رأي

هل حانت لحظة فكّ الارتباط بين شرق ليبيا وغربها؟!

محمد بشير ساسي

ظلت الأسطورة الشهيرة لضريح الأخوين “فيليني” التي تعود جذورها إلى ما يزيد عن 2500 عام تتهامسُها الأفواه في ليبيا لقرون حتى استقرت في “الوعي الجمعي” لليبيين، وباتت بمثابة “القدر التاريخي” للانقسام بين الشرق والغرب، الذي بدأت فصوله الأولى خلال حقبة الصّراع الطويل بين الإغريق والبونيقيين وانتهى آنذاك بترسيم الحدود بين الحضارتين.

إهدار الفرص

ففي العصر الحديث ورغم هدم “قوس فيليني” (قرب بلدة رأس لانوف” على بعد نحو 600 كلم إلى الشرق من العاصمة طرابلس)، على يد العقيد الراحل معمر القذافي عام 1973 -حيث اعتبره أحد مخلّفات الاستعمار الإيطالي وإرثا من الموروثات التي كرّست الفرقة بين الليبيين- ما يزال شبحُ الانقسام يلقي بظلاله الثقيلة على البلد الغني بالنفط وقد مرّ على استقلاله موحّدا وكتابة أول دستور أزيد من 7 عقود، طالبت عديد الأصوات في أكثر من مناسبة بإعادة تفعيله في ظل عدم توافق الأطراف السياسية على “خريطة طريق” تنهي الصراع الحاد.
بعد سقوط نظام القذافي (أكتوبر 2011) الذي أورث الليبيين حقبة وصفها كثيرون بـ”الكارثية” بسبب السياسات العبثية والارتجالية على مدار 42 سنة، جاءت “لحظة الاختبار” الأكثر مفصليّة وجديّة من أجل قطف أولى ثمرات “ثورة 17 فبراير 2011” ببناء ليبيا الجديدة بعيدة عن الخلافات والمشاحنات.
لكن الفرقاء الليبيين برأي مراقبين لم يكونوا في مستوى “المنجز الثوري” بعدما أهدروا عدة فرص لرسم ملامح مشروع سياسي “توافقي” خلال مرحلة انتقالية طويلة شهدت عدّة استحقاقات انتخابية ومبادرات عربية وغربية وجهود أممية حثيثة، فشلت كلّها في رأب الصدع العميق وإخراج البلد من متاهة صراع مرير تعدّدت أدواته وأشكاله.
وتحت العناوين العريضة لهذا التمزّق في المشهد السياسي بين حكومتين متنازعتين على السلطة ما بين الغرب والشرق، تفرّعت أكثر جذور الأزمة الليبية بعدما أنتجت التفاعلات السياسية والعسكرية خريطة نفوذ لأصحاب المصالح والفاعلين الرئيسيين.
وبمرور الوقت أصبحت هناك سلطة ومؤسسات أمر واقع؛ إذ باتت أطراف خمسة فاعلة ممثلة في رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكاله، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ورئيس حكومة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، واللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وهذه الأطراف الرئيسية متحكّمة في المشهد الليبي ولديها القدرة على عرقلة أيّ مسار للانتقال السياسي، خاصةً إذا ما تعارض مع مصالحها؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية تحقيق انفراجة في ظل ترسيخ هؤلاء الكبار الخمسة لسياسة الأمر الواقع؛ وهي إحدى الإشكاليات الرئيسية التي من الصعب تجاوزها في ليبيا، بمعنى آخر لا يمكن إنتاج أيّ تفاعلات بعيدة عن الأجسام السياسية والعسكرية المعبرة عنهم.
كما أنّ فكرة الإطاحة بكل هؤلاء من المشهد تواجه تعقيدات سياسية واجتماعية، وعليه فإنّ أقصى ما يمكن أن يتم في هذا الأمر؛ العمل على ممارسة مزيد من الضغوط على هذه الأجسام لإجبارها على تقديم تنازلات والتخلّي عن مواقفها المختلفة تجاه مساعي التسوية.

سطوة الخارج

ولعلّ اللافت في الأزمة الليبية ليس هشاشة المشهدين السياسي والأمني في البلاد فقط بل تداخل العامل الخارجي بالداخلي وتعويل الداخل على الخارج وبشكل يكاد يكون كليّا، إلى حدِّ أنّ معظم الفاعلين المحليين الليبيين لا يثقون في قدرات المفاوض الليبي، ويرون أنّ الحل لا يمكن إلّا أن يكون خارجيّا.
سطوة حضور العامل الخارجي في الأزمة الليبية، عملت على إخراج الأمر برمّته من أيدي الليبيين، وأحال الفاعلين المحلّيين المتصارعين على الشرعية والنفوذ والسلطة إلى وكلاء حرب بالإنابة عن صراع إرادات دولية اختلطت فيه التطلّعات الجيوسياسية لقوى إقليمية صاعدة تحاول أن تلعب دورا، مع إرادة اللاعبين الكبار لإعادة رسم خريطة المنطقة بعد فيضان ما سمي بالربيع العربي.
وبين هذا وذاك، انخرطت في وحل الأزمة الليبية دول ترى أن تداعيات الأزمة الليبية أصبحت تشكِّل تهديدا جديّا لأمنها واستقرارها. لذا يعدّ المراقبون الأزمة الليبية نموذجا غاية في التكثيف للعبة الأمم.

مسؤولية الجميع

اليوم تُجمع عدة تحليلات وقراءات على أنّ استقالة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا السنغالي عبد الله باتيلي في 16 أفريل 2024، كان بمثابة مؤشر قوي على عودة ليبيا إلى مربع التوتّر الأول وحالة الانقسام والتشظي المؤسساتي التي تشهدها البلاد منذ 2014، بالإضافة إلى تكرّر حالة الانفلات والصدام بين التشكيلات الأمنية والعسكرية التي تتجاذبها الولاءات الجهوية والمناطقية.
بدا واضحا في نص الإحاطة التي قدّمها باتيلي إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وضَمنَّها استقالته، أنه يحمّل مسؤولية الفشل الذي آلت إليه مساعيه في جمع الفرقاء الليبيين حول طاولة المصالحة الوطنية، وإنهاء انقسام السلطة التنفيذية، وتنظيم انتخابات عامة، إلى “الأطراف المؤسسية الفاعلة الرئيسة التي تعاملت مع محاولاته بـ”لامبالاة” وتعمّدها تهميش خريطة الطريق التي توصّل إليها ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف، بداية 2021، ونصّت على توحيد السلطة التنفيذية، وتنفيذ حزمة من الإجراءات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، تنتهي بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية تفضي إلى إرساء مؤسسات حكم دائمة، في 24 ديسمبر 2021.
ولم يستثن باتيلي أيّا من القائمين على الأجسام السياسية والعسكرية في ليبيا، فقد اتهم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة بعرقلة تنظيم الحوار، الذي دعا إليه من خلال “وضع شروط مسبقة تتطلّب إعادة النظر في القوانين الانتخابية”، والمطالبة بـ”اعتماد دستور جديد شرطا مسبقا للعملية الانتخابية”، واتهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح باحتكار السلطة التشريعية، رغم أنّ “مجلس النواب قد انتُخب عام 2014، أي قبل عشر سنوات، ومن ثم، فإنّ فترة ولايته قد انقضت، مثله مثل باقي المؤسسات الانتقالية الحالية”.
 أما عن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فرأى باتيلي أنه “يضع شرطا لمشاركته إما دعوة الحكومة المدعومة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، وإما إلغاء دعوة الدبيبة، أي استبعاد الحكومتين”؛ وهو الشرط الذي يراه باتيلي غير واقعي، إضافةً إلى أنّ “تخصيص مقعد منفصل على الطاولة للحكومة المدعومة من مجلس النواب من شأنه أن يضفي الطابع الرسمي على الانقسامات في ليبيا”.

خطر الانفصال

في الواقع لا تقف اليوم تعقيدات الأزمة الليبية على المستويين السياسي والأمني، بل تجاوزت ذلك في ظل الحديث عن تغيّر المشهد “الجيوسياسي” بإعلان فك الارتباط بين الشرق والغرب عبر خطوات سياسية ومالية وعسكرية، وخاصة من جانب المعسكر الذي يتزعّمه الرجل القوي الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وقد روّج لاسمه بديلا محتملا لاستعادة توازنات السلطة القديمة المتعارف عليها زمن القذافي خصوصا منذ شنّه بما يعرف بـ”عملية الكرامة” في سنة 2014، قيل آنذاك بهدف توحيد ليبيا تحت سلطته وهزيمة ما سماها “الميليشيات الإسلامية” الموالية للحكومة المدعومة من المؤتمر الوطني العام قبل عشر سنوات ثم محاولتيه الفاشلتين في السيطرة على العاصمة والمنطقة الغربية عامَي 2019 و2020.
عند النظر في عمق ما يجري على الأرض من محاولات تكريس انفصال شرق ليبيا عن غربها يمكن أن نقف على عدة معطيات يصفها محلّلون بالمحفّزة لتقسيم البلد، بكونها خطوة منتظرة وأمر واقع بعد فشل كلّ المحاولات لجمع الفرقاء على كلمة سواء بينهم.
– التحرّكات العسكرية لخليفة حفتر في اتجاه الجنوب الغربي الليبي وتأمين الجنوب وكل مناطق سيطرته بهدف التحضير تكتيكيا لأيّ صدام مسلّح مع قوات الغرب اللّيبي وقضم بعض الأراضي الجديدة وإنشاء منطقة النفوذ الجغرافي التي ينوي قادة الشرق حكمها والتصرف في ثرواتها، والتي سوف تضم عمليا فزان وبرقة. وبمعنى أدق ضمان السيطرة على مناطق النفط والغاز التي تقع ضمن نطاق المنطقة الوسطى لليبيا.
وتتّضح الصورة أكثر بعد زيارة نجل حفتر العاصمة الروسية موسكو وبوركينا فاسو التي تمثّل إلى جانب النيجر ومالي حلفاء موسكو الجدد في إفريقيا وكلها تأتي تحت عنوان: الصراع بين روسيا والولايات المتحدة على مراكز النفوذ في ليبيا.
– تكفّل رئيس البرلمان عقيلة صالح بوضع الإطارين السياسي القانوني لتغيير المشهد الليبي وفرض أمر واقع جديد بعدما استعان بالبرلمان لسحب قيادة القوات المسلحة من المجلس الرئاسي، وأسقاط كل مشروعية لحكومة الوحدة الوطنية.
ويرى مهتمون بالشأن الليبي أنّ هذه الخطوة تتجاوز دائرة جسّ النبض أو مناورة تكتيكية أو إعادة خلط للأوراق في إطار صراعه مع الغرب، بل تتجاوز ذلك إلى الإعلان وبشكل رسمي، للداخل والخارج بانطلاق العد التنازلي نحو فرض كيان ليبي في الشرق مستقلّ سياسيا وأمنيا وماليا عن الغرب.
– التوجّه نحو قطع الخيط الوحيد الذي ما يزال يوحّد الليبيين وهو المصرف المركزي الذي تم عزل محافظه صديق الكبير من منصبه بقرار من محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي وتعيين بديل عنه، مما أدى إلى رفع فصائل مسلحة من الطرفين جاهزيتها استعدادا لمواجهات مسلحة.
وتلا ذلك إعلان رئيس الحكومة المكلّفة من مجلس النواب أسامة حماد حالة القوة القاهرة على قطاع النفط ووقف إنتاج الخام وتصديره؛ احتجاجا على ما اعتبره اقتحام لجنة تسليم وتسلّم مكلّفة من المجلس الرئاسي لمقر المصرف المركزي لتمكين الإدارة الجديدة للمصرف.
واستند اعتراض كلّ من مجلس النواب والحكومة المكلفة منه إلى أنّ تعيين محافظ البنك المركزي ليس من اختصاص المجلس الرئاسي، بل هو اختصاص أصيل لمجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة وفق الاتفاق السياسي الليبي الموقع بمدينة الصخيرات المغربية عام 2015.
أما المجلس الرئاسي فقد برّر قرار تعيين مجلس إدارة جديد للمركزي الليبي بأنه يأتي لتعزيز قدرة المصرف على القيام بمهامه بكفاءة وفاعلية، بما يضمن استمرارية تقديم الخدمات المالية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
توحي كلّ المؤشرات بأنّ محاولات انفصال الشرق الليبي عن غربه تُدفعُ بمحركات قوية في ظل تعنّت الفرقاء السياسيين وعدم رغبتهم في التقدّم نحو مصالحة وطنية تضع في اعتبارها بدرجة أولى مصالح الشعب الليبي المهدّد بوضع اجتماعي كارثي بسبب أزمة المصرف المركزي وتعليق إنتاج النفط، بالإضافة إلى ارتباط الأطراف المتحكّمة في المشهد بأجندات خارجية بعد تحوّل البلد إلى مركز رئيس متقدّم لانتشار “الفيلق الأفريقي” الروسي في القارة، وتواتر تقارير عن تحرّك أمريكي وأوروبي مقابل في المنطقة الغربية؛ على نحو يضع ليبيا في قلب صراع النفوذ بين القوى الدولية الكبرى، بكلّ مخاطره وتداعياته الأمنية والسياسية على البلاد والمنطقة عمومًا.