في الأشهر الأولى بعد تنصيبه رئيسًا على جنوب إفريقيا سنة 1994، إثْر أول انتخابات حرّة مُتعدِّدة الأعراق تشهْدها البلاد بعد عقود طويلة من نظام الفصل العنصري، كان تركيز نيلسون مانديلا في زياراته الخارجية منْصبًّا على استقطاب الاستثمارات الاقتصادية والصناعية.
في إحدى لقطات فيلم “إنفكتوس” والذي تناول جانبًا من سيرة الزعيم الجنوب إفريقي اعتمادًا على مذكّراته، يتحدّث مانديلا إلى طاقم فريقه الرئاسيّ قائلًا: “الأولوية ستكون للدول المالكة للثروات والاقتصاديات الكبرى، وخاصة أمريكا وبريطانيا وفرنسا ودول الخليج، نحتاج إلى جلْب المشاريع والاستثمارات”.
في خضّم تركيزه على تأمين نهْضة اقتصادية لجنوب إفريقيا تُخلِّصها من براثن الفقر والتخلّف وترِكَة نظام “الأبرتاي” لم ينْس “ماديبا” كما يُناديه أصدقاؤه ورفاق النّضال وأبناء عشيرته أنْ يُخصِّص مساحة في جدول أعماله المزْدحم للقاء الأصدقاء القدامى ممّن قدّموا له ولشعبه الدعم والمساندة في سنوات الكفاح، إيمانًا بعدالة قضيته وانتصارًا لحقّ شعوب القارة الإفريقية في التحرّر.
قدِم مانديلا إلى تونس في نفس السنة للمشاركة في قمّة منظّمة الوحدة الإفريقية، كرئيس لجنوب إفريقيا بعد عقود من تجميد عضوية بلاده، زيارةً لم تكُن الأولى كما نقلتْها وكالات الأنباء ووسائل الإعلام، بل سبقتْها زيارة سريّة في مطْلع الستِّينات.
يوم الرابع عشر من جوان 1994، وقبل افتتاح القمّة الإفريقية، كان رجل سبْعيني أنْيق الهندام والهيْئة يقف قبالة فنْدق المشْتل، المقابل لساحة حقوق الإنسان بالعاصمة طالبًا مقابلة مانديلا.
“اسمي الباهي الأدغم وأريد مقابلة الرئيس مانديلا”، هكذا تحدّث الوزير الأول الأسبق وأحد أبرز رجالات بورقيبة مُعرِّفًا عن نفسه.
ولم يكن من الصعوبة أنْ يتعرّف قائد المفْرزة الأمنية المحيطة بالفندق، على الوزير الأول الأسْبق ويقدّم له التحيّة، وينقل طلبه إلى المسؤولين بالوفد الجنوب إفريقي.
سُمٍح للأدغم بمقابلة “صديقه القديم”، وكانت لحظات اللقاء عاطفية مُفْعمة بالذكريات، والعناق الطويل بين الرجليْن.
سنة 1962 جاء مانديلا إلى تونس في زيارة سريّة، مبعوثًا عن المؤتمر الوطني الإفريقي، والذي قرّر خوْض الكفاح المسلّح ضدّ نظام “الأبرتاي” العنصري.
قابل مانديلا الرئيس الراحل بورقيبة وقدّم له عرضًا للقضية الجنوب إفريقية ومستجدّاتها، ووَجَد منه الدعْم لقرار خوْض العمل المسلح، باعتباره أحد وسائل النضال السياسي التي تخوضها الشعوب في سبيل التحرّر.
كان التزام الحكومة التونسية بدعْم شعوب إفريقيا في نضالاتها ضدّ الاستعمار ملموسًا ومُتجسِّدًا في مناسبات عدّة، على الرّغْم من تواضع الإمكانيات المادية للبلاد في سنوات قليلة بُعيْد الاستقلال.
قبِل بورقيبة تقديم مساعدات مالية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، إلى جانب إمداده بكميات من الأسلحة لخوْض العمل الفدائي، وأوكل المهمة لوزيره الأول الباهي الأدغم لمتابعة التنسيق والإشراف على عملية نقْل السلاح والدعم، وإيصاله إلى مناضلي الحركة الوطنية في جنوب إفريقيا.
خلال المدة القصيرة التي أقامها “مانديلا” في تونس توطّدت علاقته مع الوزير الأول التونسي بشكل كبير، ولم ينْس طوال فترة اعتقاله مدة 27 عامًا، أصدقاءَه التونسيِّين الذين آمنوا بعدالة قضية جنوب إفريقيا، ليكون اللقاء بين الرجليْن بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود تعبيرًا صادقًا عن الامتنان، واستحضارًا لذكريات الكفاح على أرض تونس.