يسرى ونّاس
تحوّلات المجتمع والتطورات التكنولوجية يرافقها تراجع لهيبة المعلّم وتصدّع في علاقته بالتلميذ
أهم الأخبار الآن:
“قَدِّسْ مُعلِّمَكَ الجليلَ وأَوْلِهِ خَفْضَ الجَنَاحِ ورِفعةَ المقدارِ هو حاملُ المصباحِ في ليلِ السُّرَى وعلى مَشاعلِهِ يسيرُ الساري إن كنتَ تَجهَلُ مَن يكونُ”، بهذه الكلمات وصف الشعر العربي ما يحظى به المعلّم من قيمة ودور سامٍ، جعلاه يحمل بيده مشعل قيادة طالبي العلم إلى عتبات الأفكار والحكم.
وطالما اُعتبر المعلّم “صانع أجيال” و”واضع حجر أساس للأمم” لما كان يحظى به على مرّ عصور من مكانة جليلة تقابلها مسؤولية كبيرة وأمانة يحملها على عاتقه في تربية جيل بأكمله وتعليمه مكارم الأخلاق.
كان القدوة الأولى لطلّابه يهابونه ويكنّون له كل الاحترام والتقدير ويخشون منه في أحيان كثيرة أكثر من خشيتهم من آبائهم وأمّهاتهم فهم يقضون معه أغلب ساعات النهار، ووصل الحال بهم مراتٍ إلى تقديس دوره ورسالته السامية.
وفي تونس كان المدرّس رائدا في تربية الناشئة وبناء العقول المفكّرة إلّا أنّ دوره بدأ بالتقهقر في السنوات الأخيرة، وهنا تقف عوامل عدّة وراء ذلك لعلّ من أبرزها التغيّرات التي شهدها المجتمع مع ما رافق التطوّر العلمي والتكنولوجي من تداعيات سلبية أثّرت في العلاقة بين التلميذ والمدرّس وخلقت هُوة كبيرة بينهما..
وكانت عدّة حوادث شاهدة على تعرّض معلّمين وأساتذة في تونس إلى اعتداءات من قبل تلاميذ أو أولياء، وأثارت حادثة تعرّض أستاذ التربية الإسلاميّة في مدينة الشابة بولاية المهدية قبل أسبوع إلى حملة تنمّر من طلابه قادته إلى إضرام النار في جسده، الجدل في البلاد وأعادت إلى الأذهان اعتداءات مماثلة شهدتها المؤسسات التربوية وصاحبتها مطالب بضرورة إعادة الاعتبار والهيبة إلى المعلّمين.
ومطلع نوفمبر الماضي، تم الاعتداء بشكل “شنيع” على آية الشارني وهي معلّمة بالمدرسة الابتدائية نهج البرتقال في باردو باستعمال آلة حادة (سكين).
وتواصلت سلسلة الاعتداءات بعد رشق أستاذة بمعهد “ابن خلدون” بالعمران الأعلى في تونس العاصمة على مستوى الرأس، ما استوجب نقلها إلى المستشفى لتلقّي العلاج.
وتعود الذّاكرة إلى حادثة مماثلة شهدها معهد “ابن رشيق” بضاحية الزهراء في ولاية بن عروس سنة 2021، حين اعتدى تلميذ السابعة عشر عاما على الأستاذ الصحبي بن سلامة، مستخدما “ساطورا” كان يخفيه في حقيبته، ليُصاب على إثر ذلك الأستاذ بجروح خطيرة في أنحاء متفرّقة من جسده وخضع لسبع عمليات جراحية عاجلة.
وفاقت حالات العنف الجسدي التي طالت المعلّمين والأساتذة في تونس 21 ألف حالة اعتداء، منذ سنة 2011، منها 312 حالة وُصفت بالخطيرة، وذلك وفق ما كشفته دراسة بشأن العنف في الوسط المدرسي من إعداد لجنة التربية والتعليم بالاشتراك مع قسم التوثيق بالجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الانسان والإعلام.
نحو الأسوإ..
ويؤكّد محمد الصافي كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي أنّ “المؤسسات التربوية شهدت في السنوات الماضية تحوّلات عدّة سارت بها نحو الأسوإ بدل إيجاد طرق لتجويد التعليم، ومن أهم تجلياتها انتشار ظاهرة العنف بالوسط المدرسي وهو ما أدّى بدوره إلى تراجع صورة المؤسسة التربوية العمومية في المخيال الجمعي وتراجع القيمة الاعتبارية للمدرّس”.
وتابع الصافي في تصريحه لبوابة تونس أنّ “الحادثة الأخيرة أعادت للأذهان بشكل واضح وجليّ تصدّع العلاقة بين التلميذ والمربّي وأصبح من الضروري طرح ميثاق أدبي ينظمها”.
وأضاف الصافي أنّ “عدة عوامل خلقت قطيعة بين المدرّس والتلاميذ وأنّنا أصبحنا نقف عند مشاهد عديدة من بينها أحداث العنف الموجّهة ضد الأساتذة والتي عرفت ارتفاعا لافتا”.
و”أضحت شبكات التواصل الاجتماعي مجالا للتندّر والتهكّم على الأساتذة في ظل واقع متردٍّ”، وفق قوله.
كما أكد أنّ “الأولياء تنصّلوا من المهام المنوطة بعهدتهم في علاقة بفرض الانضباط على أبنائهم وهو مَا من شأنه أن يفرز سلوكات منبوذة”.
وأوضح: “أصبح عدد من الأولياء اليوم يشجّعون أبناءهم -حتى وإن كانوا مخطئين- على التمادي في هذه الهفوات ليصل الأمر بهم إلى التهجّم والتهكّم على الأساتذة داخل حرم المؤسسة التربوية”.
واستدرك الصافي بالقول: “لا يجب أن نعمّم المشهد على كل المؤسسات”.
تلاميذ.. ضحايا المجتمع والنظام التربوي
كما لم ينف النقابي أن “يكون عدد لا بأس به من التلاميذ ضحايا واقع اجتماعي ينحدرون منه وثقافةٍ لم تعد تؤسس لقيم أصيلة داخل المجتمع”.
وأشار إلى أنّ “التلاميذ يعانون أيضا داخل المؤسسات التربوية باعتبارها لم تعد قادرة على استيعابهم إضافة إلى طريقة البرامج التعليمية التي لم تعد مواكبة للتطورات الحاصلة وللذهنية الجديدة لهم”.
وخصّ محدّثنا هنا بالذكر الفصول المكتظة ونقص الإطار التربوي والإداري في عدد من المدارس والمعاهد.
وقال الصافي: “عند الحديث عن المشهد التربوي لا ننتصر فقط للأساتذة فقد يقع بعضهم في أخطاء بيداغوجية وتربوية وهوما يتطلّب إعادة تأسيس مفهوم المدرسة في المخيال الجمعي”.
وعن الحلول الممكنة لتجنّب مثل هذه الحوادث يؤكّد النقابي أنّها “تُستمد من المشاكل ذاتها وأنّ أهمها توفّر الإرادة السياسية لإصلاح تربوي عبر رصد الأموال الكافية ودعوة كل المعنيين بالمشهد التربوي إلى الجلوس إلى طاولة الحوار”.
قيمة المدرّس في تراجع
من جانبه، يؤكّد رضا الزهروني رئيس جمعية أولياء التلاميذ أنّ قيمة المعلّم والأستاذ كانت تسبق الأب والأم في مجتمع كانت له الثقة التامة في إطارات التربية حين كان كل طرف يعرف حدوده ومربّعه سواء التلميذ أو الأستاذ وحتى الولي وبدأت هذه الثقة في التراجع منذ 2011″.
وتابع الزهروني في حديثه لبوابة تونس: “منذ تلك الفترة ومع ازدياد المطَالب المتكرّرة لنقابات التعليم وما رافقها من حجب للأعداد وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية وتفاقم تدهور المنظومة التربوية، اهتزّ استقرار المدرسة أمام المجتمع”.
وزاد: “كلها عوامل ساهمت في بروز ظاهرة العنف في الوسط المدرسي، وخلقت مشاعر سلبية ويأسا لدى عدد من التلاميذ وأوليائهم وهناك من أصبح لديه شعور بالنقمة من الإطارات التربوية”.
وشدّد الزهروني على “ضرورة أن تعيد الدولة هيبة المعلّم وهو ما يمرّ بالضرورة عبر إصلاح المنظومة التربوية”.
وأضاف أنه “ينبغي عليها (الدولة) أن ترسم إستراتيجيات تتدخّل فيها مختلف الأطراف من مختصين وباحثين في علم النفس والاجتماع وكل المجالات وتحميل المسؤوليات لكل طرف من أولياء وأساتذة ومربّين، ففي إصلاح المنظومة التربوية إصلاح للمجتمع”.
كما أشار إلى أنّه “من المرجّح أن ينقطع نحو 100 ألف تلميذ عن الدّراسة ليظلوا دون مستقبل ودون مستوى تعليمي يمكّنهم من اقتحام سوق الشغل، وهو ما سيخلق جيل أولياء جديد غير قادر على تعليم أبنائهم أصول التربية “، وفق قوله.
كما تابع الزهروني أنّ “50% من المجتمع التونسي مستواهم التعليمي متدنٍّ ولا يتجاوز السنة السادسة ابتدائي”.
وفي تصريحات سابقة له، أكّد كاتب الدولة لدى وزير الداخلية المكلّف بالأمن سفيان بالصادق خلال ورشة عمل بشأن “مكافحة العنف بالفضاءات المدرسية” أنّ “ظاهرة العنف المدرسي تعدّ واحدة من أخطر الظواهر التي تواجه المؤسسات التعليمية في تونس، حيث أصبحت سمة أساسية تطبع العلاقات بين التلاميذ والإطارات التربوية والإدارية وبقية الفاعلين في الوسط المدرسي”.
ولفت إلى تعدّد مظاهر العنف المدرسي لتشمل الأذى الجسدي والتسلّط والإقصاء والتنمّر خاصة.
أضف تعليقا