لم يعد التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن الديمقراطية العالمية ركيزة ثابتة، بل أصبحت في حقبة ترامب عدوّة للغرب تتّجه نحو تبنّي نهج انعزالي براغماتي
محمد بشير ساسي
لم تمر سوى فترة قصيرة على تنصيب الجمهوري دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة في ولاية ثانية، إلاّ وطغت على مشهد العلاقات الأميركية – الأوروبية أزمة غير مسبوقة، تعدّ الأسوأ والأعمق بين الحلفاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية..
توجّس أوروبي
فمنذ العودة التاريخية للمليادير وقطب العقارات إلى البيت الأبيض، وحتى في قلب المعركة الانتخابية الرئاسية مع كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي لم يُخف الأوروبيّون قلقهم وتوجّسهم من زعيم مثير للجدل اختبروا توجّهاته سابقا ومواقفه ولغته التي تحمل نبرةً استعلائية واضحة، وهذه النبرة ليست مجرد أسلوب خطابي، بل تعكس فلسفة سياسية عميقة تقوم على مبدإ “أميركا أولًا”، وهو شعار رفعه ترامب خلال حملاته الانتخابية وولايته الرئاسية.
كما كان متوقّعا برزت – وفق إجماع عديد المراقبين – ملامحُ سياسة خارجيّة جديدة مختلفة جذرياً مع سياسات جميع الإدارات الأميركيّة السابقة، حيث تلاشتْ فيها الخطوطُ التقليدية للتحالف التاريخي عبر الأطلسي بعدما اصطدمت مع مقاربة الحلفاء الأوروبيين، لتجدَ بذلك القارة العجوز نفسها أمام واقع أكثر تعقيدا مليء بالكثير من التحديّات، لاسيما في مقاربتها ومعالجتها لملفات ثقيلة وحسّاسة (كالتجارة والدفاع والحرب الأوكرانية).
علاقة خاصة
قبل الوقوف على أسباب التحوّل الجذري في أجندات الرئيس ترامب واستيعاب قراءته السياسيّة والجيوستراتيجية والمعادلات الجديدة التي يسعى إلى إرسائها مع أوروبا، لابد من إلقاء نظرة على الجذور العميقة للعلاقات الأوروبية – الأميركية التي تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي الواقع هناك علاقة غاية في الخصوصيّة على الساحة الدولية بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث إنّ الطرفان يشكّلان معا جلّ ركائز الكتلة الغربية وحضارتها، والتي لم تزل تغذيها أطر أيديولوجية وقيمية واحدة؛ حيث الحياة الليبرالية باقتصادها الرأسمالي ونظمها السياسية الديمقراطية، ونزعاتها التحرّرية، بل ويدعمها منظور أمني موحّد يتم الارتكان إليه في حال طرأت معطياتٌ معيّنة.
تاريخيا ترسّخ التحالف الأوروبي – الأميركي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية (تحديدا سنة 1945) من خلال دعم الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا عبر “مشروع مارشال”، فضلا عن تعزيز الأمن الأوروبي عبر تأسيس “حلف الناتو” ودعم توسعه، في إطار دعم وحدة أوروبا من خلال تشكيل الاتحاد الأوروبي.
كما شكّل هذا التحالف القوة الدافعة التي روّجت لمبادئ الأيديولوجية الليبرالية على الساحة العالمية، بالتوازي مع تقهقر خصومه، وعلى رأسهم الاتحاد السوفياتي الذي انهار عام 1991، عقب حرب باردة استمرّت زهاء خمسة عقود.
وقد أثبتت المسيرة التاريخية للتحالف الأوروبي – الأميركي صدق وصف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل، في خطابه الشهير الذي ألقاه بمدينة فولتون الأميركية في مارس 1946، بـ”الـعلاقة الخاصة” للدلالة على متانة العلاقات البريطانية -الأميركية، وأهمية الاستمرار في توطيدها لمواجهة التحديات الدولية المختلفة، ذلك الوصف الذي ما لبث أن انسحب على مجمل العلاقات الأوروبية -الأميركية.
تأسيسًا على ذلك، وصلت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى أقصى مدى، لتصبح “الأكثر تكاملًا في العالم”، كما تمثل اقتصادات الطرفين ثلث التجارة العالمية في السلع والخدمات، وما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حيث القوّة الشرائية، كما أصبحت الولايات المتحدة في أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي.
مع ذلك، لم يكن تاريخ هذه العلاقات القوية سالمًا من التباينات فيما بين أطرافها؛ إذ اعترتها خلافات إزاء عددٍ من القضايا الرئيسية أبرزها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وغزو العراق عام 2003، وصولا إلى أشدها وطأة خلال ولاتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لم يعد محاطا بمستشارين يردعونه عن اتخاذ قرارات متهورة، بل بأشخاص يضخمون أفكاره على حد وصف الصحفي الأميركي توماس فريدمان.
وحذر الكاتب من أن الإدارة الأميركية الحالية تفتقر للاستراتيجية وتعتمد على مزاج الرئيس المتغير، مشيرا إلى أن أميركا التي عرفها العالم انتهت، وأن السنوات الأربع المقبلة ستكون مختلفة تماما لكون الولايات المتحدة التي حافظت لعقود على النظام الدولي، باتت اليوم دولة تبتز حلفاءها.
شروخ الخلاف
فيما يبدو أنه لم يعُد الالتزام الأميركي بالدفاع عن الديمقراطية العالمية ركيزة ثابتة، بل أصبحت الولايات المتحدة في حقبة ترامب عدوّة للغرب بتفجير ترامب الكراهية الخفية مع أوروبا وتوجّه واشنطن نحو تخلّيها عن دورها التقليدي قائدا للنظام العالمي، وتبنيها -بدلا من ذلك- نهجا انعزاليا قائما على المصالح البراغماتية.
وتجسّد الخلاف الحاد في عدّة شروخ نالت من علاقة أميركا وأوروبا منذ ظهور ترمب على الساحة السياسيّة:
– العقيدة الترامبية القائمة على فكرة أن أميركا يجب أن تضع مصالحها فوق كل اعتبار، فخلال ولايته الأولى أظهر ترامب نفورا من المؤسسات متعددة الأطراف، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، معتبرا أن هذه المؤسسات تستغلّ أميركا لتحقيق مصالحها الخاصة.
كما سبق لسيد البيت الأبيض وصف الاتحاد الأوروبي بالعدو الذي أُنشئ لإلحاق الأذى بالولايات المتحدة في مجال التجارة. وقد كرر هذه التهمة في الفترة الاخيرة ولكن بعبارات “أكثر فظاظة”، حين قال إن الاتحاد الأوروبي أُسّس “من أجل ابتزاز الولايات المتحدة، وهذا هو الغرض منه.
وتعود نظرة “الازدراء” الأميركي لأوروبا إلى ما قبل ترامب بكثير، فقد عبَّر العديد من الرؤساء الأميركيين – بطرق أكثر دبلوماسية ربما – عن امتعاضهم من عدم إنفاق الأوروبيين، وبالخصوص الألمان، على تسليح جيوشهم بشكل كافٍ والاعتماد على الولايات المتحدة، إلى أن جاء ترامب ونزع قناع الدبلوماسية، معتبرا أن الاتحاد الأوروبي الأخطر على بلاده بعد الصين، مستحضرا بذلك تاريخا من التوترات أخفاه الزمن خلف مشهد التوافق الظاهري بين الحلفيْن الواقعين على ضفتي الأطلسي.
وتضاف إلى هذه العقيدة عقلية “رجل الأعمال” الساعي إلى إعادة الاقتصاد الأميركي وتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد، خاصة من خلال استعادة الأموال التي أنفقتها واشنطن خلال عهد الرئيس جو بايدن، ولا سيما في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.
– تصريحات جيه دي فانس نائب الرئيس ترامب – خلال مؤتمر ميونيخ للأمن في 14 فيفري الماضي- أعرب فيها عن مخاوفه بشأن ما وصفه بـ”تراجع القيم الديمقراطية” في أوروبا، مستشهدا بقرار الحكومة الرومانيّة إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة تحت “ذريعة واهية” هي التدخل الروسي، كما اتهم الرجل الثاني في واشنطن زعماء القارة بفرض رقابة على حرية التعبير والفشل في السيطرة على الهجرة.
وأحدثت تصريحاته هزة في العواصم الأوروبية، حيث رأت دول مثل فرنسا أن الولايات المتحدة لم تعد الضامن الرئيسي لأمن القارة العجوز.
– تأكيد وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسث في 12 فيفري الماضي خلال اجتماع عن أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن أوروبا أصبحت مسؤولة عن أمنها، فيما ستركز أميركا على حدودها والتصدي للصين.
ويحيل هذا الموقف إلى التناقض الرئيسي بين الطرفين حول حلف شمال الأطلسي، فقد انتقد ترامب – منذ ولايته الأولى مرارا حلفاءه داخل الناتو لعدم وفائهم بالتزاماتهم بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، مما أثار تساؤلات حول التزام الولايات المتحدة طويل الأجل بالأمن الجماعي.
ومنذ ذلك الوقت سعت دول الحلف إلى تحقيق السقف المطلوب من التمويل، وهو هدف حققته 24 دولة عضوا من أصل 32 دولة حالياً، لكن الرئيس الأمريكي يريد الآن رفع ذلك السقف 5%، وهو ما يعني عملياً جهداً مالياً مضاعفاً على الموازنات الأوروبية العامة، ذلك أن رفع الإنفاق الدفاعي يعني إعادة تخصيص جزء من الإنفاق العام، وبالتالي زيادة الجهد الضريبي أو خفض الإنفاق الاجتماعي، الذي يمكن أن يعرض مجتمعات بعض الدول الأوروبية إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية وأمنية.
كما تخطط إدارة ترمب لخفض الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا بنحو 20%، عبر سحب 20 ألف جندي، في إطار مراجعة التزام واشنطن بحماية أوروبا. وربما يكون هذا الانسحاب عميقاً من الناحية النوعية
– تمثل الحرب في أوكرانيا خط الصدع القوي بين الاتحاد الأوروبي وإدارة ترمب، فقد أعرب الرئيس الأميركي بوضوح، خلال حملته الانتخابية، عن تشكيكه في مستوى الدعم الأميركي لأوكرانيا، وانتقد المساعدات المالية والعسكرية المقدمة في عهد إدارة بايدن. وقد وضع فريقه منذ يونيو الماضي “خطة لإنهاء الحرب، تتضمن وقف المساعدات العسكرية لكييف في حال رفضت الدخول في محادثات السلام”. وبعد تنصيبه رئيساً، قال ترمب إن الولايات المتحدة ستحتاج إلى 500 مليار دولار من المعادن الأوكرانية لسداد الدعم العسكري والمدني الذي قدمته إلى كييف منذ بداية الحرب – وهو رقم أعلى بكثير من المساعدات الأمريكية الفعلية.
وهذا الشرط فضلاً عن أنه يضرب بشكلٍ مباشر مصالح الاتحاد الأوروبي، لأنه يتعارض مع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الذي وقعته أوكرانيا مع الاتحاد في عام 2021 حول المعادن الأساسية، فإنه لا يوفر ضمانات أمنية واضحة لأوكرانيا في مواجهة روسيا، كما أكد ذلك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال مواجهته الساخنة مع نظيره الأميركي ترامب في البيت الأبيض وانتهى ذلك اللقاء التاريخي دون اتفاق.
ومما زاد المشهد تعقيدا توجيه الرئيس الأميركي أمره بتعليق المساعدات الأميركية لأوكرانيا، في محاولة للضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للانخراط في مفاوضات لإنهاء الحرب مع روسيا
– تعد المسألة التجارية ملفا خلافيا حادا بين أمريكا وأوروبا، إذ تبنّت إدارة ترمب – منذ ولايته الأولى – موقفاً حمائياً صارماً، مؤكدة سياسات “أمريكا أولاً” التي تهدف إلى الحد من اختلالات الميزان التجاري الملحوظة.
ويتهم ساكن البيت الأبيض الاتحاد الأوروبي بشكل متكرر بالانخراط في ممارسات تجارية غير عادلة، وخاصة في قطاعات مثل السيارات والزراعة والخدمات الرقمية. وندَّد بفرض تعريفات جمركية عالية بشكل غير متناسب على السلع الأمريكية في حين استفاد من التعريفات الجمركية المنخفضة على صادراته إلى الولايات المتحدة.
وفي 12 فيفري، ألغى الرئيس الجمهوري الاستثناءات والإعفاءات من الرسوم الجمركية التي فرضها على الصلب في عام 2018، مما يعني أن جميع واردات الصلب – بما فيها القادمة من أوروبا – ستخضع لضريبة لا تقل عن 25%، كما رفع ترامب الرسوم الجمركية على الألومنيوم في عام 2018 من 10% إلى 25%.
وتهدد هذه الحرب التجارية التنافسية الأوروبية، نظراً إلى أن السوق الأمريكية هي المجال الأساسي لنشاط الشركات الأوروبية، فوفق بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، فقد صدَّرت دول الاتحاد الأوروبي بضائع بقيمة 605.7 مليارات دولار – أي ما يقرب من 20% من إجمالي صادراتها – إلى الولايات المتحدة في عام 2024، مما يجعل الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد.
يالطا الجديدة
في قلب هذا التحوّل في العلاقات على ضفتي الأطلسي قد تكون روسيا المستفيد الأكبر من التوترات بين أميركا وأوروبا وخصوصا رئيسها فلاديمير بوتين الذي تحدث قبل أسابيع في مقابلة مع قناة “روسيا 1” الحكومية عن موقف أوروبا قائلاً: “سوف يقفون جميعاً عند أقدام السيد (ترامب) ويحركون ذيولهم قليلاً. كل شيء سيعود إلى مكانه الصحيح.”
وبعد هذا التصريح، أجرى الرئيس ترامب مكالمة هاتفية استمرت 90 دقيقة مع نظيره الروسي، ولكن لم تكن لتوبيخه. فعلى العكس من ذلك، طال الحديث بينهما عن “نقاط القوة” في كل من روسيا والولايات المتحدة، وعن “الفوائد العظيمة” التي يمكن تحقيقها بالتعاون بين البلدين.
وبالطبع لم تغب الحرب الأوكرانية عن النقاش، إذ تم الاتفاق على بدء مفاوضات حول مصير أوكرانيا، مع اختيار الرياض محطة أولى لاستضافة هذه المحادثات.
وبالفعل شهدت العاصمة السعودية الرياض يوم الثلاثاء 18 فيفري اجتماعات جمعت مسؤولين أميركيين، لكن دون مشاركة الأوكرانيين أو الأوروبيين. وبعدها، وصف سيد الكرملين المفاوضات بأنها جرت في أجواء “ودية” وكانت نتائجها إيجابية.
في ذروة هذه التوترات يرى مراقبون أن التنافر بين أوروبا وأميركا وتقارب الأخيرة مع روسيا كأنه استحضار لمؤتمر يالطا بشبه جزيرة القرم في فبراير 1945، حين اجتمع زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفياتي لرسم ملامح خرائط العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهو المخطط الذي يتكرّر اليوم مع إعادة تشكيل لعبة التحالفات بقواعد مختلفة، مع ميل واشنطن الواضح إلى نهج أكثر براغماتية يراعي مصالحها المباشرة، ولو على حساب شركائها الأوروبيين.
ثورة ببروكسل
فيما تبدو مؤشرات تصدع العلاقات الأميركية – الأوروبية في ذروتها، تجد القارة العجوز نفسها غارقة في الهواجس، حيث تخشى من احتمال أن تكون هي الطرف الرئيسي الذي سيتعين عليه إدارة صراع كبير على أبوابها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
كما تتخوّف أيضا من أن يسعى الرئيس المنتخب إلى التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الروسي بوتين لوقف القتال، وترى أن أي اتفاق ينتج عن مثل هذه المفاوضات سيكون من غير المرجح أن يتضمن حماية كافية لأوكرانيا، وبالتالي لأوروبا ضد أي تهديدات روسية مستقبلا، وتعتبر أن استجابة واشنطن لأهداف موسكو في الحرب سيضرّ بمصداقية حلف الناتو ويزعزع استقرار الأمن الأوروبي. كما تخشى أوروبا خطر التورط في صراع تجاري مع الولايات المتحدة يزيد في إنهاك ميزانيات دولها.
أمام هذا الوضع الجيوسياسي المعقّد وغير المسبوق يضع محللون استراتيجيون ثلاثة مسارات متوقعة لمآلات العلاقات الأميركية الأوروبية تنحصر ما بين الصدام وإعادة التحالف وإدارة التوتر، لكن الثابت بين كل هذه السيناريوهات أن الحرب الروسية على أوكرانيا دقت ناقوس الخطر أمام المجموعة الأوروبية كي تتحمّل مسؤولية مستقبلها الأمني دون التعويل على الحليف الأميركي الذي اختار خلط أوراق التحالفات.
ودون إضاعة للوقت منحت القمة الأوروبية الأخيرة في بروكسل الضوء الأخضر لخطة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين التي تهدف إلى حشد نحو 800 مليار يورو للدفاع عنها في إشارة إلى بدء عصر إعادة تسليح القارة العجوز ومعالجة فجوات قدراتها الدفاعية الحرجة.
وتقوم الخطة على خمسة أجزاء، إذ تعتمد الركيزة الأولى لها بشكل أساسي على الإنفاق الوطني لكل دولة عضو، وهو ما تريد المفوضية الأوروبية تسهيله، عبر تفعيل بند الهروب من “ميثاق الاستقرار والنمو” للاتحاد الأوروبي، الذي ينص على أن تلتزم الدول الأعضاء بالحفاظ على عجز الميزانية العامة بحيث لا يتجاوز 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتنص الركيزة الثانية على توفير نحو 150 مليار يورو في شكل قروض للدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لشراء الأسلحة أو للاستثمارات المشتركة.
أما الجزء الثالث فيتضمّن استخدام أموال المساعدات للمناطق الأكثر حرماناً في الاتحاد الأوروبي، والتي تسمى “صناديق التماسك”، لتمويل مشاريع الدفاع.
فيما يشير الجزء الرابع إلى تسهيل استخدام البنك الأوروبي للاستثمار لتمويل مشاريع الدفاع، وينص الجزء الخامس والأخير على حشد المزيد من الجهات في القطاع الخاص لتمويل المشاريع الدفاعية في أوروبا.
وفي الوقت الذي تبحث فيه دول الاتحاد الأوروبي ما يستوجب أن يكون “ثورة عسكرية” في وجه خطر الانسحاب الأميركي من الالتزام بحماية الحلفاء الأوروبيين، عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لطرح فكرته التي لقيت سابقاً فتوراً أوروبياً، وهي ما تزال تطرح اليوم مع إعادة النقاش حولها الكثير من الإشكاليات العسكرية والتقنية والسياسية وهي الخيار النووي الفرنسي باعتبارها ردعا “أوروبيا” وليس “أطلسياً”، لحماية أوروبا من المخاطر الروسية.
وكانت فرنسا طوّرت في الأساس ترسانتها النووية، رداً على الخطر السوفييتي، وبهدف الاستقلالية عن الولايات المتحدة، وذلك وفق عقيدة ثابتة مفادها أن الدولة ستستخدم هذه الترسانة الاستراتيجية في حال تعرض مصالحها الحيوية لأي هجوم، على ألا تكون هي المبادرة لحرب نووية. وهكذا، فإن مفهوم سياسة الردع النووي الفرنسية، منذ عقود، دفاعي بالدرجة الأولى، هدفه “منع اندلاع حرب كبرى” تهدّد المصالح الفرنسية. وبرأي ماكرون، لا مجال لفصل المصالح الحيوية الفرنسية عن البعد الأوروبي، وحسب باريس، إن هدف الردع النووي الفرنسي ليس الحلول مكان نظيره الأميركي، بل دعمه، وتعزيز القوة الردعية الأوروبية بمواجهة التهديدات.
في مواجهة النظام العالمي الجديد الذي ولد نتيجة تقارب غير مسبوق بين ترامب أميركا وروسيا بوتين، واستبعاد العلاقة التقليدية عبر الأطلسي، لم يبق لأوروبا التي بدأت تستعيد أنفاسها الآن، سوى خيار واحد وهو استجماع قواها لمواجهة “أوليغارشية” متلهفة لصفقات لا تعود بالنفع على غيرها، وبالتالي فهي بحاجة ملحة إلى إنشاء دفاع أوروبي قادر على ضمان استقلالها الإستراتيجي، وعلى استعادة قدرات الردع التي تستعد أميركا لحرمانها منها.
وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي الذي يدرك قوته، ليس لديه خيار سوى الدفاع عن قيمه المتمثلة في القانون والحريات والديمقراطية، خاصة في هذا الوقت الذي تهاجمها فيه القوى القومية الشعبوية والموالية لروسيا.
في الأخير قد يكون من المبكر حسم شكل العلاقات الأميركية – الأوروبية على المدى المنظور، ورغم ما سبق، يعتقد كثير من المحللين والخبراء الأوروبيين أن القواعد الجديدة للعبة ما زالت غير واضحة بعض الشيء، لكن من المستبعد تماماً أن تكون أهداف سياسات ترامب انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا أو التخلي عنها بشكل نهائي خصوصا وأن الكونغرس قد أقر قانونا يصعّب من عملية انسحاب الولايات المتحدة من الحلف.
فما يريده ترامب هو إرساء معادلة جديدة مع البلدان الأوروبية، تتحمل فيها الأخيرة أعباء أكبر في الإنفاق الدفاعي، وتقديم تنازلات اقتصادية، وفي الوقت ذاته تظل منضوية تحت العباءة الأميركية بوصفها تابعا لا شريكا.
وهذا تحديدا ما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، قبل أن تبدأ البلدان الأوروبية بالتطلع في العقود الثلاثة الأخيرة نحو بناء كتلة اقتصادية خاصة بها، مع بقائها معتمدة على الحماية الأميركية مقابل الدوران في فلك واشنطن سياسياً. واليوم يريد ترامب أن يرغم الأوروبيين على دفع ثمن أكبر.