبعض الحجارة والألواح الخشبية والقصدير، لا تكاد تحمي من يأوي إليها من قر البرد وقيض الحرارة، يفوح من أغلبها خليط من العفونة والروائح القوية، فيما يتناهى إلى سمعك خليط من الأحاديث المختلفة التي يرطن بها هؤلاء اللاجئون بلهجات مختلفة ما بين الفرنسية والإنجليزية، على اختلاف أصولهم والبلدان التي قدموا منها.

صنع هؤلاء المهاجرون من المربع الذي يأويهم بين أشجار الزيتون، واقعا من “اللجوء المؤقت”، على غرار آلاف من أمثالهم الذين يتوزعون على طول بلدات شمال ولاية صفاقس، من “العامرة” إلى “جبناينة”، وصولا إلى “الحزق” و”اللوزة”، فتعايشوا معه على مدار شهور طويلة، وتكيفوا مع فقدان أبسط المرافق الحياتية، في انتظار ساعة الفرج التي قد لا تأتي، يقضون سحابة يومهم حول مرابطهم فرادى وجماعات في أحاديث طويلة عمن سبقوهم إلى حلم الضفة الأخرى من المتوسط، وذكريات من رحلوا في رحلات قوارب الموت،  ويتدبرون قوت يومهم، بوسائل مختلفة، من المساعدات التي يجود بها بعض المحسنين ومنظمات المجتمع المدني، أو عبر التسول، فضلا عن المساعدات المالية التي يتلقونها عبر حوالات بريدية يقول بعض الناشطين والمصادر المحلية ممن تحدثنا إليهم، إن أغلبها “مرسلة من رفاقهم الذين سبقوهم ونجحوا في العبور  إلى البر الإيطالي”، وتلك حكاية أخرى.

“الخيمة الوطن”

لا أدري لِم استحضرت وأنا أحث الخطى باتجاه سكان المخيم، عبارة الأديب السوري الكبير حنا مينا عن “الخيمة الوطن”، فهؤلاء القادمون من جنوب الصحراء وتمكنوا من عبور الحدود التونسية قدوما من ليبيا أو الجزائر وفق روايات أغلب من تحدثنا إليهم، باتت خيامهم أكثر من مجرد مأوى، خاصة لمن تقطعت بهم السبل وطال مقامهم ومكوثهم بين ظهراننا، حتى صارت “وطنا قسريا”، يختزل  أحلامهم ورحلتهم وآمالهم في حياة أفضل، بعيدا عن الفقر والمجاعة التي تخيم على الأقطار التي قدموا منها.

 منفردا تقدمت إلى امرأتين وشاب كانوا يجلسون أمام خيمة عشوائية، بعد أن اعتذر دليلي وهو من نشطاء المجتمع المدني بجبنيانة عن مرافقتي إلى داخل الغابة حيث مربعهم، تحسبا من تعرضه لفصول من المضايقات الناتجة عن مرافقته لبعض “الصحفيين الفضوليين” من أمثالي، والحديث إلى وسائل الإعلام، حيث بات هذا الأمر يثير حساسية واسعة بين سكان المنطقة لاعتبارات مختلفة. اتفقنا على أن يتصل بي كل 10 دقائق للاطمئنان، إذ لم تكن ردة فعل تلك المجموعة من المهاجرين مأمونة العواقب.

في مواجهة الغاضبين

لم يكن الحديث إليهم معقدا، كانت ردة فعلهم هادئة في البداية، رغم تأكدي من أنني أول صحفي يتمكن من الوصول إلى هذا المربع الذي يتجمعون عنده، دفعني الحذر الفطري إلى محاولة توضيح اهتمامي بأوضاعهم ومعاناتهم، في محاولة لإقناع بعضهم بالحديث أمام الكاميرا.

تمكنت من التسجيل مع لاجئين اثنين عن ظروف إقامتهما بالمكان، وكيفية وصولهما إلى صفاقس، وكنت أجهز لمزيد الأسئلة عندما بدأت بعض الأصوات الغاضبة والمحتجة تتعالى من الجانب الآخر من المخيم، قبل أن يبرز لي أحدهم قائلا بالفرنسية: أنت من سمح لك بالتصوير، هل نبدو لك مثل حيوانات؟

بدأت الأجواء في التوتر، ومع تصاعد نبرة النقاشات وموجة الغاضبين من وجودي بالمكان، كانت أعظم مخاوفي تتحقق، منبئة بإمكانية انفلات الوضع وحدوث ما لا تحمد عقباه..

الحذر سيد الموقف

في الطريق إلى منطقة العامرة، كانت الغابات والحقول الفلاحية منتعشة بفضل موجة الأمطار الأخيرة التي تهاطلت بولاية صفاقس وعموم الجنوب التونسي، وعلى نقيضها بدت أغلب الوجوه كئيبة جافة، وأحاديث الرجال “جرداء”.

يخيم مناخ من الحذر على شوارع  العامرة، فأي وجوه غريبة عن المكان باتت ترصد، وكل حركة مهما بدت طبيعية فإنها بحساب، وحتى بعض الأسئلة العادية التي قد يطرحها عليك البعض من باب الفضول لا بد أن تتحسب من عواقبها، فهذه المدينة الهادئة التي كان يرتزق أغلب أبنائها من العمل في الفلاحة والبحر، صارت أجواؤها أشبه بالمعابر الحدودية التي ينتشر فيها المقامرون والمغامرون والمهربون ومنظمو رحلات الهجرة غير النظامية.

 “هؤلاء المهاجرون أنقذوا موسم حصاد الزيتون في الأشهر الماضية، في ظل نقص العمالة المحلية الفلاحية، لكنهم على الرغم من ذلك أصبحوا عبئا بشريا على جبنيانة والعامرة وباقي المناطق المجاورة حيث ينتشرون بالآلاف”، كما “يستنزفون جهود المجتمع المدني، وإمكانيات السلطات المحلية والإدارية والطبية والأمنية، وغيرها”.

هكذا حدثني “و.د”، أحد الناشطين المدنيين، مشددا على أن الوضع بالمنطقة بات “كارثيا على جميع المستويات”، في ظل معاناة مختلف الأطراف، سواء المواطنين، أو المهاجرين المنتشرين في المخيمات والمربعات العشوائية بين الغابات وحول التجمعات السكنية المحلية ببعض البلدات الصغيرة، فضلا عن الأجهزة الأمنية التي تعمل على مدار الساعة لتأمين الوضع، ومراقبة الشواطئ وملاحقة مراكب الهجرة غير النظامية.

يقدر عدد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء المنتشرين بأحواز ولاية صفاقس، بحوالي 25 ألف شخص، وفق بعض المصادر المحلية، وهو رقم ضخم يتجاوز قدرات هذه المناطق، ويفرض ضغطا على مواردها، كما خلق صعوبات إضافية للمتساكنين، نتيجة تفاقم مشكلة نقص المواد الأساسية والمدعمة، بما في ذلك الخبز.

وفي ظل منعهم من العمل، ومحدودية مواطن الشغل، يعتمد السواد الأعظم من المهاجرين من جنوب الصحراء، على المساعدات الإنسانية التي توفرها بعض المنظمات على غرار الهلال الأحمر التونسي، الذي يقدم إليهم الطعام وبعض الملابس والأغطية، فيما أصبح التسول ظاهرة منتشرة في مختلف الأرجاء.

“المستشفى المحلي يعاني بدوره من ضغط شديد، فعند وقوع حوادث في البحر أو خارجه، تتراكم حالات الإصابة والوفيات بالعشرات، بشكل يفوق قدرته الاستيعابية، وإمكانيات الطواقم الطبية”، يضيف محدثي، مشيرا إلى أن البلديات تواجه مشاكل بسبب ضعف تجهيزاتها التي تقتصر على سيارة واحدة، صارت تقوم بنقل جثامين الضحايا من صفاقس وإليها.

“حرب الزوارق”   

“حتى السير على الشاطئ تحول إلى أمر محفوف بالمخاطر، بسبب جثث الغرقى التي يقذف بها البحر بشكل شبه يومي، فضلا عن الحملات الأمنية المستمرة التي تشتبه في كل من يوجد هناك، تحسبا من أن يكون عضوا في عصابات تهريب البشر”، يضيف “و.د”، مشيرا من طرف خفي إلى أن الحضور الأمني لا يقتصر على الحرس الوطني والبحري، بل يشمل أجهزة ومجالات أخرى في العمل الاستخباراتي ومكافحة الجريمة المنظمة، وملاحقة عصابات المهربين والورشات السرية لتصنيع الزوارق.

مع اقتراب أواخر فصل الربيع، الذي يترافق مع تحسن الأجواء المناخية وارتفاع درجات الحرارة، يتجدد “مسلسل المعاناة”، حيث تتصاعد أدفاق الوافدين من المهاجرين من مختلف المدن باتجاه أحواز ولاية صفاقس، بحثا عن مكان على رحلات الهجرة السرية، ولتنطلق معها عمليات الكر والفر والملاحقات الأمنية، وفق وصف محدثنا.

وتابع قائلا: “خلال هذه الفترة تسيطر حالة من التجند الكامل على جميع المستويات، الأجهزة الأمنية والسلطات المحلية، الحماية المدنية والمستشفى المحلي، وحتى الصيادين يتجندون بدورهم، حيث ساهموا في إنقاذ العشرات ممن غرقت مراكبهم في عرض البحر.”

ويجمع بعض من تحدثنا إليهم، من الناشطين ووجوه المجتمع المدني، على أن التعاطف الذي يحظى به المهاجرون في أوساط المتساكنين، تقابله تشكيات متصاعدة، وحالة من الاستياء والاحتقان الشعبي المتزايد، والتي ترفض أي محاولة لتوطنيهم، وتطالب بحل هذه المعضلة ومعالجتها بشكل جذري، من خلال إجلائهم.

ويضيف و.د في هذا السياق: “لا بد من التنسيق مع الهيئات الإنسانية الدولية على غرار منظمة الهجرة لتوسيع برامج العودة الطوعية لفائدتهم، وإغلاق الحدود التونسية لمنع تدفق أعداد جديدة وتسللها إلى المنطقة”.