رأي

إفريقيا تجافي الولايات المتحدة وترتمي في أحضان الشرق

محمد بشير ساسي
لم يكن ينقصُ إدارة جو بايدن ما أحدثته وما تزال الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة من رجات قويّة في منطقة الشرق الأوسط والعالم وكذلك توسّع رقعة تعقيدات النزاع الروسي – الأوكراني ومخاطره، حتى زاد “ملف النيجر” جرعة من المنغّصات بخصوص تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة غرب إفريقيا.
مبرّرات إنهاء الاتفاق
فبعد شهر تقريبا منذ قرار المجلس العسكري الحاكم في النيجر إنهاء “الاتفاق العسكري” -الموقّع مع الولايات المتحدة عام 2012- بشكل “فوري، انصاعت الإدارة الأمريكية للهيئة الحاكمة في البلد الإفريقي، بسحب قواتها البالغ قوامها حوالي ألف من الأفراد المدنيين والعسكريين بالإضافة إلى منشأتين عسكريتين أهمهما القاعدة الجوية 201 الموجودة بالقرب من أغاديس، وهي أساسية لعمليات المراقبة ومكافحة الإرهاب الأمريكية في النيجر وجارتها ليبيا.
فبين سطور البيان الصحفي الذي تلاه الناطق باسم المجلس العسكري يوم 16 مارس الماضي، وجّه العقيد أمادو عبد الرحمان انتقادات لاذعة إلى واشنطن و”إلى وجودها العسكري غير الشرعي” في البلاد، والذي كان نتيجة لاتفاق “تم فرضه” وكذلك تجريد أمريكا الشعب النيجري السيادي من حقه لاختيار شركائه وفق تقديره. وضمن هذا السياق عدّد الناطق باسم المجلس العسكري المبررات التي دفعت النيجر إلى اتّخاذ مثل هذه الخطوة، حيث يُمكن تحديدها كالآتي:
1- التعالي الدبلوماسي:
استفزت الزيارة الأخيرة للوفد الأمريكي إلى النيجر في الفترة ما بين 12 و13 و14 مارس 2024، المجلس العسكري الحاكم الذي رفض مقابلة رئيسة البعثة “مولي في” مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية، بسبب ما اعتبره سلوكا مشينا بعدم اتّباع الوفد الأميركي البروتوكول الدبلوماسي بإشعار السلطات في النيجر والإبلاغ عن تشكيل الوفد الزائر أو موعد وصوله أو جدول أعماله
2- التدخّل في الشأن السيادي:
بالإضافة إلى عدم احترام البروتوكول الدبلوماسي، تجاوز الوفد الأمريكي الخطوط الحمراء، حين اشترط استعادة العلاقات والمساعدات العسكرية الأمريكية للنيجر بسرعة تحديد جدول زمني للانتقال الديمقراطي وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية في البلاد، إلى جانب تحذير واشنطن العسكريين النيجريين من تعزيز العلاقات مع موسكو، وهو ما اعتبرته السلطات الحاكمة انتهاكا لسيادة النيجر التي يحقّ لها اختيار شركائها وتحديد مجالات شراكاتها معهم، بما في ذلك محاربة الإرهاب.
3- اتفاق اليورانيوم مع إيران
ادّعت واشنطن بتوصّل طهران إلى اتفاق مبدئي مع نيامي يسمح للجمهورية الإسلامية بالوصول إلى احتياطات اليورانيوم؛ وذلك في أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مع رئيس وزراء النيجر في جانفي 2024 بطهران، لا سيما أنّ النيجر تحتل المرتبة السابعة عالميّا في إنتاج اليورانيوم وفقا لبيانات عام 2022، بإنتاج يبلغ نحو 200 طن، وهو ما قد يعرّض النيجر لعقوبات دولية وأمريكية، بما يعزّز الضغوط والأعباء على النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في البلاد؛ الأمر الذي ربما يهدّد نفوذها الداخلي وبقاءها في الحكم بالبلاد.
4- التقارب مع روسيا
حاول المجلس العسكري الانتقالي في النيجر تخفيف حدة الضغوط والعقوبات الدولية والإقليمية التي أعقبت الانقلاب من خلال توسيع دائرة تحالفاته الدولية، ونسج علاقات وطيدة مع موسكو باعتبارها قوة فاعلة في السياق الإفريقي خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في المجال الأمني والدفاعي، وهو ما تجلّى في اتفاق الطرفين على التعاون الأمني والعسكري في جانفي 2024، في سبيل تحقيق الاستقرار الإقليمي في المنطقة، وهو ما دفع البعض إلى التكهّن باحتمال تورّط موسكو في هندسة قرار إلغاء اتفاق واشنطن ونيامي بهدف تقليص نفوذ الأولى في الساحل وغرب إفريقيا لحساب صعود الدور الروسي هناك.
5- العداء للغرب:
تزايدت مشاعر العداء للغرب بشكل متصاعد في حقبة المجلس العسكري في النيجر، إذ بات يُنظر إلى الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة بكونه مُجحفا فُرض بشكل أحادي من خلال مذكرة شفوية بسيطة في 6 جويلية 2012، وبالتالي أضحى من منظور حكومة النيجر غير قانوني وينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية وبدرجة أولى سيادة البلد الكاملة.
6- تثبيت السلطة:
يدرك المجلس العسكري في النجير أهمية تحييد الولايات المتحدة عن التدخّل في الشأن السياسي الداخلي بهدف الحفاظ على سلطته واستمراره في الحكم لسنوات مقبلة، بعيدا عن الضغوط الغربية في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا سيما أنّ اللقاءات الأمريكية الأخيرة مع مسؤولي البلاد لم تَخْلُ من الحديث عن مسار المجلس العسكري الحاكم خلال المرحلة المقبلة والدعوة إلى تحديد جدول زمني للانتخابات الرئاسية التي تضع نهاية للمرحلة الانتقالية في البلاد، التي ربما تستمر ثلاث سنوات قادمة وفقا لتصريحات السلطة الحاكمة هناك.
7- تعليق المساعدات:
دأبت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة على منح مئات ملايين الدولارات للنيجر ضمن برامج المساعدة الإنمائية لتعزيز الشراكة العسكرية معه، لكن بعد الإطاحة بنظام الرئيس محمد بازوم في 26 جويلية 2023 -رغم عدم تصنيفه علنا بوصفه انقلابا عسكريا- فقد قرّرت واشنطن تجميد المساعدات المالية التي تبلغ 260 مليون دولار، وباتت تلك المساعدات هي الأخرى معلّقة الآن بموجب المادة 7008 من قانون المخصّصات السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية.
كما قرّرت الولايات المتحدة الأمريكية تعليق جميع المساعدات المُقدَّمة إلى النيجر من خلال مؤسسة
    (The Millennium Corporation Challenge)التي تُعرف
بأنّها وكالة أمريكية تابعة للكونغرس الأمريكي، تُقدّم مساعدات خارجية إلى البلدان الفقيرة الملتزمة بالمعايير الديمقراطية.
خطوة منتظرة
في الواقع لم تكن الخطوة الأخيرة التي اتّخذها المجلس العسكري الانتقالي مفاجئة، بل ثمن من كان يتوقّعها حتى من داخل دوائر القرار في الولايات المتحدة على غرار النائب الجمهوري مات غايتس الذي صرّح لموقع إنترسبت: “على إدارة بايدن الاعتراف بأنّ خطتها في النيجر قد فشلت وعليها إعادة هذه القوات إلى الوطن على الفور.. إذا لم يكن هناك حلّ بين النيجر والولايات المتحدة قبل نهاية الشهر، فإنّ قواتنا ستكون في خطر داهم”.
ووفقا لتقرير النائب مات غايتس الذي نقله موقع “إنترسبت” الإخباري الأمريكي وبنيَ على أساس مقابلات مع عسكريين في النيجر فقد “تقطّعت بهم السبل وظيفيّا في الدولة التي تزداد عدائية لهم”، كما أنّهم ممنوعون من القيام بمهام أو العودة إلى ديارهم في نهاية انتشارهم المقرر، ولا يُسمح لأيّ رحلات جوية من النيجر بالدخول أو الخروج من البلاد لدعم جهود أو متطلّبات وزارة الدفاع”، كما أنّ “البريد والأغذية والمعدّات والإمدادات الطبية ممنوعة من الوصول إلى القاعدة الجوية 201″،  كذلك تم رفض بعض التصاريح الدبلوماسية للوصول إلى مدينة أغاديز.
ورغم حالة الجفاء، ما تزال الولايات المتحدة تواصل المشاورات مع النيجر لتقليل خسائرها في المنطقة وتجنّب مصير فرنسا التي طُرد سفيرها من نيامي في سبتمبر 2023 وأغلقت سفارتها وغادر جنودها البلاد، وذلك بعيد طرد كامل قواتها من مالي ثم من بوركينا فاسو، وتوجّه معظمهما إلى آخر معاقلها في تشاد.
وخلال الأيام الماضية، أعادت الولايات المتحدة إرسال وفد من البنتاغون والقيادة الأمريكية في إفريقيا إلى النيجر للمشاركة في مناقشات انسحاب منظّم لقواتها من هناك.
وفي نيامي أكّد بيان لوزير خارجية النيجر بكاري ياو سنغاريه، أنّ المحادثات التي جمعته مع كاثلين فيتزغيبون سفيرة الولايات المتحدة في نيامي حضرتها ماريا بارون مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو اس ايد)، وأعلنت خلالها اتفاقا جديدا مع النجير سيحلّ محلّ اتفاق سابق تنتهي مفاعيله في سبتمبر من العام الجاري 2024.
ثغرة كبيرة
منذ استلام إدارة جو بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض لم تكن الولايات المتحدة غافلة عن ملف النجير الحيوي وإفريقيا بشكل عام. فعلى إيقاع تزعزع النفوذ الفرنسي في القارة السمراء، حاولت واشنطن التعاملَ بحذر مع الواقع الجديد حفاظا على مصالحها، من خلال تجاوز سياسة الإهمال والتجاهل التي ميّزت سياسة سلفه دونالد ترامب تجاه القارة والذي قدّم وعودا براقة في مبادرة “ازدهار إفريقيا”، لكنه لم يلتزم بها على مستوى الممارسة.
ومن نتائج سياسة الإهمال تلك، تراجع النفوذ الأمريكي في القارة على أكثر من مستوى. دبلوماسيًّا، لم يزر ترامب القارة طوال فترة رئاسته، ولم يستقبل سوى ثلاثة من رؤسائها، وأهمل تعيين السفراء، في الوقت الذي وصفها بـ”القارة القذرة”.
عسكريًّا، عمل ترامب على الحدّ من الوجود العسكري الأمريكي في القارة السوداء، بل سحب قوات أمريكية من الصومال في جانفي 2021، كما حاول تخفيض التمويل الأمريكي لعمليات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي؛ أما على المستوى الاقتصادي، فقد تراجع حجم التبادل التجاري بين أمريكا وإفريقيا من 41 مليار دولار في 2018، بعدما كان 100 مليار دولار عام 2008، وانخفاض حجم الاستثمار الأمريكي المباشر في أفريقيا من 50.4 مليار دولار في عام 2017 إلى 43.2 مليار دولار  عام 2019، بانخفاض قدره 14%.
 لسدّ هذه الثغرة كثّفت الولايات المتحدة من زيارات بعثاتها للقارة الإفريقية التي بدأتها إدارة بايدن، عبر الجولات المتعدّدة لوزير الخارجية أنتوني بلينكين الذي زار كينيا ونيجيريا والسنغال في نوفمبر 2021، وزيارته المغرب والجزائر في مارس 2022، وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا في أوت 2022.
كما مثَّلت القمة الأمريكية – الإفريقية التي استضافتها الولايات المتحدة في الفترة من 13-15 ديسمبر 2022 -وهي القمة الثانية التي تُعقَد بين القادة من الجانبين بعد ثماني سنوات من القمة الأولى التي عقدت في عهد الرئيس أوباما عام 2014- اختبارا حقيقيّا لمدى فاعلية الاستراتيجية الأمريكية وجدواها تجاه القارة السمراء. وقد نصت مخرجات القمة على النقاط التالية:
– استثمار ما لا يقلّ عن 55 مليار دولار في القارة الإفريقية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، بما يخدم أجندة إفريقيا 2063.
– إنشاء منصب ممثل رئاسي لتنسيق الجهود بشأن تنفيذ مبادرات القمة من أجل تأكيد رغبة الولايات المتحدة في تفعيل مخرجاتها.
– توفير أكثر من 100 مليون دولار لتوسيع مبادرة القادة الأفارقة الشباب بهدف دعم الابتكار والتميّز للشباب الأفارقة، ودعم الولايات المتحدة للاتحاد الإفريقي للانضمام إلى مجموعة العشرين بصفتها عضوا دائما.
– التوقيع على مذكّرة تفاهم لإنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم باستثمارات تصل إلى حوالي 3.5 مليار دولار، وإعلان مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية عن استثمارات جديدة بقيمة 369 مليون دولار في جميع أنحاء إفريقيا في مجالات الأمن الغذائي والبنية التحتية للطاقة المتجدّدة والمشاريع الصحية.
– دعم مبادرة التحول الرقمي مع إفريقيا لتوسيع الوصول الرقمي ومحو الأمية عبر القارة من خلال استثمار أكثر من 350 مليون دولار.
– استثمار 1.3 مليار دولار سنويا في الفترة من 2022 إلى 2024 لسدّ الفجوة بين العاملين بقطاع الصحة في القارة.
– الإعلان عن شراكة أمريكية إفريقية استراتيجية للتحوّل إلى أنظمة غذائية مرنة وأسواق متنوعة لسلاسل التوريد.
– تخصيص مبلغ 2 مليار دولار من المساعدات الإنسانية الطارئة الجديدة لإفريقيا، وعن خطط الولايات المتحدة لتوفير أكثر من 150 مليون دولار في شكل تمويل جديد لمعالجة التكيّف مع المناخ وتحفيز الاستثمار في البنية التحتية للطاقة النظيفة في القارة.
قوى منافسة
يثبت الواقع الجديد والتحولات المتسارعة أنّ دائرة رفض الوجود الأمريكي في إفريقيا توسّعت كثيرا بالتزامن مع تضرّر صورة الولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى وهي تخسر معقلا مؤثّرا في غرب القارة السمراء، ولعل ما أحرج فرنسا أكثر من خروجها من مستعمراتها السابقة، ونهاية عصر “إفريقيا الفرنسية”، كما عبّر عن ذلك رئيسها إيمانويل ماكرون، وكذلك الولايات المتحدة التي تتعامل بارتباك مع هذا المجال الحيوي المتغيّر، هو دخول قوى عظمى على خط المنافسة وتزايد نفوذها مثل روسيا لملء الفراغ الأمني والعسكري مع حضور اقتصادي صيني وهندي وتركي فاعل ومكثف في القارة. وبذلك باتت إفريقيا في صلب مرحلة جديدة من الصراع العالمي على النفوذ.
لقد أتت التغيّرات الراهنة على مشهد النفوذ في القارة الإفريقية، لتعكس تحوّلا فارقا في مقاربة الدول الإفريقية لعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية حتّمتها عقود من الفشل الاقتصادي والتنموي والانخرام الأمني وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.
وانطلاقا من هذه المقاربة الجديدة، يمكن فهم انحسار النفوذ الغربي وتزايد نفوذ دول أخرى مثل روسيا والصين وتركيا، والتي لم تكن دولا استعمارية، فروسيا تعاود الدخول من بوابة علاقاتها التاريخية مع دول القارة، وتنفّذ الصين من واقع قوتها الاقتصادية والتكنولوجية وتتلاقى هذه الدول في مبدإ التعامل بندّية واحترام مع الدول الإفريقية وشعوبها.
ورغم ما يبدو أنّه استسلام فرنسي أمريكي للأمر الواقع في كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، يصعب تخلّي البلدان عن مواصلة صراع النفوذ في المنطقة الاستراتيجية الغنية بالثروات وترك الساحة كليّا لروسيا والصين، فالدولتان تملكان أوراقا رابحة وشراكات قوية في القارة ونفوذا اقتصاديا وأمنيا متراكما يصعب تجاوزه، لكن تأثيرات الدومينو في قارة تتغيّر تبدو كذلك قوية.
في نهاية المطاف تحيلنا خارطة النفوذ في القارة الإفريقة بكل أجنداتها وتعقيداتها بين القوى العظمى على أسئلة مهمة:
ما الفرص التي يحاول الحكام الأفارقة الجدد اقتناصها من خلال العمل على تغيير تحالفاتهم الدولية من الغرب للشرق، ومن فرنسا وأمريكا نحو روسيا والصين؟ وهل يرقبون فرصا بالإغراء التنموي والنهوض أم هي لعبة قوى دولية كانت فرنسا لعقود تستفرد بها وحانت لحظة التقاط خيوطها من قبل روسيا والصين اللتين دخلتا القارة منذ عقود، وكانتا تنتظران فرصتيهما في الدخول على خط هندسة السلطة في هذه البلدان لمزيد من خدمة مصالحهما؟
أيدرك العسكريون الأفارقة أنّهم كانوا عالقين في المصيدة الفرنسية الأوروبية والأمريكية، والآن بدأت المصائد الأخرى تشتغل، فخطف بريقها أبصارهم وهرعوا إليها دون أن يتبيّنوا معالم الانتقال ولم يدرسوا فرصه وتحدياته؟