هجرة العائلات في تونس.. رحلة البحث عن حياة أخرى عبر “قوارب الموت”

تصاعدت وتيرة الهجرة البحرية غير النظامية المنطلقة من تونس، ما جعل البلد الواقع في شمال إفريقيا يتحول إلى منطقة عبور أولى نحو أوروبا مرورا بإيطاليا.
وبات الحرس البحري التونسي يُعلن بصفة يوميّة تقريبا عن ضبط المئات من المهاجرين غير النظاميّين أو إنقاذهم على طول السواحل.
وشملت الهجرة فئات مختلفة من شباب ونساء وأطفال قصّر وعائلات بأكملها.
وفي تسعينات القرن الماضي، فإن عائلة واحدة- حسب المختصّين في الهجرة- كانت تدعم هجرة شخص أو شخصين من أفرادها، من خلال توفير الدعم المالي واللوجستي لتسهيل عمليّة الهجرة، غير أنّ التغيّرات الاجتماعية والسياسية الحاليّة دفعت عائلات كثيرة إلى اللّجوء إلى خيار الهجرة السرية، فارتفعت وتيرة هجرة الأسر خاصّة بعد 2011 وزاد دعم العائلات لجميع أفرادها وباتوا يُفضّلون المصير الجماعي.
وبناء على مختلف التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة لم يعُد حلم الهجرة إلى أوروبّا يُراود فئة الشباب فقط، إنّما أصبحت الهجرة هدف عائلات بأكملها، وخير دليل على ذلك القصص والمآسي الإنسانية التي باتت تعترضنا كلّما تصفّحنا مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر متابعتنا وسائل الإعلام، فمنذ زمن غير بعيد تمكّنت دوريّة تابعة للمنطقة البحريّة للحرس الوطني بجرجيس بالإقليم البحري بالجنوب، خلال الليلة الفاصلة بين 17 و 18 أوت من إلقاء القبض على 6 تونسيّين كانوا بصدد الإعداد لاجتياز الحدود البحرية خلسة.
ومن بين المُجتازين امرأة وأبناؤها الأربعة، الّذين تراوحت أعمارهم بين 10 أشهر و10 سنوات.
ظاهرة مجتمعيّة استفحلت شيئا فشيئا لتدفعنا إلى التساؤل عن الدوافع التي أجّجتها.
ويرى مراقبون أن تعثر الانتقال الديمقراطي الذي أعقب ثورة 14 جانفي وتدهور الأوضاع الاقتصادية المتأتي أساسا من عجز رافعات النمو عن تحقيق الرفاه الاجتماعي، عزز تنامي فكرة الهجرة (الحرقة) لدى بعض العائلات التونسية.
كما ساهمت البطالة واتساع دائرة الفقر والتهميش في ضرب الاستقرار العائلي بمفهوميه النفسيّ والاقتصادي، ما دفع الكثير من العائلات إلى البحث عن بدائل أخرى وآفاق أرحب تحتضن أحلامها في تحقيق الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.


رحلة البحث عن مستقبل أفضل


أعدّ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سابقا دراسة ميدانيّة حول نيّات الهجرة لدى الأسر التونسية.
وكشفت الدّراسة، التي صدرت قبل سنة تقريبا وشملت سبع ولايات تونسية من مختلف جهات البلاد بالاعتماد على عيّنة من 1400 أسرة، أنّ 57.8% من الأسر المُستجوبة ترى أنّ مستقبل أطفالها سيكون أفضل خارج البلاد.
وبناء على مُخرجات الدراسة يرى المنتدى أنّ “معالجة الهجرة غير النظامية يجب أن تكون شاملة وتشمل أوّلا مسألة الاستقرار السياسي الّذي يُعيد الأمل إلى التونسيين في المستقبل.
كما أكّد الناطق باسم المنتدى رمضان بن عمر، في تصريحات سابقة، أنّ “معظم العائلات الرّاغبة في الهجرة لديها صعوبات تتعلق بوضعيّة أبنائها، سواء كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصّة أو يحتاجون إلى مسارات علاجيّة طويلة في المستوى الصحي أو النفسي غير متاحة في تونس بسبب الأزمة التي تعيشها”.
وكان رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبد الكبير، أكّد خلال ماي الماضي، أنّ نسبة هجرة العائلات بطريقة غير نظامية لم تكن تتجاوز 2% على أقصى تقدير في سنوات سابقة مثل 2014، لكنّ النسبة ارتفعت في 2023 لتبلغ حوالي 12%.
وحذّر عبد الكبير من مآسي كبرى قد تشهدها تونس، خاصّة مع عدم امتلاكها إلى اليوم خطّة استراتيجية واضحة للتصرّف في موضوع الهجرة.
تُعدّ الهجرة مقياسا جيّدا لقياس قدرة الدولة على تقديم مستقبل إلى مواطنيها، لكن بعد مرور سنوات على الثورة التونسية ومختلف التغيّرات السياسية التي شهدتها تونس بعد 2011، ماتزال أعداد المهاجرين تتزايد.


أزمة ثقة


يرى المختص في الهجرة غير النظامية حسّان البوبكري أنّ ارتفاع وتيرة الهجرة لدى العائلات، يعكس تنوّعا في سمات المهاجرين والمشاركة المتزايدة لمختلف الفئات الاجتماعية والمهنية في مشاريع الهجرة خلال الثلاث سنوات الماضية، إذ أصبحت قوارب الموت تضمّ أُسرا بأكملها، وقصّر يسافرون بمفردهم (1046 في 2020، 2042 في 2021، و 2424 قاصرًا في 8 أشهر ونصف من 2022)، ناهيك عن هجرة نساء مؤهّلات، حوامل أو مسافرات مع أطفالهن الصغار (206 في 2020 و526 امرأة في أكثر من 8 أشهر من 2022).
وحسب المختصّ لا تتعلّق هذه التدفّقات بالمعطلين عن العمل من الشباب فحسب، بل تضمّ أيضا الموظّفين والعاملين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسّط، أي أنها لا تشمل فقط الطبقة الفقيرة فحسب، إنّما تشمل أيضا الطبقات الوسطى.
كما يُؤكّد البوبكري أنّ هذه التعبئة الاجتماعية الجديدة لبناء “مشروع الهجرة” للأسر وتعبئة مبالغ ضخمة (15000 إلى 25000 دينار تونسي لكل مهاجر)، الّتي يطلبها المهرّبون، تُحيل إلى أزمة ثقة حادة بين التونسيّين وحكّامهم، وتواصل التزام الزعماء السياسيّين التونسيين الصمت في مواجهة خطورة أوضاع الهجرة التي تغذّيها في المقام الأول الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، وفق قوله.
لقد تغيّرت أيضًا صورة المهاجر، حسب البوبكري، إذ أصبحت المسألة تتعلّق بعائلات بأكملها، ونساء عازبات، وأشخاص مستقرّين يدفعون مبالغ مالية طائلة للهجرة.
في المقابل تُظهر الدراسات والبحوث الميدانيّة التي أُجريت في الآونة الأخيرة، وفق الباحث في علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، أنّ الأسر استثمرت في الماضي في تعليم أبنائها، لأنّ المدرسة ونظام التعليم بشكل عام كانا الضّامنين للنهوض الاجتماعي، أمّا اليوم أصبح مشروع الهجرة هو المنظور الوحيد الموثوق به لقطاعات كاملة من المجتمع التونسي.
وأضاف أنّ المهاجرين غير النظاميّين يسلكون بشكل متزايد طرقا جديدة، ممّا يجبرهم على القيام بجزء من الرحلة بشكل قانوني عبر تركيا أو صربيا أو بلغاريا، قبل عبور البلقان للوصول إلى أوروبا الغربية عن طريق الدفع للمهرّبين، مع ضمان القدرة على الاعتماد على المساعدة المالية من الأسرة أو الجماعة أو القرية.


هجرة العائلات من منظور سوسيولوجي

قالت الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم، في تصريح خاص ببوّابة تونس، إنّ ظاهرة الهجرة غير النظامية شهدت تحوّلات كبيرة في مستوى منخرطيها، إذ أصبحت هجرة معلنة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عبر الصّور والفيديوهات الّتي يقوم بتنزيلها المهاجرون غير النظاميّين ويتمّ التخطيط لها بأسعار خياليّة.
وأضافت بن بلقاسم أنّ الهجرة غير النظامية باتت تمسّ جميع الفئات العمرية والاجتماعية إناثا وذكورا، مشيرة إلى الدور المهم الذي باتت تضطلع به العائلة في عملية الهجرة غير النظامية من خلال تشجيعهم بالمال والمعلومة، وهو ما يبدو جليّا، وفق تعبيرها، في هجرة الشباب والقصّر، إذ أصبحت العائلة تضمن لأطفالها عملية الهجرة غير النظامية.
وفي ما يتعلّق بالدوافع، أشارت بن بلقاسم، إلى أنّ هناك أسبابا اجتماعية جعلت الهجرة “ثقافة متفشّية”، إذ أصبحت المسألة تُطرح في الوسط العائلي والمحيط المدرسي وفي الأغاني، إضافة إلى دور المؤثّرين الذين أصبحوا يُهاجرون بطريقة غير نظامية وينشرون مغامراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أنّ لهم متابعين يُمكن أن يتأثّروا بهم.
وذكرت الباحثة أنّ هناك أسبابا اقتصادية تتمثّل في تدهور المقدرة الشرائية وارتفاع نسبتي البطالة والفقر وأسباب سياسيّة تعكس انعدام الثقة في الطبقة السياسية بسبب الوعود الكاذبة وفقدان الأمل في السلطة.
وشدّدت على أنّ المواطن لم يعُد يشعر بالأمان في تونس ويخشى على مستقبل أطفاله، لذلك يلجأ إلى البحث عن مستقبل أفضل للعائلة التي باتت تضطلع بدور أساسي في قرار الهجرة وتستغلّ أبناءها القصّر لتسهيل إجراءات الحصول على الوثائق.
بدوره فسّر المختص في علم الاجتماع محمد الجويلي هجرة العائلات، في تصريح سابق له، بأنّ تزايد انخراط العائلات التونسية في عمليات الهجرة اللانظامية، يعكس توسّع خارطة انسداد الأمل، موضّحا أنّ مساهمة العائلات في هذا النّوع من الهجرة يكون إمّا بتوفير الدعم المالي لأبنائها المقبلين على الهجرة أو أن تكون العائلات نفسها طرفا في رحلات الهجرة.
ظاهرة اجتماعية أصبحت تنخُر المجتمع التونسي وتؤرّق التونسيّين، ما يستوجب التصدّي العاجل لشبكات التّهجير، من خلال تكثيف المراقبة وكشف نشاطها وتفكيكها، إضافة إلى ضرورة وضع خطّة استراتيجية واضحة المعالم تشمل معالجة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لبرامج فاعلة، لا برامج محدودة تكون مجرّد حبر على ورق.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *