هل “خان” التونسيّون الديمقراطيّة؟  (الجزء الأول)

يجمعُ باحثون وخبراء سياسيون على أن التجربة التونسية الفريدة من نوعها في المنطقة العربية انفصلت كليّا عن كلّ ما له صلة بالديمقراطية والدستورية والشرعية، وتسير الآن بسرعة “جنونية” على خط الرئيس قيس سعيّد نحو استبدادية صارمة

محمّد بشير ساسي

هل نستحقّ “الديمقراطية”؟

قبل سنوات تجرّأ الكاتب والأديب وطبيب الأسنان المصري “علاء الأسواني” على طرح هذا السؤال رغم قساوته أواخر حقبة الرئيس الراحل حسني مبارك أي قبل عامين من انطلاق شرارة ثورة فيفري 2011، وبيّن الأسواني في كتابه الذي يعدّ مجموعة من مقالات جريئة نشرت في صحف ومجلات مصرية حتى عام 2009، أن الشعوب بخوفها وسذاجتها وخنوعها وحدود تكوينها الذهني والثقافي هي من تعطي فرصة للديكتاتوريات كي تتحكّم في رقابها وتقودها بعد سلب إرادتها واستباحة حريتها.

وتابع الكاتب المصري أنه حتى حين تتوفّر للشعوب الإمكانيات والظروف الموضوعية لتستعيد كرامتها، فإنها كثيرا ما تضيّع الفرصة وتتخلّف عن الأخذ بزمام أمورها، بمعنى أنه عندما يكون لها حرية التدبير فإنها تفشل أحيانا في اختيار من يمثل طموحاتها ويساعدها على بناء حاضرها ومستقبلها.

نصف الإجابة

بعد سنتين تقريبا من إصدار كتاب الأسواني، أجابت الشعوب بكل مكوّناتها في تونس ومصر مرورا بليبيا وسوريا ثم اليمن وبعدها السّودان عن نصف السؤال المُخيف بكونها نجحت أخيرا في الانعتاق من دائرة الرّعب والهزيمة للإطاحة بأنظمة عانت منها الأمرين طيلة عقود.

 لكن النّصف الثاني من السؤال وهو المهم خاصة في علاقته بمسألة الحفاظ على هذا المكسب، ظل دون إجابة مقنعة وحاسمة مع تسلّل الشعور بالإحباط واليأس من جديد إلى نفوس مواطني تلك “الدول الثائرة” على ضياع “لحظة غير مسبوقة” في تاريخ المنطقة العربية، بعد أن بُذلَ من أجلها الغالي والنّفيس من التضحيات، ومن ثمة أُرغمت شريحة واسعة تلك المجتمعات على الرّجوع إلى مربّع الهزيمة الأوّل بتدمير ذلك المُنجز السياسي والنظر إليه بازدراء، وتشاؤم إلى درجة الجحود والنّفور منه ، فلم تعد تهمّهم “ديمقراطية” لن تُزهر في تربتهم الموبوءة بالضياع والانتكاسات.

بعد تلك الصّدمة، أضحت شريحة واسعة من الشعوب العربية تستحضرُ بمرارة مبرّرات حكم “المستبد العادل” أو تلك القناعة التي كرّسها حكّام الاستبداد لتستبطنتها لعقود، مفادها أنها لا تستحقّ العيش إلا على كفاف الخبز والـمنّ وأن الحرية والديمقراطية وامتلاك الإرادة هي منّة من الحاكم حتى وإن قُدّمت إليها، فإنّها تكون في شكل جرعات خوف عليها من الجرعة الزائدة التي تقودها إلى الفوضى والخراب.

اغتيال الديمقراطية

ويفسر أستاذا العلوم السياسة بجامعة كمبريدج ستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات في كتابهما (كيف تموت الديمقراطيات؟) كيف يمكن للقادة المنتخبين تخريب العملية الديمقراطية وذلك حين لا تُحترم أسس اللعبة السياسية وضوابطها ويغيب الحوار وتحضر العواطف.

وأكد ليفتسكي وزميله زيبلات أن “اغتيال الديمقراطية” لا يأتي فقط عبر الانقلابات العسكرية بل عبر قادة سياسيين استغلوا وجودهم في السلطة لضرب المؤسسات الدستورية، الإطار الضامن للديمقراطية.

ويميز العالمان بين نمطين من عمليات قتل أو اغتيال التجارب الديمقراطية في العالم وهما:

– النمط الأول: هو الأبرز والمتداول برأي الدارسين في التجارب السياسية العالمية، وتكاد طرق تنفيذه تكون متشابهة، إما عبر انقلابات عسكرية يقوم بها أحد أفراد ضباط الجيش وبعدها يشرع في سن قوانين فردية على شاكلة إلغاء أو تعليق الدستور واعتماد أحكام عرفية، إلى حين إعداد دستور على مقاس العسكر الذين ينزعون البزة العسكرية ويتحولون إلى حكام مدنيين.

– النمط الثاني: هو الذي لا تستخدم فيه الأسلحة الفتاكة ولا تموت فيه الديمقراطية على أيدي العسكر، وإنما يتم قتل الديمقراطية على أيدي رجالات السياسية المنتخبين أنفسهم. ففي السابق كان الخطر الذي يتهدد الديمقراطية يأتي في شكل انقلابات عسكرية أو عمل مسلح، أما اليوم فإن الأمور أخذت منحى آخر يقوم على ضرب المؤسسات الدستورية التي تضمن ديمومة الشرط الديمقراطي.

انحراف سياسي

عند إلقاء نظرة على مسار الثورات ومآلاتها، تستوقف الدارسين “التجربة التونسية الرائدة” التي فرضت نفسها نموذجا فريدا من نوعه ضمن الجغرافيا العربية المضطربة طيلة عقد من الزمن، إذ يجمع مؤلّفون في كتاب مشترك صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان “تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس 2010-2020 معضلات التوافق والاستقطاب”، على أن التجربة كانت بلا شك مرتبكة طورًا ومتعثرة طورًا آخر، ولكنها رغم ذلك كلّه تمكّنت بالتدريج من فتح ورش متعددة لبناء هذا الانتقال عبر سنّ دستور رسّخ حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية ودعّم أركان الدولة المدنية وأتاح لمختلف النخب السياسية التداول السلمي على السلطة.

كما استطاعت التجربة توسيع قاعدة المشاركة السياسية وتنظيم التنافس الانتخابي (الرئاسية والتشريعية) حتى استوى المعمار السياسي للتجربة قائمًا، وجرى ذلك كله بالتوازي مع ترتيب العلاقة مع ماضي الانتهاكات أملًا في المصالحة.

 لكن برأي محللين لم تستطع التجربة في تونس الصمود والدفاع عن نفسها، قبل أن تُغتال بـ”طريقة درامية” منذ فرض الرئيس قيس سعيّد الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلة سنة 2021، وما أعقبها من انحرافات سياسية، فقدت بسببها “تونس الجديدة” ثقتها في الديمقراطية وفي الحرية وفي الطبقة السياسية (سلطة كانت أو معارضة)، وهي التي كانت إلى زمن قريب توصف من قبل المراقبين والمؤرخين بواحدة من أبرز قصص “الثورات الهادئة والمثمرة” في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمثال الوحيد الناجح على مستوى الانتقال الديمقراطي بعد الانتفاضات العديدة التي هزّت المنطقة العربية.

قبل ثلاث سنوات وفي إجابتها عن سؤال: أين تقف تونس حقًّا في ظل الرئيس قيس سعيّد؟، قالت الباحثة والخبيرة السياسية المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مونيكا ماركس إن تونس ديمقراطية سابقة انفصلت عن كلّ ما له صلة بالدستورية وتسير بسرعة كبيرة على خط سعيّد السريع نحو استبدادية صارمة.

ما تزال تلك اللحظة الفارقة التي يعتبرُها الرئيس سعيّد تصحيحا لمسار سياسي تثير حيرة من أسموها انقلابا مدنيا بغلاف دستوري مزيّف على الشرعيّة والديمقراطية.

كيف أمكن تفكيك تجربة الانتقال الديمقراطي بتلك البساطة – وإن بدت متعثرة – لتصلَ إلى هذا المنحدر في سياق تاريخها السياسي؟ لماذا فقدت الدّيمقراطية فضيلة الدفاع عنها؟ هل ما زالت هناك رغبة شعبية حقيقيّة لإنقاذ المنجز السياسي الرائد؟ متى ستُثَار ردود فعل جريئة وذات حجم يليق بنخبٍ طالما تغنّت بالاستثناء التونسي؟ أم أنّه قضي الأمر الذي فيه يُستفتى من يراهن على إمكانية إنقاذ تجربة سياسيّة في بلد بات يُجَرّ قسرا إلى استبداد لا حدود له بقيادة سعيّد كما تصف ذلك صحيفة  لوموند الفرنسية في افتتاحية بعنوان “تونس في عصر الجنون القضائي”؟

جدل التحوّل الديمقراطي

للعثور على مداخل إجابات ممكنة عن جلّ هذه الأسئلة الحارقة والمتراكمة جدير بكل مهتم بالتجربة التونسية وسياقاتها ومآلاتها، فهم ماذا يعني التحوّل الديمقراطي التي شكلت مبحثًا رئيسيًا في حقل العلوم السياسية منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين.

فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، ظهر عدد كبير من الدراسات التي تناولت إشكالية التحول الديمقراطي على مستويات مختلفة. وقد اهتمت أدبيات التحول الديمقراطي بفحص ومناقشة طائفة واسعة من القضايا والمتغيرات المتصلة بعملية التحول، سواء من حيث مدخلاتها (الأسباب)، أو أنماطها (طرق الانتقال)، أو مخرجاتها (طبيعة النظم السياسية في مرحلة ما بعد الانتقال).

يعرّف عالم السياسة الأميركي المتخصّص في السياسة المقارنة فيليب سي شميتير التحوّل الديمقراطي بأنه عملية تطبيق القواعد الديمقراطية سواءً في مؤسسات التي لم تطبق من قبل، أو امتداد هذه القواعد لتشمل أفراد أو موضوعات لم تشملهم من قبل.

أما دنكوارت روستو أحد أبرز الدارسين الذين انشغلوا بمسألة التحوّل الديمقراطي ونظرياته فيعتبرها عملية اتخاذ قرار يساهم فيها ثلاث قوى ذات دوافع مختلفة وهي النظام، والمعارضة الداخلية والقوى الخارجية، ويحاول كل طرف إضعاف الأطراف الأخرى وتتحدد النتيجة النهائية وفقا للطرف المتغير في هذا الصراع.

في حين ينظر إليه المفكر السياسي الأميركي صامويل هنتغتون الذي اشتهر بتنظيره لفكرة “صراع الحضارات” المثيرة للجدل، بكونه مسلسلا سياسيا معقدا تشارك فيه مجموعات سياسية متباينة تتصارع من أجل السلطة وتتباين من حيث إيمانها أو عدائها للديمقراطية، فهو مسار تطوري يتم فيه المرور من نظام سياسي تسلطي مغلق إلى نظام مفتوح، وهو قابل للتراجع.

ومن منظور الدكتور خيري أبو العزايم فرجاني عملية التحول إلى الديمقراطية بأنها الانتقال من نظام غير ديمقراطي إلى آخر ديمقراطي خلال فترة زمنية محددة، يتوافق معها إرساء مجموعة من القواعد والإجراءات التي تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، مما يمكن المحكومين من القدرة على رفض قبول أولئك الذين في السلطة، فضلًا عن رقابتهم، وفي المقابل يلتزم المحكومون بطاعة الحكام والالتزام بقراراتهم في إطار مجموعة من القواعد المرعية.

من خلال ما سبق ذكره من تعريفات يتّضح أن التحوّل الديمقراطي يعبّر عن الفترة التي تعقب حدوث تغيرات جذرية في بنية النظام السياسي أما بالطرق السلمية أو الكفاح المسلّح سعيا لتأسيس نظام ديمقراطي يقوم على تداول السلطة وإعداد دستور يحترمُ مختلف الحقوق والحريات في المرحلة.

يشير مفهوم “التحوّل الديمقراطي” من الناحية النظرية إلى مرحلة وسيطة تشهد في الأغلب الأعم مراحل فرعية يتم خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو هدمه وبناء نظام ديمقراطي جديد، وعادةً ما تشمل عملية التحوّل مختلف عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، والمؤسسات والعمليات السياسية، وأنماط مشاركة المواطنين في العملية السياسية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مرحلة التحوّل إلى الديمقراطية قد تشهد صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين.

العديد من الأدبيات والتيارات تعتبر أن عمليّة التحوّل الديمقراطي تكتمل متى ما توفّرت عدة مؤشّرات منها:

وضع ترتيبات دستورية ومؤسسية بالتوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين بشأن النظام السياسي الجديد، خاصة في ما يتعلّق بإصدار دستور جديد، وتشكيل حكومة من خلال انتخابات عامة تكون حرة ونزيهة، على أن تمتلك هذه الحكومة القدرة والصلاحية على ممارسة السلطة وإقرار سياسات جديدة تعكس حالة الانتقال إلى الديمقراطية، فضلًا عن عدم وجود قوى أخرى تنازع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية صلاحياتها واختصاصاتها.

ورغم اختلاف الباحثين حول تعريف مراحل الانتقال إلى الديمقراطية، إلا أنه يمكن تحديد ثلاثة مراحل: انهيار النظام السلطوي، مرحلة التحوّل الديمقراطي، مرحلة الرسوخ الديمقراطي.

ويرى الباحثون أن أهم المراحل الثلاثة، وأكثرها خطرًا، هي المرحلة الثانية؛ بسبب الاحتمالات المتزايدة للتعرض لانتكاسات سياسية نتيجة للتركيبة الهجينة للنظام السياسي، إذ أنه حال عدم استقرار البناء المؤسسي الذي أنشأته تلك المرحلة، فقد تبدأ عملية انتقال ثانية، أو تحدث عودة إلى شكل متطور من النظام القديم، في ما يُعرف بالارتداد السلطوي، أو السلطوية الجديدة.

أما أنماط التحوّل الديمقراطي، فتتعدّد طبقا لاختلاف الفاعلين في العملية وتتمثل في: الانتقال من أعلى (دور النخبة الحاكمة)، الانتقال من أسفل (دور الجماهير)، الانتقال عن طريق الفرض بالقوة الخارجية (التدخل العسكري من دولة أخرى نموذجًا)، نمط التفاوض بين النخبة الحاكمة والمعارضة، الانتقال عن طريق الحركات الاحتجاجية والاجتماعية.

وقد بدأ التحوّل الديمقراطي في تونس من خلال نمط الانتقال من أسفل. ويرتبط هذا النمط بالحشد والتعبئة الشعبية في مواجهة النظام السلطوي، وازدياد حالة الاحتقان في الشارع ضده، بسبب تردي أوضاع النظام السياسي وضعفه، وتراجع مصداقيته، ما يؤدي لزيادة مشاعر العدائية ضد النظام من جانب الشعب، وانضمام المعارضة التقليدية إلى هذا الحراك. وتختلف ردّة فعل الأنظمة في مواجهة هذه التعبئة، فالأنظمة التي تتسم بنوع من الهشاشة والضعف الشديد، وانحسار القاعدة الشعبية لها، ستؤدي تلك الاحتجاجات إلى انهيارها بشكل تام، مثلما حدث في تونس.

وتكمنُ مشكلة هذا النمط في عدم الاستقرار والارتباك وغياب الثقة بين اللاعبين السياسيين، لذلك تتسم عملية الانتقال إلى الديمقراطية في هذا النمط عادةً بالتردد وعدم اليقين، وقد تؤدي لإفراز أنظمة سلطوية جديدة، إذا لم تكتمل عملية الانتقال إلى الديمقراطية.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *