شهدت عملية التحوّل الديمقراطي في تونس عدة عثرات وانحرافات ناتجة عن جملة من العوامل المؤثرة، ساهمت في قتل “الديمقراطية الناشئة” والجنوح نحو الاستبداد…
محمد بشير ساسي
أهم الأخبار الآن:
يجمعُ كثيرون أنّ مرحلة التحوّل الديمقراطي تظلّ مرتبطة ارتباطا وثيقا بما تفرزه الثّورات التي لا يمكن حصد ثمارها منذ اللحظة، لأن التي تظل طريقها تنتهي دائما بالفوضى أو إلى كابوس العودة إلى الماضي بكل انكساراته ومآسيه، مثلما أشار إلى ذلك الكاتب البريطاني جورج أورويل في رواية “مزرعة الحيوانات” حين أعاد مسخ ثورة العدالة شبح ظلم الماضي بأكثر بشاعة وقهرا.
في هذا السياق يحدّد باحثون جملة من عوامل التعثّر الديمقراطي في تونس والمنغّصات التي كان لها الأثر المباشر في انحراف التحوّل الديمقراطي عن مساره حتى بلغ الأمر اليوم إلى ما يوصف”بموت الديمقراطية التونسية” موتا بطيئا بعدما نُسفت كل المكتسبات التي تحقّقت طوال أكثر من عقد من الزمن:
1- إخفاق النخب السياسية:
بقطع النظر عمّا استقرت عليه تقريبا النخبة السياسية من معنى، بوصفه صفوة القوم الذين يمارسون السلطة السياسية أو يؤثّرون في عملية صنع القرار، حتى نفهم دواعي استدعاء النخب السياسية في موضوع الثقافة السياسية، علينا أن نوضح في البداية أنّ الثقافة السياسية لا ترتبط فقط بجملة القيم المشتركة بين المواطنين: كالوسطية والحوار والتسامح والاعتدال والحرية والحق في المشاركة السياسية وحل الخلافات بالطرق السلمية والرغبة في العيش المشترك والاحترام المتبادل والالتزام بالديمقراطية وهي القيم التي يسميها عالمَا السياسة غبريال ألموند وسيدني فريبا “الثقافة المدنية”، في حين يعرّفها عالم السياسة والصحفي الأمريكي لاري دايموند “الثقافة الدميقراطية”.
بل ترتبط أيضا بقابلية هذه النخب للحوار والمساومة وتسوية الصراعات سلميّا، وذلك على قاعدة التوافق والتعاون والتفاوض والاختلاف في الرأي والاستعداد للتفاهم وتقديم التنازلات، وكذلك على أساس ما يتفقون عليه بخصوص قواعد الديمقراطية الإجرائية ومؤسساتها ومدى الالتزام بها، مع كل ما يترتّب على ذلك من حقوق سياسية وهو ما سمّاه حمادي الرديسي أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة التونسيّة، وواحد من أبرز المفكّرين المعاصرين في إشكاليّة الحداثة في العالم العربيّ الإسلاميّ المعاصر، “التوافق السياسي القيمي”، فيما اعتبره عياض بن عاشور المحامي والقانوني تونسي، متخصّص في النظريات السياسية الإسلامية والقانون العام وحريات مدنية مبدأً سياسيّا جوهريا وليس مجرد مسألة إجرائية.
إلّا أنّ “المدهش” في هذه “الثقافة السياسية المدنية” أو “المواطنية” التي تدور بين النخب السياسية أساسا أنها بقدر ما جرى التعويل عليها لتأمين نجاح تجربة انتقالها الديمقراطي، كان فشلها في الواقع ذريعا، والسبب في ذلك أنّ إشكالية هذا الانتقال لما تصدّر في الحقيقة عن افتقاره إلى وجود مثل هذه “الثقافة”، (فهو قد أنتج بالفعل “ثقافته السياسية” على قاعدة التوافقات، فضلا عن جملة القيم المتعلقة بالمساواة والتعدديةالسياسية وحرية العمل السياسي والتداول السلمي للسلطة والاحتكام إلى مبدإ الأغلبية والأقلية)، بل صدرت عن هشاشة “هذه الثقافة” التي انكشفت تمام عند أول اختبار “حقيقي” واجهته، بانهيار ذلك الانتقال الديمقراطي بعد “الأزمة” التي ألمّت به.
يتفق كثيرون على أنه إثر رحيل نظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي، أبدت النخب السياسية استعدادا لعقد التسويات والتنازلات وما أفضت إليه من مداولاتها في رحاب “الهيئة العليا للدفاع عن أهداف الثورة والإصلاح السياسي وتحقيق “الانتقال الديمقراطي” من إجماع على رسم قواعد اللعبة الجديدة على أساس الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بإشراف “هيئة مستقلة للانتخابات” وبـ”قانون انتخابي متفق عليه”.
لا أحد ينكر بعدها أنه تشكّل في تونس “تقليد سياسي” تمثّل في سير الجميع على طريق التوافق رغم اختلاف المشارب الأيديولوجية بين الأحزاب إسلامية كانت أو علمانية أو ذات مرجعيات ديمقراطية اجتماعية. وقد رافق هذا التقليد مختلف المراحل السياسية المهمة من خلال تشكيل عدد من الحكومات والتوافق على دستور 2014.
على هذا الأساس بدت التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي كأنها استوفت تقريبا شروطها حتى اعتبرت حالة استثنائية نادرة لا تعكس نضج نخبها واستعدادهم للتنازل فحسب، بل قدرتهم على اعتماد ثقافة الحوار والتفاوض والمساومة البراغماتية والمشاركة السياسية التي استطاعت أن تنأى بالتجربة بعيدا عن كل المنزلقات الممكنة، حتى أنّ الكاتب والمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، اعتبر أنّ تونس قد نجحت فعلا في ديمقراطيتها، على الرغم من هشاشة مسارها.
لكن خلال عقد من الزمن تبيّن أنّ هذا “التقليد السياسي” لم يعط أكله بعدما تبيّن أنّ “سفينة التوافق” كانت تبحر وهي مثقوبة من أكثر من زاوية، كما أثبتت النّخب السياسية أنها ليست مهيّأة لأن تتمثل الديمقراطية قيمة وثقافة وروحا ووعودا ومرد ذلك يكمنُ في عدة أسباب:
– عدم اقتناع أطراف سياسية عديدة بالتحالفات التي عقدت إبان حكم الترويكا بين الإسلاميين واليساريين أو العلمانيين، حتى بلغت درجة العداء لحزب النهضة بوصفه حركة متغوّلة على الدولة، تسعى لفرض مشروعها الإسلامي لتغيير النمط المجتمعي.
– بلوغ الأحزاب السياسية سقفا عاليا من القصور في فهم مقتضيات المرحلة الانتقالية، ما جعلها كأنها مرحلة ديمقراطية صلبة لا مجرد “انتقالية هشة”. وسرعان ما انخرطت هذه الأحزاب في التراشق بتهم “الفساد” و”التآمر” من دون أن تضع في حسبانها التكلفة الباهظة لمثل هذا الانحراف بالتجربة الانتقالية.
– تخلّي النخب عن إيمانها بالديمقراطية وعن دورها في مطالبة الناس بالانخراط فيها، مقابل تدفّق فئات اجتماعية واسعة إلى الفضاء السياسي في ظروف التعبئة بثقافتها السياسية السلطوية جعل كل “المطلب الديمقراطي” لا يختزل في مجرّد الرهان على الديمقراطية الانتخابية، بل يمتد إلى الاحتجاج باستمرار على الوضع السياسي القائم.
– عجز النخبة السياسية عن تأمين الاستقرار الديمقراطي وكبح انجرار الجماهير نحو الديماغوجيا والشعبوية فحسب، بل عجزت أيضا عن التصدي للثقافات الفرعية المعادية
للديمقراطية التي لا يخلو منها مجتمع؛ فلا هي وجّهت خطابها إلى التمسك بالشرعية الديمقراطية والارتقاء بها إلى مستوى القضية الوطنية، ولا هي حرّضت الجمهور على التكيّف مع الديمقراطية وقيمها.
بل إنّ المثير للصدمة هو تعبير فئة واسعة من النخب السياسية والأكثر تأثيرا عن مساندتها الفورية وغير المشروطة لقرارات الرئيس سعيّد التي توصف بالانقلاب على مسار التحول الديمقراطي.
– خلطت انتخابات 2019 الأوراق مرة أخرى بعد أن فتحت الباب لفاعلين سياسيين لم يشاركوا في التسويات القديمة ولا يعترفون بها أصلا أمثال المستقل الرئيس قيس سعيّد وعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، ليفرضوا على الجميع إعادة رسم قواعد اللعبة من دون تشريك أحد.
– عدم التزام جميع الأطراف السياسية بقواعد اللعبة الديمقراطية، بل ثمة من تحيّن الفرصة لضربها والانقلاب عليها والقبول بالبدائل التي فرضها الرئيس سعيّد في 25 جويلية 2021.
2- مؤسسات دستورية ضعيفة: راهنت تونس منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق الراحل بن علي في 14 جانفي سنة 2011 على إرساء “مسار انتقالي” عبر تثبيت مؤسّسات ديمقراطية جديدة على غرار:
– لجنة الإصلاح السياسي برئاسة المحامي والقانوني عياض بن عاشور في 17 جانفي سنة 2011 للإشراف على إصلاحات المرحلة الجديدة السياسية والدستورية.
– اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق بشأن ملفات الفساد والرشوة برئاسة الراحل عبد الفتاح عمر، في 18 فيفري سنة 2011 .
– اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات برئاسة عميد المحامين توفيق بودربالة.
– الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال التي أنشئت في 2 مارس سنة 2011 من أجل إدخال الإصلاحات اللازمة على المشهد الإعلامي في تونس بعد الثورة، قبل أن يتغيّر اسمها إلى “الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري” في 3 ماي سنة 2011.
– الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في 15 مارس سنة 2011، وهي هيئة انتقالية شبه تشريعية ضمّت 160 عضوا من الأحزاب والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية إلى جانب ممثلين عن
عائلات الشهداء، وكان الغرض من تأسيسها الإشراف على مسار الانتقال الديمقراطي، وأن تضع ما يلزم من إطار مؤسساتي وتشريعي تمهيدا للانتخابات المقبلة.
وكان من نتائج ذلك التصديق على قانون الانتخابات وإحداث “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ثم فتح المجال لحرية التنظم بالنسبة إلى عدد غير قليل من الأحزاب، بلغ في أول مرحلة انتخابية في أكتوبر سنة 2011 (أكثر من 120 حزبا وأزيد من 20 ألف جمعية).
– لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد”، و”لجنة شهداء الثورة وجرحاها”، ثم جرى التصديق في ديسمبر 2013 على القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية، والذي بموجبه تأسّست “هيئة الحقيقة والكرامة، وهي هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري، واختيار أعضاؤها بالتوافق طبقا للشروط والإجراءات التي نصّ عليها قانون العدالة الانتقالية.
– الهيئة الوقتيّة لمراقبة “دستورية مشاريع القوانين” في 18 أفريل 2014، وهي هيئة قضائية وقتية مستقلة تختص في مراقبة دستورية مشاريع القوانين، وتتمتّع بالاستقلالية الإدارية والمالية. وقد عيّن أعضاؤها في 22 أفريل سنة 2014.
وفي 21 أكتوبر سنة 2013، أحدثت “الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب”، وهي هيئة انتخب أعضاؤها “مجلس نواب الشعب” في 30 مارس 2016، ثم جاء تأسيس هيئة النّفاذ إلى المعلومة في 24 مارس 2016، وهي هيئة عموميّة مستقلة تتمّتع بالشخصية المعنوية، وقد أدّى أعضاؤها اليمين في 20 سبتمبر سنة 2017.
كان الرهان قويا ولا رجعة فيه لوضع البلاد على مسار الديمقراطية عبر إرساء مؤسساتها الديمقراطية التي كانت بمنزلة البديل الأمثل لتجاوز ما يعانيه المجتمع من نقص في ثقافته السياسية الديمقراطية وإعادة تشكيله بما يجعله ملائما معها..
غير أنّ إرساء هذه المؤسسات لم يكن يخلو في حدّ ذاته من نقائص وإخالالات، فمنها من واجهت انتقادات بخصوص افتقارها الشرعيّة وطريقة اختيار أعضائها وتمثيلتهم المنحازة.
وأخرى لم تأخذ تقاريرها بعين الاعتبار ولم تترتّب عليها نتائج عملية، في حين فشلت مؤسسات في أن تحظى قراراتها بطابع إلزامي ليستقيل أعضاؤها.
وبلغت تلك المؤسسات ذروة الوهن والضعف عندما اتخذ الرئيس سعيّد قرارا بتجميد مجلس نواب الشعب ليلة 25 جويلية 2021 وبعدها حلّه نهائيا، كما هو الحال مع المجلس الأعلى للقضاء الذي عمّت فيه حالة من الفوضى والتنافر في المصالح بين أعضائه.
وحتى المحكمة الدستورية التي روّج لها على نحوٍ مبالغ فيه ضمن المقاربة المؤسّساتية نفسها على أنها كانت ستكون -لو تم إرساؤها- “صمام الأمان” لإنقاذ البلد والحيلولة دون وقوع الانقلاب، فإنه لا شيء في الواقع كان يجزم بأنها كان يمكن أن تكون بمنأى عن قرار “الحل” بعد أن جرى التجرّؤ على حل مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء.
كام أنه لا شيء كان يضمن أنّ هذه المحكمة لو أرسيت حقا لم تكن لتصاب بالعلل نفسها التي أصابت بقية الهيئات من تناحر داخلي واستقالات.
وبالتالي يتضح مما تقدم أنّ هذه المؤسسات مثّلت عبئا حقيقيا على التجربة الانتقالية في تونس، منعها من أن تكون علاجا ناجعا لما اعترضها في الطريق من صعوبات.
3- التمثل المجتمعي للديمقراطية: بصورة عامة عندما تتسبّب الثورة في الانتقال الديمقراطي، يكتسب المجتمع المدني والنخب الممثلة له قوة كبيرة للوقوف أمام انحرافات استبدادية ممكنة؛ فبحسب أغلب “نظريات الدمقرطة”، تؤدي الشبكات الاجتماعية ومستوى كثافتها وطبيعة الهيئات الوسيطة التي تنتجها تلك الشبكات دورا حاسما في تحديد عسر الانتقال وطبيعة تبعاته.
وبعبارة أخرى، فإنّ عوامل النجاح الديمقراطي تسبقها بداية تهاوي الدكتاتورية، وهو عامل يقلّل إلى حد بعيد من وزن الثورة بصفتها خطوة نحو الديمقراطية.
وبالفعل، فإنّ النظام الحكومي المتقدم جدا لا يأتي من فراغ؛ فهو في حاجة إلى رأس مال اجتماعي يدعم ممارساته ويحمي قيمه.
ويعرّف رأس المال بأنه وسائل الإنتاج، كما يعرّف بأنه التوسع الاقتصادي عن طريق تراكم رأس المال، وبناء على ذلك فإنّ فكرة رأس المال الاجتماعي تعتبر دعامة من دعائم الديمقراطية، وهذا يعني أنّ الدمقرطة هي عملية تراكمية، وبما أنّ الدولة والمجتمع انعكاس للحضارة الإنسانية، فإنهما يسعيان دائما إلى بناء نخب وشبكات ومؤسسات تتفاعل فيما بينها على نحو متزايد التعقيد.
وتحتاج الديمقراطية إلى تفاعلات متطوّرة بين العناصر المذكورة آنفا بصفتها شكلا من أشكال الحكم، وتسعى الدكتاتورية إلى منع التفاعل الإيجابي بين المجتمع والدولة. ولكن وجود شبكات اجتماعية كثيفة ومؤسسات وسيطة ناشطة يقلّل من حدة عرقلة التواصل ويسهل إرساء الديمقراطية نسبيا، وفي غياب الشبكات الاجتماعية والمؤسسات، تسود الاضطرابات وتنتشر حالة عدم الاستقرار بعد سقوط النظام الاستبدادي.
عند النظر إلى أرض الواقع وتحديدا في مستوى التراكمات النّفسي والأبعاد الذهنية لدى شريحة واسعة من المجتمع، تتجلّى حقيقة واضحة تتمثل في بروز ثقافة سياسية مكبّلة بالقيم غير الديمقراطية.
ومع أنّ تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وجدت في الثقافة السياسية التشاركية (مصطلح استخدمه العالمان السياسيان الأمريكيان غابرييل أملوند وزميله سيدين فريبا)، على الأقل في الظاهر -مجالها الطبيعي- فإنّ ما يميّزها وهنا وللمفارقة ومناط الإشكال هو إعادة إحياء موروث الاستبداد والقابلية للخضوع سواء في الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أو في الفضاء العام عموما كما يفسّر ذلك الباحث والخبير الدستوري التونسي شاكر الحوكي.
ويضيف الكاتب في دراسة نشرت في مجلة سياسات عربية تحت عنوان “الثقافة السياسية والانتقال الديمقراطي في تونس”: ذلك الموروث جثم بكلْكله على ثقافتنا قرونا وقرونا، وبقي يفعل فينا فعله من حيث تشكيل توجهاتنا الفكرية وتركيب بنيتنا الذهنية، حتى بعد اندلاع الثورة التونسية.
ثم لم يلبث هذا الموروث أن أخذ في الكشف عن وجهه السافر مجدّدا سواء بالتطلّع إلى ظهور “المستبد العادل” نموذجا للحكم أو من خلال المواقف السياسية المعلنة والقاموس اليومي المستعمل في كل مكان، وذلك من قبيل أنّ “الديمقراطية لا تصلح لنا”.
على هذا الأساس، فإنّ وصف الثقافة السياسية بكونها ثقافة معطوبة، بمعنى أنها تعاني خلالا داخليّا لا يساعدها على التعامل مع الخيار الديمقراطي باعتباره أولوية، لا يمكن إلّا أن يضعنا وجها لوجه مع أدبيات “الاستعصاء” أو “الاستثناء الثقافي” التي برزت في التسعينيات، والتي لم تكن ترى في “بنية الثقافة الإسلامية والعربية” إلا عائقا يحول دون التطبيع مع “القيم الديمقراطية”؛ بحجّة أنّ هذه الثقافة مشحونة بمجموعة من القيم تجعلها عصيّة بالسليقة على أي استجابة ديمقراطية. وما زال هذا الطرح قويّا لدى النخب الأكاديمية، بعد أن صارت تبشر إما بأفول الديمقراطية وإما بعدم استعداد الشعوب لها.
فضلا عن ذلك فإنّ المتأمّل للمشهد التونسي لا يغفل عن الخيط الرابط بين رسوخ الثقافة الاستبدادية وطبيعة التنشئة السياسية الأولية في المناطق المهمشة، إذ فشلت من خلال المدراس في نقل المعرفة بالديمقراطية وترسيخ قيم المواطنة، أو بلورة مواقف ديمقراطية مؤثرة.
إذ تبيّن من خلال الدراسات والنقاشات أنّ التّعليم الرسمي لم يكن يشتغل باعتباره أداة أساسية للتنشئة الاجتماعية ضمن نظام ديمقراطي بقدر ما كان مجرد فضاء للحفاظ على قيم التسلّط والاستبداد.
فالتغيّرات التي شهدها النظام السياسي التونسي منذ 2011 لم تبرز بأيّ شكل هادف من خلال المناهج الدراسية، وفي الواقع هناك برامج لتدريس التاريخ والتربية المدنية في نظام المدارس العامة منذ العام 1956، لم يتم تحديث هذه المناهج بشكل كبير منذ العام 2002، بل قاومت وزارة التعليم إجراء أيّ تحديثات كبرى على الكتب المدرسية ومناهج المدارس فيما يتصل بأحداث 2011 والنظام السياسي الجديد المعمول به. إذ إنّ البلاد ما تزال في مرحلة انتقالية وما زالت الصراعات الأيديولوجية والسياسية تمثل نقاط توتر، ونتيجة لذلك لا يوجد مشروع واسع النطاق ضمن النظام التعليمي لطرح مفاهيم جديدة للمواطنة والديمقراطية وممارستها، أو لوضع إطار مشترك لفهم الاختلافات بين النظام السابق والنظام الحالي، أو لفهم التحديات والفرص الحالية التي تواجه المرحلة الانتقالي في تونس.
ومن النتائج التي كشفت عنها مجموعة من المناقشات البؤرية كذلك أنّ الشباب في المناطق المهمشة لا يثقون كثيرا بالعملية الدميقراطية ولا بمؤسساتها، كما أنهم أبانوا عن سوء فهم عميق لمفهوم الديمقراطية بسبب غموضه والتباسه على الصعيدين النظري والعملي.
وإذ اتّجه بعضهم إلى ربط أولوية الانتقال الدميقراطي بإنشاء المحكمة الدستورية أو بتنشيط الاقتصاد، فقد اتّجه آـرون إلى ربط الديمقراطية بالفوضى، واعتبروا حلّ البرلمان والتخلص من الأحزاب السياسية شرطا لإصلاح النظام السياسي.
4- أزمة اقتصادية خانقة: تنقسم الأدبيات التي تتناول العلاقة بين التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي إلى اتجاهين: الاتجاه الأول يفترض عدم وجود علاقة ضرورية بين الديمقراطية والتنمية، بينما يرى الاتجاه الثاني أنّ العلاقة وثيقة بينهما، ويذهب إلى أنّ المتغيّر الاقتصادي هو الأهم، وأنّ نقطة البدء في عملية التحول الديمقراطي هي التنمية الاقتصادية وبعد إنجازها ستتحقّق التنمية السياسية.
ويرى عالم الاجتماع السياسي الأمريكي مارتن لي ست أنّ الرأسمالية تمثّل قلب الديمقراطية، وقد افترض، بناءً على مقارنات بين الدول، وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية والنظام الديمقراطي؛ فالتنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو المزيد من المشاركة، كما أنها تضعف من حدة التفاعلات السياسية، وتُنشئ مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي.
رغم ذلك واجهت هذه الفرضية بعض النقد، إذ قد لا تؤدي التنمية الاقتصادية لتعزيز الديمقراطية في كل الحالات، بل من الممكن أن تؤدي الرأسمالية إلى ترسيخ الديكتاتورية كما في حالة بعض دول أمريكا اللاتينية في الثمانينيات والتسعينيات ودول الخليج في الوقت الراهن.
ومن خلال دراسة الأزمة الاقتصادية وعلاقتها بالتحول الديمقراطي في تونس، يمكن رؤية أن العلاقة التي تربط بين المتغيّرين في الحالة التونسية هي علاقة وثيقة وطردية، إذ إنّ تحقق معدلات نمو اقتصادي في دولة ما قد يؤدي إلى بناء الديمقراطية وتعزيزها.
واقعيا تعاني تونس من أزمة اقتصادية متفاقمة بسبب غياب السياسات والحلول اللّازمة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، إذ ارتفعت معدّلات البطالة والفقر، مع استمرار تراجع إيرادات الدولة من العديد من القطاعات الاقتصادية المهمة.
فمنذ إعلان الرئيس سعيّد التدابير الاستثنائية، شهدت تونس تعيين 4 رؤساء حكومات منذ 2021 (آخرها حكومة سارة الزعفراني)، ضمن محاولة لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومع ذلك لم تحقّق هذه التغييرات نتائج ملموسة بسبب غياب سياسات تعالج المشاكل الهيكلية التي تعاني منها البلاد، وفق مراقبين.
ويرتكز الخطاب السياسي للسلطة على رفع شعار تعزيز الدور الاجتماعي للدولة والاعتماد على الذات من دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، في حين يرى مراقبون أنها مجرد شعارات سياسية لا تجد ترجمة فعلية على أرض الواقع وأنّ السياسات الاقتصادية المطبقة متناقضة مع أهداف السلطة ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل مستمر، ومن ثمة تآكل القدرة الشرائية لدى التونسيين فضلا عن تدهور خدمات المرافق العمومية، وسط ضعف النمو الاقتصادي واستقرار معدلات البطالة بمستويات مرتفعة.
بلغة النسب والأرقام تعاني المالية العمومية من أزمة دين خارجي غير مسبوقة في تاريخ البلاد، حيث بلغ حجمه خلال العام الماضي، ما يزيد عن 42 مليار دولار، وناهزت نسبة الديون الداخلية لتونس حوالي 53.8% من إجمالي الديون العامة، وسط توقعات رسمية (قانون المالية لسنة 2025)، بأن تصل إلى 58% نهاية العام الجاري، بحكم لجوء السلطة للاقتراض من البنوك الداخلية.
فيما بلغت نسبة الديون الخارجية، زهاء الـ46.2%، وما تزال كتلة ديون تونس التي تجاوزت 80% من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، تُـقِضّ مضجع الخبراء والمحللين الماليين ناهيك عن المسؤولين في الدولة
كما تظهر التقارير المالية الرسمية تراجعا ملحوظا في مستوى الاستثمار المحلي والأجنبي في تونس خلال السنوات الأخيرة.
ووفقا لتقرير البنك المركزي التونسي، فإنّ نسبة الادخار المحلي لا تتجاوز 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يُعدّ مؤشرا على ضعف التمويل الداخلي للاقتصاد والاستثمار.
ويقول محلّلون اقتصاديون إنه في الوقت الذي تشهد فيه دول أخرى ذات اقتصادات مشابهة لتونس نسبة استثمار تقدّر بحوالي 25% من الناتج المحلي، تتراجع هذه النسبة في تونس إلى أقل من 15%، وأنّ هذا التراجع يعكس ضعف ثقة المستثمرين في مناخ الأعمال المتردّي نتيجة العوائق الإدارية وغيرها.
كما يحذّر خبراء ماليون واقتصاديون منهم عز الدين سعيدان، المشرف سابقا على بنوك ومراكز دراسات اقتصادية ومالية عربية، من تجاوز الخطوط الحمراء بسبب اختلال التوازنات المالية للدولة والبنوك التونسية العمومية وارتفاع أعباء نِسَب التداين.
وحذّر سعيدان بالذات من تراجع فرص “خلق الثروة” وترفيع الاستثمار الداخلي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من استفحال “الأزمة الاقتصادية الهيكلية” الموروثة، وبروز “أزمة ظرفية” من مظاهرها التضخم المالي وتراجع فرص التشغيل ونقص مداخيل الدولة من الصادرات ومن الضرائب.
كما تتوقف كثير من وسائل الإعلام والملتقيات العلمية والاقتصادية أخيرا عند تحذيرات وجّهتها أطراف تونسية وأجنبية من سيناريوهات “استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق” في تونس.
واستدلّت هذه الجهات بالإحصائيات الرسمية التي تقدّمها تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني عن الإحصاء، والتي تكشف “مزيدا من العجز المالي والتجاري والفوارق بين الطبقات”.
وأعاد هؤلاء إلى الأذهان ما أورده تقرير صدر قبل نحو سنتين في صحيفة “نيويورك تايمز” عن اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانهيار. حقا، كان ذلك التقرير قد أورد أنّ تونس تعاني فشلا اقتصاديا بسبب سوء التسيير وتداعيات جائحة (كوفيد-19) والحرب الدائرة في أوكرانيا، التي ضاعفت حجم نفقات الدولة تحت عنوان تمويل وارداتها من المحروقات والحبوب، وحرمتها من مداخيل نحو مليون سائح روسي وأوكراني كانوا يزورون البلاد سنويا.
ويستدل الخبراء التونسيون والأجانب الذين يحذّرون من استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية بتقارير أصدرها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحذّرت بدورها من تضخّم نسبة أجور العاملين في القطاع العمومي التي تبتلع نحو 18% من الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في العالم.
بل تزداد التحديات بالنسبة إلى السلطات بسبب بروز مثل هذه الإحصائيات في وقت تزايدت فيه احتجاجات النقابات على بعض القرارات “الموجعة” التي اتخذتها الحكومة، وبينها تجميد المفاوضات الاجتماعية حول زيادات الأجور ومنح التقاعد والتوظيف.
ولقد نبّهت المصادر نفسها أيضا من تداعيات إخفاق الحكومات المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الـ15 الماضية في تسوية معضلة ديون الشركات العمومية المفلسة التي تكلف الدولة نحو 40% من الناتج المحلي، في حين تمثّل أعباء دعم المواد الغذائية والمحروقات ما بين 8 و10% منه.
ويُضاف إلى ما سبق، أنّ الأوضاع تغدو “أكثر خطورة” -وفق المصادر ذاتها- بسبب معضلة عجز الميزان التجاري وتراجع قدرة الصادرات على تغطية الواردات، على الرغم من الضغط الكبير الذي تمارسه مؤسسات الحكومة والبنك المركزي على حركة التوريد، بما في ذلك بالنسبة إلى الأدوية وقطع الغيار والمواد الخام التي يستحقها المصنّعون والمستثمرون.
في ظل هذا الوضع المعقّد، استخلص تقريران أعدّهما خبراء اقتصاديون لفائدة مؤسسة دولية عن “المخاطر الاقتصادية والسياسية الاجتماعية التي تهدّد تونس” أن تونس تعيش منذ عام 2011 بما يتجاوز إمكاناتها.
إذ سجل هؤلاء الخبراء أنّ القروض والمساعدات الخارجية تدفّقت إلى البلاد بعد الانتفاضة الشبابية والشعبية عام 2011، لدعم عملية الانتقال السياسي الديمقراطي، وقدّرت تلك المساعدات بنحو 20 مليار دولار خلال العقد الماضي.
إلّا أنّ عوامل عديدة أدت إلى تسبّب المليارات التي حصلت عليها الدولة في إحداث طفرة استهلاكية غير مستدامة، مقابل تراجع القدرة الإنتاجية للبلاد بسبب غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فكانت الحصيلة ازدياد إمكانية حدوث انهيار مالي خطير.
ومن ثم طالب الخبراء الثلاثة بـإصلاحات للنظام السياسي التونسي، كي يغدو قادرا على تفادي النتائج الكارثية لأزمة موروثة ازدادت تعقيدا وتفاقما.
وفقا لما سبق ذكره شهدت عملية التحول الديمقراطي في تونس العديد من العثرات والانحرافات الناتجة عن عدة عوامل مؤثرة ساهمت مجتمعة في كره “الديمقراطية الناشئة”، على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي المهتم بالفلسفة السياسية وفلسفة الجمال الفرنسي جاك راسنيير، بل قتلها والجنوح نحو الاستبداد المتجسّد في الرئيس قيس سعيّد وقراراته كما يصف معارضوه وخصومه السياسيون.
بل ثمة من ذهب إلى القول بأنّ سيّد قرطاج استعار قناع بن علي خاصة في ما يتعلق بقضية ما يعرف “بالتآمر على أمن الدولة” والأحكام الصادرة بحق 40 متهما والتي تتراوح بين 13 و66 عاما، حيث أتت في “سياق قمعي استفاد منه الرئيس لاستغلال النظام القضائي التونسي لمهاجمة المعارضين السياسيين وفق تقييم “هيومن رايتس ووتش”.
ويرى الإعلامي والكاتب السياسي التونسي صالح عطية أنّ هامش الحريات الذي كان التونسي يعوّض به شظف العيش، تراجع بصورة لافتة للغاية وهو ما تؤكده التقارير الإعلامية والحقوقية والنقابية، وكمّ هائل من بيانات الأحزاب السياسية المعارضة، ومنظمات خارجية، ومؤسسات إقليمية، على غرار المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، والبرلمان الأوروبي.
بل إنّ الأمر بات حديث “أحزاب الموالاة” للسلطة، المدافعين عن (انقلاب) الرئيس سعيّد، حيث أصبحوا يطالبون في بياناتهم وفي تدخّلاتهم صلب البرلمان، بضرورة استئناف الحريات في البلاد، وإلغاء، أو على الأقلّ، تعديل المرسوم الرئاسي (المرسوم 54)، الذي تسبّب في الزجّ بعدد من الإعلاميين والمدوّنين في السجون التونسية، وجعل تونس تتدحرج في أسفل الترتيب الدولي في مجال الحريات، بعد أن كانت بين الأربعين الأوائل منذ الثورة التونسية.
ووفق تصور الإعلامي صالح عطية كلّ ذلك جعل المناخ العام في البلاد، يعرف أزمة هيكلية وبنيوية تراكمية، تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وبلغت أوجَها خلال الأسابيع الأخيرة، عندما لم يعد للسياسيين والنخب، أي ثقة في السلطة، وفي إمكانية تراجعها عن الخطوات التي يصفونها بـ”الاستبدادية”، والتي كشفت الأيام والسنوات القليلة الماضية، عقمها وارتدادها على كامل الوضع العام بالبلاد.
تخبرنا التجربة التونسية أنّ توافر آليات التحول الديمقراطي قد لا تؤدي بالضرورة إلى نجاح عملية التحول. فقد حقّقت تونس التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات دورية في 2011، 2014، 2019، ونجحت القوى السياسية في تأسيس مؤسسات توافقية وتشاركية مثل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
وعلى ضوء ذلك، هناك العديد من الدروس التي يمكن استخلاصها من تعثر التجربة، لعل من أهمها:
– أولا: أهمية عامل التنمية الاقتصادية في إنجاح التحول الديمقراطي، إذ لا تكفي ضمانات الحقوق والحريات في النظام الديمقراطي لاستمرار القبول الشعبي به مع غياب التنمية الاقتصادية.
– ثانيا: أهمية بناء توافقات حقيقية وقوية بين النخب السياسية تُمكّن من حل الخلافات الجوهرية، وتساهم في بناء مشروع سياسي متكامل.
– ثالثا: التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات الدورية والمؤسسات التوافقية لم يمنع تعثّر المسار الديمقراطي في ظل غياب المحكمة الدستورية.
– رابعا: غياب المؤسسات الدستورية المتمثلة في المحكمة الدستورية قد يؤدي إلى تحول المسار الديمقراطي لمسار تسلّطي لا يستند إلى دستورية.
الديمقراطية إذن لا تُمنَح، بل تُنتزع، وتُحمى، وتُمارس، وإذا كنا نعيش اليوم انكسارا في التجربة، فإن ذلك لا يجب أن يبرر التسليم بأننا لا نستحقها، بل يُلزمنا بالسؤال: ماذا ينقصنا لنستحقها؟ كي نبعد عن أنفسنا شبح الاستبداد بجميع أذرعه وتمظهراته في الدين أو القبيلة أو الأمن القومي كما يرى المفكر السوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي برهان غليون.
أضف تعليقا