يانيس ريتسوس… عبقريّ الشعر اليوناني الحديث الذي تغنى بالثورة والكرامة

في مثل هذا اليوم غرة ماي/ أيار من العام 1909 ولد في قرية مونيمفاسيا باليونان الشاعر يانيس ريتسوس، أحد الشعراء اليونانيين المهمين في القرن العشرين، إلى جانب كونستانتينوس كافافيس، وكوستاس كاريوتاكيس، وجورجوس سيفريس وأوديسوس إليتيس.

تمّ ترشيحه تسع مرات لنيل جائزة نوبل للأدب، ولكنه لم يفز بها، ويرجع البعض ذلك إلى توجهاته السياسية اليسارية. وهو الذي صرّح قائلا عندما فاز بجائزة لينين للسلام عام 1956: “هذه الجائزة أكثر أهمية بالنسبة إلي من نوبل”.

نبوغ شعريّ

تلقى ريتسوس تعليمه الأول في مدرسة القرية، وكتب أول قصيدة له في العام 1917. في أوت/ أغسطس 1921 توفى أكبر أشقائه بسبب إصابته بالسل ولحقت به والدته بعد ثلاثة أشهر بداء السل أيضا الذي أصاب كامل القرية. أما والده فقد جنّ جنونه وفقد أمواله بسبب القمار بعد أن كان رجلا ثريا ينتمي إلى عائلة نبيلة تملك العديد من الأراضي.

بعد إنهائه دراسته الثانوية انتقل إلى العاصمة أثينا التي عانى فيها من الفقر بسبب قلة موارده ممّا أجبره على الانقطاع عن الدراسة وامتهان مهن صغيرة، ككاتب ينسخ الأوراق في نقابة المحامين، وراقص هامشي بإحدى الفرق الفنية، وممثل صامت، ثم مصحح وقارئ لبروفات الطباعة لدى أحد الناشرين، حتى حظي بوظيفة في “المصرف الوطني”، لكنه أصيب هو الآخر بمرض السل في سنة 1926، فعاد إلى قريته التي كتب فيها ديوانه “منزلنا القديم”.

يلج والده المأوى في السنة نفسها ويدخل هو أحد المصحات ليمكث فيها مدة ثلاث سنوات. وخلال تلك الفترة لم يتوقف عن القراءة والكتابة كما تعرّف على الوسط “التقدمي” وعند مغادرته المصحة عاوده المرض ودخل مصحا آخر. وفي العام 1931 عاد ريتسوس إلى أثينا وامتهن التمثيل في أحد مسارحها.

في العام 1934 قام يانيس بإصدار أول ديوان له حمل عنوان “تراكتورات”، وفي السنة التالية أصدر ديوانه الثاني وسماه “أهرامات”، وكان قد كتب معظم قصائد الديوانين خلال القترة التي قضاها في المصحة.

الأحداث الدامية التي عرفتها بلاده ألهمته كتابة قصائده. فقصيدته الشهيرة “أبيتافيوس” عرفت النور إثر مقتل ثلاثين عامل تبغ وجرح ما يقارب الثلاث مائة منهم إثر تظاهرة في ماي/ أيار 1934 فتحت فيها الشرطة اليونانية النار عليهم، وتخلّد قصيدة “أبيتافيوس” ذكرى تلك الأحداث الدامية فهي قصيدة جنائزية تتكوّن من عشرين نشيدا أو ترنيمة مشدودة إلى الذاكرة الجمعية بوشائجها الشعورية بالغناء العامي والأسطورة الوثنية والطقس الأرثوذكسي.

صادر النظام العسكري الذي كان يحكم اليونان القصيدة وأحالها إلى محرقة الكتب أمام أعمدة معبد زيوس، إلاّ أن الموسيقار اليوناني الراحل ميكيس ثيودوراكيس قام في العام 1961 بتلحين القصيدة.

في العام 1937 أصدر ريتسوس كتابه الثالث “نشيد أختي” وفي ترجمات أخرى “أغنية أختي”. وفي العام الموالي أصدر كتابه “سمفونية الربيع” وبعده بسنتين “مسيرة المحيط”.

أوجاع متعاقبة

غادر ريتسوس أثينا في العام 1945 واستقر في بلدة كوزاني التي أسّس فيها مسرحا شعبيا وكتب مسرحيته “أثينا تحت السلاح” وقصيدة طويلة بعنوان “حاشية الانتصار” ثم رجع إلى أثينا وكتب مجموعتين خلال عامين: “يونانية” و”سيدة الكروم”.

تم اعتقاله من منزله في 1948 وسط حملات قامت بها الشرطة، ووقع اقتياده إلى مخيم للأسرى في جزيرة ليمنوس، ثم نقل إلى سجن ماكرونيسوس في 1949 الذي عذّب فيه تعذيبا شديدا، وخلال سجنه قام بكتابة مجموعته “زمن الحجر”، التي طمرها في التراب. لكن تم العثور على أوراق المجموعة بعد سنوات وتمت طباعتها.

نقل ريتسوس في عام 1950 إلى سجن آخر، وكتب: “رسالة إلى جوليو ـ كوري”، و”أزقة العالم”، و”النهر ونحن”. وفي العام الموالي تم تأسيس لجنة أوروبية متكوّنة من شعراء ومثقفين مطالبة بحريته، وذلك بمبادرة من الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي وصفه سنة 1956 بأنه “ارتجافة جديدة في الشعر الحديث”، وتمّ إخلاء سبيله في سنة 1952 ليكتب “الرجل ذو القرنفل”. وفي العام 1954 جمع بعض القصائد التي كتبها في السجن وطبع كتابه “سهر”.

وفي العام ذاته تزوّج من فاليستا جيورجياديس التي كان قد تعرّف عليها خلال الحرب، وهي التي أنجبت له في 1955 ابنته أري التي كتب لها “نجمة الصبح”.

في العام 1956 زار الاتحاد السوفياتي وكتب قصيدته الطويلة “سوناتا في ضوء القمر” وعبرها بدأ ريتسوس مرحلة المونولوجات الدرامية-الشعرية ونالت هذه القصيدة الجائزة الوطنية الكبرى للشعر الهيليني سنة 1956. ثم توالت كتبه “وقائع”، “صفاء شتوي”، “مرمدة” المستوحى من موت فتاة صغيرة، وفيه القصيدة المعروفة “شكل الغياب”. كما زار رومانيا في العام 1958، مواصلا كتاباته ليهدي قصيدة “القديس الأسود” إلى المناضل الإفريقي باتريس لومومبا، كما التقى في العام 1962 خلال زيارته براغ الشاعر التركي ناظم حكم.

في العام 1967 عرف اليونان انقلابا عسكريا ليعود العسكر إلى سدة الحكم ويلقى القبض على يانيس ويسجن في جزيرة ياروس ويمنع فيها من الكتابة، ثم ينقل إلى مخيم في جزيرة ليروس، التي تسمح له فيه بالكتابة والرسم.

وفي العام 1974 سقط النظام العسكري ويصعد نظام “الوحدة الوطنية”، لتمنحه جامعة تسالونيك شهادة الدكتوراه الفخرية: “لكونه يشمخ منذ أربعين سنة كركيزة للأمة اليونانية وكصوت لها”. ومن ثمة حصل على الجائزة الدولية الكبرى للشعر وتم ترشيحه لجائزة نوبل في الأدب ولكنه لم يتحصل عليها.

وفي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1990 توفّي يانيس ريتسوس بالعاصمة اليونانية أثينا عن عمر ناهز الـ81، مخلّفا وراءه دواوين شعرية تغنّت بالنضال والثورة والعزة والكرامة.

وهو القائل في قصيدته “الجوهري”:

“دون إتقان، يخيطُ أزرار سترته

بإبرة كبيرة، وخيط ضخم

هل أكلت خبزَك؟ هل نمت بهدوء؟

أَقدرت أن تتكلّم؟ أن تمدَّ يدك؟

هل تذكرت أَن تنظر من النّافذة؟

هل ابتسمت حين قرع بابُك؟

إِن كانَ الموت قابعا هنا

فهو دائما يجيء ثانيا

الحريَّةُ هي الأولى دوما”.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *