بنزرت… المرفأ التونسي الذي احتضن الثورة الفلسطينية


وجدي بن مسعود

في كتابه “يوميات حامل للميكروفون”، يستحضر الإعلامي التونسي ماهر عبدالرحمان قصّة الصبيّ الفلسطيني “يوسف”، من بين عشرات المشاهد التي ظلّت محفورة بذاكرته عن الاستقبال الشعبي الحاشد، الذي خصّ به التونسيون أبطال الثورة الفلسطينية ومقاتلي منظمة التحرير، لدى وصولهم إلى ميناء بنزرت في مثل هذا اليوم من عام 1982 قادمين من بيروت.

كان ماهر عبدالرحمان يؤمّن نقلا مباشرا عبر التلفزيون التونسي من ميناء عاصمة الشمال، الذي غصّ بآلاف التونسيين الذين تجمّعوا ترحيبا بإخوانهم، عندما شاهد “يوسف” يتقدّم النازلين من السفينة.

كان “يوسف” صبيّا فلسطينيا جميل الملامح، تناقلت صورته وكالات الأنباء خلال مغادرته لبنان، متحدّثا بعزم الرجال عن معركة بيروت وصمود مقاتلي منظّمة التحرير في مواجهة الآلة الحربية الصهيونية، فظلّت صورته عالقة في ذهن كل من شاهدها.

عندما أطلّ يوسف من السفينة تشنّج صوت ماهر عبدالرحمان حدّ التأثّر، وهو يذكّر المشاهدين بقصّته حتى غلبته الدموع على أمره، وبكى من ورائه آلاف التونسيين في بيوتهم تفاعلا.

تترجم هذه القصّة عمق الارتباط العفوي الساكن في وجدان التونسيين بالقضية الفلسطينية، والتي ترسّخت بقيمها وبطولاتها في أذهانهم، منذ أن تطوّع آلاف منهم للقتال في حرب 1948، وباتو يتوارثون حبّها كابرا بعد كابرا.

من بيروت إلى تونس

بعد حصار صهيوني استمرّ عدّة أشهر وسط عجز عربي رسمي وخذلان دولي، ودّعت العاصمة اللبنانية المقاتلين الفلسطينيين في مواكب عفوية مهيبة، بعد أن سطّروا أعظم ملاحم الصمود والفداء صحبة رفاق الدم والسلاح من الفصائل الوطنية اللبنانية، وفي مواجهة عدوّ لم توقّر انتهاكاته البشر والشجر والحجر.

شيّع اللبنانيون بالزغاريد والرصاص وحبّات الأرز، التي كانت النساء يلقين بها من الشرفات مواكب المقاتلين إلى مرفإ عاصمتهم المحاصرة، مودّعين جزءا عزيزا من تاريخهم وهويّتهم، ورمزا لانتمائهم العربي وقضيتهم المركزية، والتي بقدر ما كان احتضانها عنوان شرف وعزّ، فإنّها مثّلت منطلق الانقسام والاقتتال الداخلي منذ العام 1975.

الباخرة سول

صباح الثامن والعشرين من أوت/أغسطس 1982، لم يكن عاديا في مدينة بنزرت التونسية المطلّة على الضفاف الشمالية للمتوسّط، فوسط انتشار أمني وعسكري كثيف، تقاطر الآلاف من أبناء المدينة لاستقبال السفينة القبرصية “سول فيرين” التي كانت تقلّ ما يزيد عن ألف من المقاتلين الفلسطينيين، وعددا من قيادات الثورة.

يقول بعض من شهدوا ذلك اليوم إنّ بنزرت، التي تزيّنت قبل ما يزيد عن 20 عاما ببطولات الجلاء، وشهدت على مغادرة آخر جندي فرنسي أرض تونس، قُدّر لها أن تتّشح بتاج آخر من الفخر والأمجاد عندما وطأ أرضها الفدائيون والمقاومون الفلسطينيون.

بدت لحظات الاستقبال ملحمية عفوية، ارتفعت فيها رايات فلسطين على سواعد النساء والرجال والأطفال، مكوّنين جسرا بشريا ممتدّا من حيفا ويافا والجليل والقدس إلى بنزرت والقيروان وقرطاج.

قرار بورقيبة باحتضان الثورة

كان الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وزوجته وسيلة، في طليعة المستقبلين للفدائيين الذين صمدوا في بيروت، وتصدّوا ببطولات منقطعة النظير إلى الاجتياح الصهيوني.

قرار بورقيبة باستقبال منظّمة التحرير الفلسطينية وقياداتها، شكّل موقفا إنسانيا وسياسيا ستذكره الأجيال الفلسطينية مغمّسا بالودّ لتونس، ولشعبها الذي استضاف ثورتهم وسط موجة من الرفض التي خيّمت على مواقف أقطار عربية أخرى، بات ذكر فلسطين وثورتها مصدر إحراج لها.

لم تخفّف تونس وطأة الإحساس بالغربة عن الفلسطينيين فحسب، “بل حمتهم كذلك من الانهيار النفسي، وأعادت لهم الأمل”، على حدّ قول محمود درويش.

سنوات تونس مثّلت مرحلة انتقالية في مسار الثورة الفلسطينية سياسيا، فيما احتضنها التونسيون بقلوبهم، وهو ما يختزله درويش في قوله: “كانت تونس البلد الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين بل مودعّين بالزهور”، وعلى عهد مع شعبها باللقاء على الأرض المحرّرة وصلاة جامعة في المسجد الأقصى.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *