ملحمة طيار شراعي تونسي اخترق أجواء الاحتلال ومهّد سماء فلسطين للشهيد محمد الزواري
إذا كانت ذكرى الشهيد الطيار المهندس محمد الزواري تحلّق في سماء فلسطين المحتلة مع كل مسيرة مباركة تحلّق في أجوائها قبيل أن تنقض على المحتل، فإنّ شهيدا تونسيا عرج من قبله إلى سمائها، طائرا في أجواء الأرض المقدّسة قبل أن ينثر روحه على أرضها سعيدا صامدا، بعد ساعات ملحمية من الاشتباك مع جنود الاحتلال من مسافة الصفر.
الحديث عن الطيار الشراعي الشهيد ميلود بن ناجح نومة، قد يقصر عن بلاغته وفصاحته عن استحضار مآثر أحد أبرز النجباء التونسيين على طريق القدس، ممن نذروا أرواحهم للبندقية على دروب الحرية والفداء.
وقد يصح من باب نافلة القول، توصيف الشهيد ميلود بأنه كان “شهيدا فوق العادة”، كيف وهو الشاب التونسي الذي تنازل في مقتبل العمر عن كل الطموحات والأحلام والآفاق المحمّلة بالفرص والمغريات المشبعة بحب الحياة، زاهدا في كل تفاصيلها وألوانها، مخيّرا تلبية نداء ميدان الجهاد والشرف دفاعا عن الأرض السليبة.
“راهب” بالزي العسكري
لعلّ المتأمل في الصور القليلة المتداولة للطيار الشراعي الشهيد، يلحظ أنه كان في أغلبها متزنرا بالزي العسكري، ما يجعل من تلك المشاهد مشبعة بالمعاني والسيميائيات، أكثر من كونها مجرد تخليد لذكرى الفدائيين الذي عبروا إلى الأرض المحتلة، في أرشيف الفصائل الفلسطينية المقاومة.
بدا الشهيد نومة في أغلب تلك الصور بزيه الرمادي القتالي، أشبه براهب متوحّد بعباءته البسيطة، يسلك دروب التزهّد من الدنيا إلى الخلوة في البرية، بحثا عن الحق والمعنى.
اختزل نهج المقاومة الذي سار ميلود في دروبه الوعرة، معاني القداسة والتبتّل والتضحية، مفعما بصبر طويل في التدريب والإعداد والتجهيز استعدادا للحظة الذروة، حيث تجلى الحق في أبهى مظاهره، وتجسدت الكرامة بالموت كما يليق بالرجال، وسما فيها روحا وجسدا، إلى جانب رفيق الشهادة والبطولة خالد الأكر.
أبو علي التونسي
في حياته القصيرة بالمعايير الدنيوية، كانت حياة “أبو علي التونسي”، وهو الاسم الحركي الذي أطلقه عليه رفاق السلاح، حافلة بالترحال، قبل أن تكلّل مطلع الثمانينات بانتسابه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، وتحديدا عقب غزو لبنان سنة 1982، جاعلا من فلسطين بوصلة رحلته في مسارها الجديد على دروب المقاومة، بعد أن انطلقت من تونس قبلها بعدة سنوات، ليحط الرحال في سوريا سنة 1978.
من مدينة مدنين عروس الجنوب التونسي، بدأت الخطوات الأولى لرحلة الشهيد ميلود عندما أبصر النور سنة 1955، لينطلق في مغامرته خارج تونس للمرة الأولى سنة 1974 قبل أن يعود إليها سنة 1978 في زيارة أخيرة استمرت بضعة أسابيع، اتّجه بعدها إلى سوريا وفق روايات أفراد عائلته والمعلومات المتداولة عنه من مصادر أخرى.
لكن الثابت والمؤكّد، أنّ انتساب الطيار الشراعي الشهيد، إلى فصيل القيادي الفلسطيني أحمد جبريل، كان بمثابة خط فاصل في رحلة “البحث عن الذات”، وعنوانا لمرحلة استمرت 5 سنوات من التدريب والانتظام في العمل النضالي والعسكري في صفوف الجبهة، بين سوريا ولبنان، حيث كانت تتمركز أغلب الفصائل الفلسطينية الثورية.
عندما تحلّق الروح في سماء فلسطين
وسط تلك السنوات المشبعة بالانتماء الثوري المقاوم، كانت روح ميلود تعبر في أحلام اليقظة وساعات الكرى، “بوابة فاطمة” الحدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتطير فوق بحيرة طبريا، وتلوح لسهول الجليل، وتستنشق عبق حيفا وسواحلها الساحرة.
الحلم بلحظة الاشتباك ومعانقة تراب الأرض السليبة، راود الشهيد التونسي ليالي طويلة، لعله كان خلالها يتخيّل كل تفاصيل العملية، ويرسمها في خياله في انتظار تجسّدها، من ساعة الصفر إلى غاية الوصول إلى الهدف وأزيز الطلقات الأولى، ومن يدري فربما كان قد جهّز الهتافات التي دأب الفدائيون على ترديدها خلال تنفيذ عملياتهم الانغماسية، تأصيلا لخيارهم الحر في المقاومة والاستشهاد في سبيل فلسطين، ونغمها بلكنته التونسية المميزة.
رحلة بلا عودة
عندما رسم قسم التخطيط والعمليات بالجبهة، ملامح مخطّط هجوم الطائرات الشرعية، كان من الواضح أنها “رحلة بلا عودة”، وعملية انغماسية داخل عمق العدو لا مجال فيها إلّا للاستشهاد أو الأسر، فالطائرات الشراعية المستخدمة للانطلاق من جنوب لبنان نحو فلسطين المحتلة، لا يمكن الإقلاع بها مجدّدا بعد أن تحط على الأرض، ما يجعل من المرشّحين لتنفيذها “مشاريع شهداء”، خيارهم الوحيد القتال حتى الطلقة الأخيرة.
ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر 1987، وثبت 4 طائرات شراعية تحمل اسم “قبية”، ثأرا للقرية الفلسطينية التي تعرّضت لمجزرة صهيونية سنة 1951.
حلّقت الطائرات الشراعية المزودة بمحركات خفيفة على علو منخفض، تجنّبا لرصدها من رادارات الاحتلال، مسافة عدة كيلومترات من أقصى الجنوب اللبناني إلى شمال فلسطين المحتلة، حيث تمكّنت طائرتان من بلوغ أهدافهما.
تمكّنت طائرة الشهيد السوري خالد أكر من بلوغ ”معسكر غابور“ الذي يأوي وحدات النخبة بقوات الاحتلال، ليقوم إثر ذلك بالهجوم على عناصر المعسكر.
أما الشهيد ميلود نومة فقد سقطت طائرته قرب إحدى المستوطنات بعد المنطقة العازلة شمال فلسطين المحتلة، والتوى كاحله، ما دفعه إلى الاختباء مترقبا وصول دورية لقوات الاحتلال و”جيش لبنان الجنوبي” العميل، والتي كانت تمسح الحدود بحثاً عن مقاتلين آخرين، وفور اقترابهم، بدأ في إطلاق النار، فأصاب فيهم وأثخن، وتمكن من قتل 5 جنود وإصابة آخرين بجراح متفاوتة الخطورة، قبل أن يكتب السطر الأخير لملحمته البطولية، ويرتقي مقاتلا مقبلا مشتبكا.
النموذج الملهم
اكتست عملية “الطائرات الشراعية” أهمية كبيرة، فقد أسهمت في إحياء مسار المقاومة، والعمل الفدائي بعد انحساره عقب اجتياح لبنان سنة 1982، والضربات القاسية التي تعرّضت لها الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير التي أُجبرت على مغادرة بيروت باتجاه تونس.
تكمن أهمية العملية الإستراتيجية والمعنوية، في كونها شكّلت أول اختراق فدائي ناجح للعمق المحتل، بعد عمليتي “نهاريا” التي قادها اللبناني سمير القنطار في 1979، و”الساحل” بقيادة الفلسطينية دلال المغربي، قبلها بسنة واحدة.
كشفت العملية وهن إستراتيجيات المحتل الدفاعية والعسكرية، وشكّلت فشلا أمنيّا واستخباراتيا ذريعا، كما كسرت وهم السيطرة على الحدود، ما جعل من وقعها في الداخل “الإسرائيلي” كبيرا، على الصعيد الرسمي وردود فعل الرأي العام.
ألهمت بطولة الطيار الشراعي التونسي المشاعر في الأرض المحتلة، وأسهمت في تهيئة الأجواء لاندلاع الانتفاضة الأولى بعدها بحوالي أسبوعين في ديسمبر 1987، وأعادت الأمل للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وسائر الداخل المحتل، بأن شعلة الثورة لم تخب في النفوس، وما تزال الأجيال العربية تحمل أمانة الشهادة في صفوفها حتى التحرير.
تحوّل “الشهيد ميلود” إلى أسطورة حية، وأضحت عمليته الجريئة نموذجا دافعا لتطوير تكتيكات المقاومة وأدواتها، إذ اتّجهت عقول الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، على مدار العقدين الماضيين نحو تطوير وسائل الحرب الجوية على العدو، واكتساح أجوائه، بعد أن تبينت فاعليتها وقدرتها كأداة فارقة ومؤثرة في المواجهات المقبلة مع الاحتلال، ما مهّد لبداية حقبة الطائرات دون طيار.
يصف بعض المختصين في حركات المقاومة الفلسطينية، عملية “الطائرات الشراعية”، بكونها أول عملية جوية للمقاومة، مشكّلة جسرا إنسانيا وزمنيا بين مقاومين تونسيين، اخترقا سماء الاحتلال بأسلوب جمع بين البساطة والعبقرية العلمية، فما بدأه الشهيد ميلود نومة بإمكانيات تلك المرحلة، تلقّفه الشهيد المهندس محمد الزواري، لينطلق منذ عام 2006، في وضع اللبنات الأولى لمشروع “المسيّرات القسامية”.
حلّقت مسيّرات “أبابيل” و”الزواري” بعد ذلك بسنوات في سماء فلسطين، محمّلة بأحلام طيارين تونسيين، حملا مشروع المقاومة على جناحي الإرادة والمعرفة، حتى تكلّل صبرهما وتضحياتهما نصرا مؤزرا وإعجازا علميا، سيظل ينبض بإرث تونسي في “عشق فلسطين حتى الشهادة”.