عبدالسلام الزبيدي
أنْ تُفْصَل الفكرة عن صاحبها فتغدو ملكا لقارئها، مقولة مغرية لأنّها توحي بامتلاك ما ليس لك، وتفتح لك آفاقا للتفسير والفهم والتأويل قد ترتدُّ على صاحب “التمرين في مجال المؤرّخ المواطن”. أمّا إذا اعتصمنا بالتقديم والشرح واكتفينا بهما فقد “نسقط” في القراءة التقريضية، ونقع في فخّ تبنّي قوْل هو صنيعة كاتب متعدّد الصفات، فهو باحث ومدرّس جامعي ومتحزّب سابق وناشط سياسي ومدني الآن ومعارض للجمهورية التي لا يُبْنى عليها ولا معها ولا ضدّها.
لن نساير “الموضة السياسية” التونسية المائعة وغير الواثقة من نفسها القائلة بالطريق الثالثة، فسُبُل الكتابة تضيق أمامنا كضيق الخيارات في بلد الانقلابات الدستورية منذ سنة 1957. كلّ ما سيأتي في هذا المقال لن يكون أكثر من نُتف دون إشباع في مُنجز الدكتور المولدي ڤسّومي، منتخباتٌ من تكثيفاته، إشارات إلى جهده في توليد العبارات ومحاولة الارتقاء بها إلى مستوى المفاهيم، وتنبيهات إلى ما أراد أن يبعثه من رسائل للجامعي والسياسي في السلطة وخارجها وكذلك. ذلك هو أفقنا الذي نعلم أنّه منخفض.
أفندية الجامعة وعدم استشعار الخطر الداهم
“الجمهورية الجديدة والتأسيس الذي لا يُبنى عليه، تمرين في مجال المؤرّخ المواطن”، كتاب يمتدّ على 541 صفحة للجامعي التونسي المختّص في علم الاجتماع المولدي ڤسّومي. صادر عن دار الكتاب-تونس سنة 2025. ويتوزّع على مقدّمة وخاتمة وأربعة فصول، الأوّل “الاجتماع السياسي أمام العتبات المقدّسة والحوزات العلميّة”، والثاني “التاريخ السياسي الراهن بين أصول الكتابة وشروط القراءة”، والثالث “نظام الاستثناء على إيقاع السرديات المتسامية”، ليكون عنوان الفصل الرابع والأخير “الجمهورية الجديدة ونظام ما بعد الديمقراطية الرخوة”.
قبل أن يلج غمار “الجمهورية الجديدة” فتح ڤسّومي بوّابة الجامعة التونسية من زاوية اهتمامها بالراهن الذي تعيشه الدولة ومواطنيها. بالوسْع إجمال موقفه في كلمات معدودات من خلال التأليف، لكنّ نقل بعض ما قاله في بني مهنته يوصل إلى المطلوب وزيادة. من ذلك قوله “ما تواضع عليه “المؤرخون الأكاديميون/المحترفون” في الجامعات التونسية، يفيد اكتفاء المؤرخ بدوره المدرسي وبشكل وظيفي مقيّد بما حدّدته ظروف الحصول على شهادة تخطّي العتبة المقدّسة والالتحاق بالحوزة العلمية عن طريق الحصول على المشيخة في مجال علم التاريخ والانتساب إلى شيعة هذا الاختصاص وملّته”. فنحن أمام دور وظيفي مقيّد، وعتبات مقدّسة وحوزة علمية وشيعة وملّة، إنّها سلّة دلالية سالبة للصورة النمطية التي تضعه هذا المدرّس في مكانة سامية.
ومن منطلق “الوشاية الصحفية” أهمس في آذان الأساتذة الجامعيين التونسيين في شتّى التخصصات وليس التاريخ وعلم الاجتماع فقط بالقول، إنّ زميلكم يعتبر أنّ جلّكم تنتمون إلى ما أسماه بأفندية الجامعة، هؤلاء الأفندية الذين نالوا المنزلة الاجتماعية دون أن يهتموا بحقيقة ما يحدث في دائرة الاجتماع بما هو سياسي بالضرورة تأسيسًا فلسفيا وامتدادا عمليا، ليجدوا أنفسهم خارج دائرة النظر التاريخي لواقعهم.
من هنا يطفق صاحبنا في نزع ورق التوت عن مقولات اختصاص المؤرّخ والجامعي عموما في النظر في ما ولّى وانقضى، وذلك من خلال جولات في مرجعيات علمية وفلسفية متعدّدة المشارب. وإثر ذلك نسج لبوسا جديدا للمؤرخ وعالم الاجتماع والتخصصات المجاورة المكتفية بالنظر في وثائقها ومقولاتها الخاصة واجترار ما تيسّر من معلومات بغاية الاسترزاق. فالجامعي هو قبل كلّ شيء مواطن يحمل ترسانته المفهومية وأجهزته التفسيرية ليقبض على اللحظة الراهنة قبل أن تمرّ. ولست هنا في وارد المناقشة والجدل بل في مقام الحدّ الأدنى من “الوساطة” التي تجتهد المنظومة الجديدة في إلغائها أمام نظر أفندية الجامعة.
أكتفي بالقول إنّ ڤسومي لم يكتف بالتأصيل والتنظير لمقولة المؤرخ المواطن أو الجامعي المواطن (حتى وإن لم يذكرها حرفيا)، بل أطلق صيحة فزع قوامها أنّ انكفاء محترفي المعرفة على ركام الوثائق والتدريس المدرسي لن يؤدي إلاّ إلى تجريف الجامعة والمجتمع، فنحن أمام زمن إعادة تأسيس ينسف كلّ مكتسبات الإنسانية منذ انبلاج عهد تأسيس الدولة على التعاقد.
إنّه خطر داهم والحلّ ليس في الفصل 80 لدستور 2014 أو في الفصل 96 من دستور صانع الإجراءات الاستثنائية حسب تعبيري أو صانع نظام الاستثناء حسب تعبير صاحبنا، بل في أن نقوم بدورنا باعتبارنا مواطنين، وذلك بداية الحل أمّا منتهاه فيشير إليه في خاتمة الكتاب. وهو في الحقيقة مسار يحتاج تفكيرا جماعيا في أسباب “تخلّي” التونسي عن مكتسباته بسهولة منقطعة النظير، أي البحث في أسباب تعطّل الانتقال المجتمعي، ومن تلك اللحظة يمكن إيجاد البدائل والحلول.
في “محاكمة” عمليّة التأسيس الجديد
من حقّ المطّلع على كتاب “الجمهورية الجديدة” التساؤل عن أسباب العناء الذي تجشّمه المؤلف من خلال عمليات الحفر وتجميع شتات النظريات واجتراح عبارات مفهومية والتنظير للمواطن المؤرّخ، والحال أنّه بالإمكان التأريخ للحظة الراهنة دون أيّة حاجة إلى كل تلك “الالتواءات” المنهجية والمفهومية.
والردّ المفترض في تقديري هو أنّ ڤسومي أراد تحقيق أكثر من هدف في ذات اللحظة، أوّلها تشخيص وضع الجامعة التونسية من خلال معيار الانفتاح الحقيقي على واقعها بل وعلى نفسها، أي على أدوارها الحقيقية التي أُسّست من أجلها. وثاني الأهداف إضفاء الصبغة العلمية على مقولاته المواطنية. وثالثها وهو الأهم عندي محاكمة عملية تأسيس رئيس الجمهورية قيس سعيّد لجمهوريته الجديدة على معايير التأسيس العقلي للدولة الحديثة.
جاس المواطن المؤرخ المولدي ڤسومي خلال “دولة الرئيس” فانتهى إلى أنّها نسفت ليس فقط كلّ ما راكمته تجربة الانتقال الديمقراطي على هناتها وثغراتها وهشاشتها، بل نسفت كذلك أسس الديمقراطية ذاتها. فسعيّد بدأ إرساء جمهوريته الجديدة بإعلان الحالة الاستثنائية لتستحيل إلى نظام الاستثناء أو دولة الاستثناء. ولعلّ الجمل آتية الذكر تُجمل ما ذهب إليه في تمرينه باعتباره مؤرخا مواطنا للحظة ما بعد 25 جويلية 2025.
يقول قسّومي “تجلّت إبداعية قيس سعيّد في تمكين الشعب التونسي من تحقيق “الصعود الشاهق” غير المسبوق في التاريخ بفضل قيادته الملهمة، وكأنّه المخلّص صاحب آلة الزمن التي تمكّنه من التسامي من كلّ الأطر البشرية والأزمنة التاريخية ولكنّه يستبطنها جميعا ويترجمها في معاني مثل “الصعود الشاهق””. وفي تكثيف آخر يشدّد “لقد نسف نهج قيس سعيد في إدارة المسار السياسي كلّ القوانين المفسّرة لظاهرة التطوّر بما فيها القوانين المستوحاة من مبادئ التطوّر البيولوجي”. وفي السياق ذاته نجد ما خطّه في العبارات التقريرية التالية: “لقد نسف صاحب نظام الاستثناء كلّ ما حقّقته المراكمة المعرفية في اتّجاه تحديد شروط التأسيس التعاقدي، ممّا جعل من واقع الاجتماع السياسي في تونس راهنا حالة نموذجية في الخروج عن ضوابط التأسيس وفقا لشروط العقد الاجتماعي وعدم احترام السيادة الشعبية العامة…”.
تُغنينا هذه المنتخَبات عن تفصيل القول في ما أورده دكتور علم الاجتماع في نقائض التأسيس، ومفارقات التشريعات، وتناقضات القول ما قبل دخول قصر قرطاج وبعده. كما تغنينا عن سرد ڤسّومي لسردية سعيّد وتفكيكها وبيان ثغاراتها وتهفيت مقولاتها. علما أنّه استعرض جملة من النصوص التشريعية النابعة من الإرادة الفردية لمؤسس الجمهورية الجديدة ثمّ عرضها على معايير المقولات التأسيسية الكونية، وعمد إلى إحصاء عيّنات من آثار الفصل بين مقولتيْ حرية التعبير والتفكير من خلال اللجوء إلى المرسوم 54.
فجمهورية تسير على هذا الصراط (صراطية وفق تعبيره) لا يمكن أن يُبْنى عليها أو معها أو ضدّها. ولبيان السبيل البديل ينبغي فتح ورشة للإجابة عن سؤال ليونة المجتمع وسيولة التفريط في المكتسبات باعتباره شرط إمكان. وقد تكون هذه الورشة عنوانا لإصدار جديد للمؤرخ المواطن، فذلك دأبه في سلسلة كتبه الأخيرة من بينها “مجتمع الثورة وما بعد الثورة” و”الصراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري”.
أضف تعليقا