وجدي بن مسعود
لم أكن بحاجة للكثير من الكلام، فوحده سحر المكان يختزل كل الحكاية، فبين أزقة الكوفة الصغرى ومدقاتها، تقف في حضرة التاريخ لتحدثك واجهات البيوت بنقوشها المبهرة ونفائس تصميماتها البديعة، عن إرث حضاري وروحاني تختص به : نفطة، هذه المدينة الساكنة على عتبات الصحراء.
تستقبلك نفطة بآثارها الخالدة، وعمرانها البديع، ومدينتها العتيقة المشهورة في الآفاق بتسمية الكوفة الصغرى، فتأخذ بمجامع القلب شغفًا بالجمال والأمجاد التي تسكنها.
بعيدًا عن ضجيج المدنية وصخبها المفتعل وبهرجها الزائف، لا تملك إلا الاستسلام لذا الهدوء الذي يغمر المدينة، والسكينة التي يقذفها إلى يقينك وقلبك مطمئنًا أن للروح واحة تستظل بظلها بحثًا عن المعنى.
قطب صوفي وعلمي
مثل الراهب المتوحد العاشق للبرية والباحث عن كنه الوجود، تبدو نفطة زاهدة عما دونها من المدائن الكبرى وعمارتها الحديثة، جاعلة من موقعها على الخارطة منارة لكثبان الصحراء.
“هي ثغر الصحراء الباسم، والمدينة التي اجتمعت عندها ميزات جغرافية وطبيعية، من شريط الواحة وبريق شط الجريد الذي ينعكس على المناخ والإنسان”، هكذا يختزل مراد مزيود الصحفي بالقناة الوطنية وأصيل نفطة، حكاية مكان تستريح بين ضفتيه أمجاد التاريخ وأشواق الصوفي المتبتل في زهده.
لعله ذلك المزيج بين البساطة والسحر، والبعد عن توحش المادة وسطوتها، ما جعل نفطة مقصدًا ومحجًا للمتصوفين والعارفين بالله، وورثة علم الأنبياء.
جعل أولئك المتبتلين في محراب العشق الإلاهي، والمتيمين بالزهد، والحاملين قبس العلم اللدني، من نفطة عاصمة للتصوف، تزدان اليوم بأكثر من 80 مقامًا ومزارًا صوفيًا، تختزل العلوم والمعارف والفضائل العرفانية.
وتختزن الذاكرة الشعبية جانبًا مهمًا من التراث الشفوي الصوفي للمنطقة، مجسمًا في المدائح والأذكار والمرثيات التي قيلت في بعض أعلام وأقطاب التصوف، على غرار “مرثية عبد الباقي” التي يقول مطلعها:
الله لا إله إلا الله ربي الإله يا لطيف
روا غاب الشيخ النور سيد العلام يا شريف
ما أكبر نهار عبد الباقي من فرقته القلب سخيف
تتوزع الزوايا على عدة طرق صوفية ما تزال تحافظ على تقاليدها وطقوسها، أشهرها الطريقة التيجانية والقادرية، والحفوظية والعلوية والتي ترجع جذورها إلى الولي الصالح “سيدي أبوعلي السني”، المشهور بمحاربة البدع والخرافات، وإعادة إحياء منهج القران والسنة النبوية.
“طوال تاريخها الممتد أكثر من ثمانية قرون، مثلت الكوفة الصغرى قطبًا ثقافيًا، ومدينة الكتاب والشعراء والفقهاء والعلماء”، يضيف محدثي ساردًا علي قائمة لأشهر أعلام المكان، على غرار الفقيه العالم أبوالعباس الدرجيني، والعلامة محمد الخضر حسين الذي ولي مشيخة الجامع الأزهر في مصر سنة 1952.
جسر حضاري من العراق إلى بلاد الجريد
“هنا أناخوا رحالهم، وطووا شراع رحلة طويلة من العراق، فرارًا من بطش السلطة”، هكذا تروي الذاكرة الشعبية فصولًا من تاريخ نفطة والكوفة الصغرى، والتي أنشئت وتأسست بفضل مهاجرين من البصرة والكوفة من أتباع علي ابن أبي طالب، والمعارضين لحكم الأمويين.
من أرض الرافدين حملوا مآثرهم في الهندسة والعمارة، جاعلين من المدينة الجديدة صورة مصغرة عن شوارع البصرة، وأحياء الكوفة وبيوتها، بتخطيطها الاستثنائي، ولونها الذي تستمده من الطوب الأصفر الطيني المستخدم في البناء، والزخرفة البديعة على واجهات البيوت والأقواس ومداخل الأزقة.
استلهم الوافدون من عبقرية المكان، وأضافوا إليه معارفهم في فنون زراعة النخيل وتأصيله بعد جلب بعض مشاتله من ضفاف دجلة بالعراق إلى واحات توزر ونفطة.
لم يقتصر تأثير المؤسسين بجذورهم “البصراوية والكوفية”، على البناء والزراعة والاقتصاد، بل شملت كل مناحي الحياة، وما تزال بعض ملامحها حاضرة بالعادات والتقاليد المتوارثة بين أهل نفطة وبين ثنايا “اللحفة” التقليدية التي تميز نساء المدينة، وتستمد أصولها من العباءة العراقية، ما يقيم الدليل على عراقة الجسر الحضاري الممتد من بغداد إلى عمق الجريد التونسي.