نيويورك تايمز: التنّ في تونس من أكلة ضرورية إلى رفاهية بعيدة المنال
tunigate post cover
تونس

نيويورك تايمز: التنّ في تونس من أكلة ضرورية إلى رفاهية بعيدة المنال

مُكلفٌ جدّا، الأولوية للتصدير من أجل جلب العملة الصعبة، فساد وبيروقراطية.. ذاك ما جعل التنّ يغيب رويدا رويدا عن الأطباق التونسية
2023-07-03 21:02

تركت العولمة ندباتها على خدّ المجتمع التونسي وغيّرت عاداته، وعمّقت الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد آثار هذه التحوّلات. فالتنّ (التونة) الذي لا يكاد يغيب عن طعام التونسيين لكلفته البسيطة سابقا، جعله البحث عن دولارات التصدير واهتراء القدرة الشرائية للمواطن بفعل التضخّم، أكلةً بعيدة المنال.
ذاك ما حملتنا إليه فيفيان يي Vivian Yee في مقالها الصادر اليوم الاثنين 3 جويلية بصحيفة نيويورك تايمز، متحدّثةً عن تونس المهووسة بالتونة أو التن، الذي يصبح بفضله الطعام المفضّل أقل تكلفة بكثير، أو قل إنّه من المفترض أن يصبح كذلك في وقتنا الحاضر، ذاك زمن ولّى…


وصفة تونسية خالصة
يضع التونسيون التنّ المعلّب على البيتزا والمعجّنات وكل شيء آخر تقريبا. فهو عنصر أساسي في كل الشطائر (الساندويتش/الكسكروت) تقريبا. لكن التضخّم يُنذِرُ بتحويل أحد الأشياء الضرورية اليومية إلى رفاهية بعيدة المنال.
قد ينتمي المرء إلى نادٍ للأسماك، أو يتصفّح كتاب طهي يركّز على الأسماك المعلّبة ليخبرك عن أفضل طريقة لطهي طعام مطبوخ بالفعل. وقد تكون مثل بعض مستخدمي TikTok تعقد ليلة أسبوعية مع زوجتك “موعد الأسماك المعلّبة”، لكنّك لن تُدرك إمكانيات الطهي الكاملة للأسماك المعلّبة، وتحديدا التن حتى تزور تونس وتكتشف الاستعمالات الحقيقية والمتنوّعة لهذا السمك، في البلد الذي يواجه ساحله الشمال إفريقي إيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسّط.
وضع التونسيون التونة المعلّبة على السَّلطات، وضعوه على أوعية من الحساء، يغطّونها فوق المعكرونة، يحشوونه في بريك، المعجّنات الساخنة، يقذفونها على مقبلات الباذنجان والفلفل المشوية والسّلَطَة المشويّة، ويرتّبونها على شكل زخرفي مع بيضة مسلوقة إلى أرباع وزيتون أو اثنتين. تصل البيتزا مع حفنة من التونة المعلّبة في المنتصف.
قال علاء الدين بومايزة (29 عاما)، وهو طبّاخ يدير وجبات عشاء مؤقتة في العاصمة تونس، “نضيف التونة، وهي تونسية”… إذا كنت تريد أن تأكل طعاما تونسيّا، فاسأل عمّا إذا كان يحتوي على تونة أم لا”. إنه يبالغ في الحدّ الأدنى فقط. أمّا الطبّاخ بومايزة، فيعتقد أنّ استعمال التونة بدأ وسيلةً لتزيين الأطباق.
في حين استشهد رافام شداد -وهو فنان تونسي يبحث في التقاليد الغذائية- بأسطورة من القرن التاسع عشر عن أصول “الطبق التونسي” الكلاسيكي، الذي يجمع بين التونة المحفوظة وعجينة الفلفل الحار المعروفة باسم الهريسة والليمون المحفوظ والزيتون والخضروات المخلّلة: أنّه كان رجل فقير من قرية ساحلية بالقرب من تونس قد انتقل من كشك في السوق إلى كشك آخر في السوق، وطلب كلّ ما يمكن أن يدّخره كلّ منهم في وجبته.

التفسير الحقيقي، من وجهة نظر السيّد شداد، ربما يكون أبسط بكثير: “لدينا الكثير من التونة”.


ثروة “محليّة”.. ولكن!
تعدّ المياه قبالة تونس من أفضل مناطق التفريخ في العالم لسمك التونة ذات الزعانف الزرقاء، وهي مجموعة متنوّعة عالية القيمة تذوب في فمك تُستخدم في السوشي الراقي. في كل عام، خلال موسم صيد التونة، تتلاقى القوارب من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط ​​-التونسيون والمصريون واليونانيون- من أجل الصّيد.
لكن كما ستفعل العولمة، فإنّ القليل جدّا يذهب إلى التونسيين. القيود الدولية المفروضة على صيد الأسماك ذات الزعانف الزرقاء والطلب العالمي المتزايد، يحدّان من كمية الصيد. بأسعار الجملة التي تبلغ نحو 55 دولارا للرطل بالنسبة إلى بطن التونة الدهنية المرغوبة، وما يصل إلى نحو 18 دولارا للرطل لبقية الأسماك، يتمّ تصدير معظم التونة التونسية المتاحة لجلب الدولارات التي تشتد الحاجة إليها في “اقتصادها البائس”، ذاك ما وصفت به نيويورك تايمز الاقتصاد التونسي.


يسافر المشترون إلى صفاقس -أكبر ميناء للصيد في البلاد- من أماكن بعيدة مثل اليابان لاقتناص كميات من سمك التونة، بينما ما يزالون يسبحون في الشباك. يتمّ رعي التونة الحية الأخرى نحو الشاطئ، حيث يقوم مزارعو الأسماك بتسمينها قبل التصدير. يتمّ تعليب نسبة صغيرة من التونة التونسية الزرقاء الزعانف وتصديرها.
صدّرت تونس ما قيمته 58 مليون دولار من الأسماك الحية عام 2021  -وفق المرصد الفلاحة التونسي- أكثر من الثلثين إلى اليابان. تم تقسيم الباقي بين إسبانيا ومالطا.قبل وصول المشترين اليابانيين في أواخر الثمانينات، تمّ بيع التونة التونسية إلى السوق المحلية وإلى أوروبا. كانت التونة زرقاء الزعانف الطازجة والمعلّبة متوفّرة في الأسواق المحلية بسعر رخيص. “بعد ذلك، عندما رأينا الأسعار التي سيدفعها اليابانيون…”. قال مصطفى قرام، قبطان سابق لقارب التونة وصياد رياضي خبير ولديه قسم صيد أسبوعي في موزاييك المحطة الإذاعية الأكثر شعبية في البلاد: “فجأة، لم يعد بإمكانك شراءه. وعندما وجدناه، كان مكلفا للغاية”. “والتونسيون يأكلون الكثير من التونة”. الكثير ممّا يدخل في العلب التونسية الآن هو تونة مستوردة منخفضة الجودة. إذا كانت تأتي من المياه المحلية، فهي من أنواع التونة الأقل رواجا.


ثنائية الاحتكار والبيروقراطية
يقول الاقتصاديون إنّ البيروقراطية والاحتكارات الراسخة والشركات المملوكة للحكومة الخاسرة قد أفسدت الاقتصاد التونسي، ولا يمكنها تحمّل خسارة العملة الأجنبية التي تجلبها التونة. لكن الانهيار الاقتصادي الناجم عن سنوات من سوء الإدارة أدّى الآن إلى ارتفاع التضخّم لدرجة أنّ العديد من التونسيين بالكاد يستطيعون دفع ثمن جرعتهم المعتادة من التونة المعلبة، ناهيك عن الزعانف الزرقاء الفاخرة.
قال الصيادون في صفاقس إنّ العديد من العائلات كانت مرة أخرى تحتفظ بسمك التونة الخاص بها في المنزل. كان هذا شائعا بشكل خاص قبل شهر رمضان المبارك، حيث يمكن لعائلة مكوّنة من أربعة أفراد أن تأكل بسهولة ثلاثة كيلوغرامات من التونة. في أواخر ماي، وقف ماجد بن حامد -قبطان سمك التونة الذي يصطاد منذ عام 1992- وسط شباك الصيد الزرقاء والخضراء الموضوعة على طول الميناء، حيث كان الجميع منشغلين بإصلاحها بإبر معدنية طويلة. البقع من رماد سيجارته وقطع الألياف من الشباك تلتفّ معا في مهبّ الريح.


العين بصيرة واليد قصيرة
سيبدأ الموسم في اليوم التالي ويستمر أكثر من شهر بقليل -وهو الحدّ الذي فرضته اتفاقية دولية تهدف إلى عكس الصيد الجائر، والذي دفع بحلول التسعينات مخزونات التونة ذات الزعانف الزرقاء في المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، ​​إلى حافة الانقراض. قال السيد بن حامد إنّ الاتفاقية أنقذت التونة، لكنه أعرب عن أسفه لأن الطلب الأجنبي المذهل جعل ذلك ضروريًا، مما أدى إلى قلب صناعة محلية صغيرة غير رسمية. قال: “لقد أصبح تجاريّا جدّا”. قال إنّه تذوّق الزعانف الزرقاء التي اصطادها، لكن قلة من التونسيين الآخرين سيفعلون ذلك. وأضاف: “لا أحد لا يريد أن تكون لدى عائلته ومواطنيه هذه التونة”. “لكن بالنسبة إلى الناس هنا، إنّه مكلف للغاية”.

عناوين أخرى