أثار الرئيس التونسي قيس سعيّد جدلا بعد استعانته بالشاعرين الأمويين جرير والفرزدق في مواجهة “جيل زد”.
وخلال لقائه، مساء أول أمس الثلاثاء، برئيس الحكومة سارة الزعفراني، تطرق سعيّد إلى الاحتجاجات الحالية في مدينة قابس (جنوب شرق تونس) والتي يُطالب سكانها بإغلاق الوحدات الملوثة في المجمع الكيميائي.
أهم الأخبار الآن:
ففي البيت الأول الذي استشهد به الرئيس قيس سعيّد، وهو: “زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا.. أبشر بطول سلامة يا مربع“.
وهو يتنزّل في باب الهجاء الذي قاله جرير ساخرا من الفرزدق وتعريضا به وتشهيرا بأنه يقول ما لا يفعل.
والمعنى أنّ جرير بلغه أنّ الفرزدق توعّد شخصا يقال له مربعا بأنه سيقتله بسبب خصومة بينهما، فعلّق قائلا ما معناه هنيئا لك يا مربع ستكون طويل العمر، لأنك من يتوّعدك جبان وظاهرة صوتية.
ويبدو أنّ استشهاد الرئيس سعيّد بالبيت يتنزّل في سياق توجيه خطاب ضمني إلى من يعتبرهم مناوئين ومتآمرين بأنهم لن يستطيعوا توظيف حراك قابس لتأجيج الوضع لغايات سياسية وهم مجرد ظواهر صوتية.
أما البيت الثاني، فيتنزّل في سياق الرد على المتآمرين كذلك، والذي يقول: “لما وضعت على الفرزدق ميسمي.. وضع البعيت جدعت أنف الأخطل“.
وجرير يقصد هنا أنه هجا بشعره الفرزدق حتى أذله وأصبح موسوما مثل الأغنام التي توسم بالنار على جلدها لتمييزها.
وعندما أذلّ الفرزدق جدع أنف منافس آخر من الشعراء وهو الأخطل.
والأرجح أنّ الرئيس التونسي يُشير هنا إلى أنّ المتآمرين موسمون من وجهة نظره بالخيانة والارتهان للخارج، ولكن حراك قابس السلمي جدع أنوفهم. فمن يكون الفرزدق؟
الفرزدق.. شاعر الصدام والكرامة
يقول تاريخ الشعر العربي، أنّه قلّ أن وُجد شاعر جمع في حياته كلّ ما يجعل من القصيدة سلاحًا وسيرةً في آنٍ واحد. والفرزدق هو ذلك الاستثناء الصارخ، الشاعر الذي جعل من اللغة معركة، ومن البيت الشعري ميدانًا للفخر والتمرّد والنجاة.
اسمه همّام بن غالب التميمي، وُلد في البصرة سنة 641م، في بيتٍ من بيوت الشرف والأنساب. لكن نسبه لم يكن كافيًا ليصنع مجده، فاختار سلاحًا آخر: الشعر.
معارك النقائض: سيوف من كلام
عرف الفرزدق عصرًا استبدل فيه الناس السيوف بالألسن، وكانت القصيدة ميدانًا للهيبة والانتقام والسمعة.
في هذا العصر، ولد ما يُعرف بـ”النقائض”، تلك المبارزات الشعرية التي خاضها الفرزدق مع جرير والأخطل، واستمرّت عقودًا من الزمن.
لم تكن النقائض مجرد ترفٍ أدبي أو تسلية، بل كانت حروبًا رمزية بين القبائل والتيارات السياسية، حيث كان كل بيت يُلقى في مجلس الخليفة أو الوالي يُعدّ معركة حقيقية على المكانة والكرامة.
في تلك المواجهات، كان الفرزدق يبرز كمحارب لغويّ لا يرحم، يُتقن الطعنة اللفظية، ويجعل من هجائه نصلًا لامعًا. لغته صلبة، جزلة، ممتدّة الجذور في البادية، حتى أنّ جرير نفسه -خصمه اللدود- قال عنه: “إنه أقدر الناس على قول الشعر، غير أنه لا يحسن أن يقول حسنًا“.
وهي شهادة خصمٍ يعرف تمامًا قوة غريمه، ويخشى وقع كلماته.
كانت خصومة الفرزدق وجرير أشبه بمسرح مفتوح أمام الناس والسلطة، كل قبيلة تنتظر أن ينتصر شاعرها ليحفظ ماء وجهها.
ووراء تلك المعارك اللغوية، كان يُدار صراع أعمق حول هوية الشعر العربي في زمن بدأ يخرج من عباءة الجاهلية نحو الإسلام، ومن الصحراء نحو المدينة.
الفرزدق والسجن: الشاعر الذي لم يرضخ
لم يكن الفرزدق شاعرًا للبلاط الأموي، بل كان شاعرًا متمرّدًا على النظام دون أن يخرج من لغته.
ولسانه، الذي كان سبب مجده، صار أيضًا سبب نكبته. دخل السجن أكثر من مرة بسبب جرأته، سواء في هجائه أو في قوله الصريح للحقّ.
أشهر تلك الحوادث حين مدح الإمام زين العابدين علي بن الحسين أمام الخليفة هشام بن عبد الملك في الحرم المكي. أراد هشام أن يتجاهل الإمام، فلمّا رأى الناس يتزاحمون حوله، غضب. عندها أنشد الفرزدق قصيدته الخالدة: “هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ.. والبيتُ يعرفُهُ والحلُّ والحرمُ“.
تلك القصيدة لم تكن مدحًا فحسب، بل إعلان موقف. جعلت الخليفة يأمر بسجن الفرزدق في عسفان، بين مكة والمدينة. وفي السجن، استمرّ في كتابة الشعر، حتى قيل إن سجنه لم يُطفئ غضبه بل زاده توهّجًا.
خرج أكثر صلابة، كمن أدرك أنّ الحرية الحقيقية في الكلمة لا في الجسد.
شاعر خدم اللغة وخاصم الناس
تميّز الفرزدق بفرادة قلّ نظيرها. كان صوتًا قبليًا قويًا، لكنه أيضًا إنسانًا عصريًا بمعنى أنه أدرك أنّ الكلمة يُمكن أن تكون موقفًا فكريًا لا نسبًا فقط.
شعره زاخر بالتحدي والأنفة، وبنوع من الكرامة الصلبة التي لا تعرف المواربة.
لغته تشبهه: خشنة الملمس، لكنها صادقة. وكان هو أحد حُرّاس العربية الكبار، حتى صار سيبويه والأصمعي وغيرهما يستشهدون بأبياته في النحو واللغة.
لم يكن شاعرًا رقيقًا ولا عاشقًا ناعمًا كجرير، بل كان صوت الأرض الجافة، الصحراء المتكبّرة، واللسان الذي لا يُهادن. ومن هذه الصلابة جاء جماله؛ فهو شاعر لا يطلب الإعجاب، بل الاحترام.
بقي الفرزدق رمزًا للشاعر الذي يعيش على الحافة بين السلطة والشعب، بين المجد والخطر، بين الفخر والتمرّد. ومع أنه عاش في زمنٍ كانت القصيدة تُشترى بالذهب، فإنه لم يبع لسانه إلّا لما يراه حقًا.
هو الشاعر الذي قاوم الزمن بالهجاء، والسلطة بالبيت الشعري، والنسيان بالموقف.
وإذا كانت النقائض قد خمدت بموته، فإنّ أثرها بقي في الوعي العربي كمثال على أنّ الكلمة يُمكن أن تُقاتل، وتنتصر، وتُسجن.
لم يكن الفرزدق مجرّد شاعر هجاء؛ كان ضميرًا ساخرًا من الجبن والخضوع، ورجلًا آمن بأنّ اللغة تستطيع أن تحمي كرامة الإنسان.
حياته كانت سلسلة من التحديات، ومعاركه الشعرية كانت مختبرًا لصوتٍ فريدٍ لم يرض أن يكون تابعًا لأحد.
وحين نقرأه اليوم، نسمع في صدى أبياته صرير الزمن العربي القديم.. صوت شاعرٍ لا ينحني، يجرّ اللغة خلفه كما يُجرّ سيفٌ في ميدانٍ لا ينتهي.
فمن المنتصر هنا جرير أم الفرزدق؟


أضف تعليقا