مهزلة ترامب المخيفة.. كيف ستجعل “التعريفات الجمركية” أمريكا أقوى؟!

في غمرة فوضى الأسواق والمخاوف من خطر التعريفات الجمركية ما يزال الرئيس ترامب يصف حالة الذعر بأنها مجرد “قلق بسيط” بين المستثمرين، ويعتبر أنّ ما يحدث هو مجرد “تكلفة انتقالية” في طريق “إعادة بناء رائعة للاقتصاد الأمريكي”..

محمد بشير ساسي

العالمُ كمَا عرفناه قد انتهى.. العالم الجديد تحكمُه بشكل أقلّ قواعد راسخة، وبشكل أكبر اتفاقات وتحالفات..

بهذه العبارات كشف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في مقال رأي نشرته صحيفة التلغراف المحافظة، ملامح عصر جديد قرّر رسمها زعيم الدّولة العظمى، الحليفةُ التاريخية للمملكة المتّحدة.

مرحلة اضطراب

كلّ المؤشّرات كانت توحي بأنّ الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب بين أروقة البيت الأبيض ستتغيّر في خضمها قواعد اللعبة بشكل مقلق في عالم مضطرب، يخضع لمزاج السياسي الثري، قطب الأعمال والعقارات وقراراته الصادمة، ففي مشهد يعيد إلى الأذهان كوابيس الأزمات الاقتصادية العالمية، أعلن الرئيس الجمهوري العائد بقوة إلى المشهد السياسي عن فرض رسوم جمركية جديدة تطول الجميع، الحلفاء قبل الخصوم، والشركاء قبل المنافسين.

لم تكد تمر 48 ساعة على هذا القرار، حتى فقدت الأسواق العالمية أكثر من 3 تريليون دولار من قيمتها، ومع مرور أكثر من شهرين منذ تولّي ترامب الرئاسة في 20 جانفي 2025، تجاوزت الخسائر التراكمية 5.3 تريليون دولار، لتدقّ التوقعات الاقتصادية المتشائمة ناقوس الخطر جنوح النظام التجاري الدولي نحو مرحلة اضطراب أكثر خطورة وضراوة من فترة جائحة كورونا التي ضربت العالم قبل 4 سنوات، وقد تعيد الاقتصاد العالمي سنوات إلى الوراء.

ويرى باحثون في الاقتصاد السياسي، أنّ هذه الخطوة التصعيدية التي وصفها الرئيس الأمريكي بيوم “التحرير” ليست وليدة اللحظة، بل تمثّل امتدادا لرؤية اقتصادية “ترامبية” قائمة على الانعزالية والحمائية، ولكنها في نسختها

الجديدة أكثر حدة وتهورا، وهي مصحوبة بخطاب عدائي يصوّب سهامه نحو الداخل والخارج معا.

إستراتيجية مفضلة

خلال فترة رئاسته الأولى (2017-2021) اتّبع سيد البيت الأبيض إستراتيجية حمائية تجارية اعتبرها بمثابة الجناح الاقتصادي من أجندة “أمريكا أولا”.

وفرض خلال هذه السنوات سلسلة من التعريفات الجمركية هدفت بالأساس إلى خفض العجز التجاري، وحماية الصناعات الأمريكية، ومواجهة ما اعتبره ممارسات تجارية غير عادلة من قبل دول منافسة مثل الصين، ودول حليفة مثل كندا والمكسيك، مما مثّل خروجا كبيرا عن السياسات الداعمة للعولمة خاصة في شقها التجاري.

وفرض ترامب تعريفات عالية على المنتجات الصينية، في حين رضخت كندا والمكسيك وتم التوقيع على اتفاقية محدثة من اتفاقية نافتا للتجارة الحرة بين الدول الثلاث.

بعد وصوله إلى الحكم للمرة الثانية، كرّر ترامب أنّ “التعريفة” هي كلمته المفضلة، وهو يجادل أنّ التعريفات الجمركية ستشجّع المستهلكين الأمريكيين على شراء المزيد من السلع الأمريكية الصنع، مما يعزّز اقتصاد البلاد ويزيد من مقدار الضرائب التي يتم جمعها.

ويريد ترامب أيضا تقليص الفجوة بين قيمة السلع والبضائع التي تستوردها بلاده وتلك التي تصدرها إلى دول أخرى، بحجة أنّ أمريكا قد استغلت من قبل “الغشاشين” و”نُهبت” من قبل الأجانب.

واستهدفت التعريفات الجمركية التي أعلنها ترامب خلال فترة ولايته الحالية الشركاء التجاريين الرئيسيين الصين والمكسيك وكندا، وقال إنه يريدهم أن يفعلوا المزيد لمنع المهاجرين والمخدرات من الوصول إلى الولايات المتحدة، في حين استهدف ترامب بالتعريفات الجمركية الأخيرة الحلفاء الاتحاد الأوروبي، وكوريا الجنوبية واليابان وعدة دول حول العالم.

وحسب إدارة ترامب، من المتوقع أن تؤدي الرسوم الجمركية الجديدة إلى توليد إيرادات تزيد على 6 تريليون دولار خلال الفترة ما بين 2025 و2035، وهي أرقام نُسبت إلى مستشار البيت الأبيض بيتر نافارو، وفقا لما نقلته شبكة “سي إن إن”.

كما أشار ترامب في تصريحاته إلى أنّ بعض هذه الرسوم قد تُحقّق أكثر من تريليون دولار خلال العام المقبل، وهذا قد يسهم في تقليص الدين الوطني أو حتى تعويض جزء من ضرائب الدخل، حسبما ذكرت شبكة “سي بي إس نيوز”. وأضاف: “سترون مليارات، بل تريليونات من الدولارات تدخل البلاد قريبا من الرسوم الجمركية.

التعريفات الجمركية؟

لفهم أكثر بالتحليل والأرقام ما يحصل من موجة توترات واضطرابات في الأسواق العالمية وصدمات في البروصات الكبرى بسبب “السّلاح التجاري” الذي يستخدمه الرئيس الأمريكي، ويعتقد أنه سيجعل الولايات المتحدة عظيمة مجدّدا، نحاول الإجابة عن جملة من الأسئلة المهمة في سياق هذه الحرب التجارية الحامية.

ماذا نعرف عن التعريفات الجمركية؟ ماهي أنواعها؟ ما أهميتها في الاقتصاد والتجارة؟ وما أبرز عيوبها؟

– التعريفة الجمركية: هي رسوم أو ضرائب جمركية تفرضها الحكومة عبر سلطات الجمارك على السلع المستوردة من خارج البلاد، وتهدفُ إلى زيادة تكلفة السلع الأجنبية، ما يجعلها أقلّ تنافسية مقارنة بالمنتجات المحلية.

وتعدّ التعريفة الجمركية جزءا أساسيا من لوائح التجارة الدولية، وتستخدم لتنظيم تدفق السلع بين الدول وضبطه، ويتم تحصيلها بناء على نوع البضائع وكميتها والبلد الذي تأتي منه.

وعلى مرّ التاريخ ساعدت التعريفة الجمركية في تقليل الاعتماد على الواردات وتعزيز قدرة الاقتصاد المحلي على مواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية.

– أنواع التعريفة الجمركية: هناك أنواع مختلفة من التعريفات الجمركية التي تعتمدها سلطات الجمارك في الدول، ومنها:

1- التعريفة النسبية: وهي الضريبة التي يتم فرضها بنسبة مئوية من قيمة السلعة المستورة بدلا من تحديدها نقدا ثابتا. على سبيل المثال، إذا كانت نسبة التعريفة 10%، فسيتم فرض رسوم تعادل النسبة المئوية من قيمة البضائع المستوردة.

2- التعريفة المحددة: هي ضريبة تُفرض على أساس وحدة محددة من المنتج المستورد، بغض النظر عن قيمته. فقد تفرض الولايات المتحدة مثلا تعريفة بقيمة 3.2 سنت لكل لتر من الحليب المستورد.

ويكمن الفرق الأساسي بين التعريفة المحددة والنسبية في أنّ الأولى ترتبط بعدد الوحدات المستورة وليس بقيمتها السوقية، بينما تعتمد الأخيرة على نسبة مئوية من قيمة السلعة.

3- التعريفة المركبة: تجمع التعريفة المركبة بين النسبية والمحدّدة، فقد يتم مثلا فرض ضريبة بنسبة 5% من قيمة السلع، إضافة إلى رسوم بقيمة دولار أمريكي واحد لكل وحدة مستوردة.

4- التعريفة التعويضية: تُطبّق هذه التعريفة على المواد الخام المستوردة من أجل حماية الصناعات المحلية التي تعتمد على هذه المواد في تصنيع منتجاتها.

وتهدف إلى تحقيق التوازن بين المنتجات المصنعة محليا والمستوردة، خاصة عندما تكون السلع الأجنبية مدعومة بأسعار مخفضة تؤثر في قدرة المنتجات المحلية على التنافس.

5- تعريفة الحماية: يتم فرض هذا النوع من الضرائب الوقائية على المنتجات المستوردة بكميات كبيرة قد تشكّل تهديدا للصناعة المحلية، وذلك بهدف الحيلولة دون وقوع خسائر قد تتعرّض لها هذه الصناعات.

– أهميتها في الاقتصاد والتجارة: تُعدّ التعريفات الجمركية على الواردات أداة قوية في التجارة الدولية، إذ لا تؤثر فقط في أسعار المنتجات، بل أيضا في قرارات الشركات بشأن مكان تصنيع سلعها وبيعها. كما تُستخدم أيضا أداة إستراتيجية في مفاوضات التجارة بين الدول.

ومن إيجابيات التعريفات الجمركية أنها توفّر الحماية للصناعات المحلية، إذ تُفرض على المنتجات المستوردة لضمان أن تكون لدى الشركات المحلية فرصة أكبر للازدهار.

يُشجّع فرض التعريفات على المنتجات المستوردة على استهلاك السلع المنتجة محليا، والتي غالبا ما تكون أقل تكلفة. ويساعد ذلك في بناء اقتصاد أكثر اكتفاء ذاتيا واستدامة.

كما تُعدّ التعريفات مصدرا مهما للإيرادات للكثير من الحكومات، ويمكن استخدام هذه الأموال في تحسين البنية التحتية ودعم التنمية الاقتصادية وتمويل البرامج الاجتماعية.

يمكن أيضا استخدام التعريفات الجمركية لحماية الصناعات الحيوية المرتبطة بالأمن القومي، مثل الصلب والتكنولوجيا والطيران.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تستخدم بشكل انتقامي ضد سياسات بلد آخر تعتبرها الدولة المعنية عدوانية، إذ تفرض التعريفات ردّا على ممارسات سياسية أو تجارية غير مرغوب فيها.

معلوم أنّ جوهر “إستراتيجية” ترامب (الذي دعا الأمريكيين للصمود في هذه “الحرب التجارية” التي ستأتي ثمارها) ينبعُ من إيمانه بأن الولايات المتحدة قد تم استغلالها من مختلف دول العالم التي نجحت في تحقيق فائض تجاري على حساب بلاده.

 ووفق بيانات مكتب الإحصاء الفدرالي فإنّ فجوة تجارية تقترب من 1.2 تريليون دولار لصالح شركاء واشنطن التجاريين في السلع والبضائع عام 2024.

إلا أن الوضع يختلف في حالة الخدمات، إذ حققت واشنطن فائضا لصالحها اقترب من 300 مليار دولار. وصدرت الولايات المتحدة ما قيمته 3.2 تريليون دولار عام 2024، مقابل تلقّيها واردات بقيمة 4.1 تريليون دولار.

كما يؤمن الرئيس الأمريكي أنّ دول مثل الصين والهند وفيتنام تتورط في ممارسات تضر بالصناعات الأمريكية مثل إغراق الأسواق الأمريكية بالمنتجات الرخيصة، والتلاعب بالعملة المحلية، وسرقة الملكية الفكرية، وتقديم دعم حكومي غير عادل للشركات المحلية.

– عيوب التعريفة الجمركية: عند الحديث عن عيوب التعريفة الجمركية تحيلنا المسألة مباشرة إلى أخطر سلبية وهي الرئيس ترامب في حد ذاته، الذي يعتبرها وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، بما في ذلك جمع المزيد من الأموال من أجل تمويل الحكومة الأمريكية وحماية الصناعات المحلية.

غير أنّها في الواقع قد تؤدّي إلى ردّ فعل من البلدان المتأثرة، مما يترتب عليه نشوب حرب تجارية تتضمّن دورة من التعريفات المتزايدة وقيود التجارة. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ركود اقتصادي محلي، وتوتر في العلاقات الدولية، وتعطيل في سلاسل التوريد العالمية.

حرب طاحنة

هذا المشهد ينطبق تحديدا على الحرب التجارية الطاحنة بين أمريكا والصين التي بدأت في 22 مارس 2018، عندما فرض ترامب تعريفات جمركية على المنتجات الصينية بسبب ما وصفه بـ”ممارساتها التجارية غير العادلة”.

في المقابل ردّت بكين بفرض رسوم مماثلة على المنتجات الأمريكية، مما دفع ترامب إلى دراسة فرض رسوم إضافية عليها. واستمر التصعيد مع تهديدات متبادلة بين الجانبين، وأبدت الصين استعدادها لدفع “أيّ ثمن” في حال تصاعد النزاع.

وأثّرت تلك الحرب التجارية في الاقتصاد العالمي، خاصة في مجالات مثل التكنولوجيا والصناعة، وأسفرت عن تقلّبات كبيرة في الأسواق التجارية الدولية.

بلغة الأرقام تشير بيانات مكتب التمثل التجاري الأمريكي “يو إس تي آر” إلى أنّ حجم التبادل التجاري في السلع مع الصين في عام 2024 بلغ نحو 582.4 مليار دولار، موزعة على النحو التالي:

– الصادرات الأمريكية إلى الصين: 143.5 مليار دولار، بانخفاض قدره 2.9% مقارنة بعام 2023.

– الواردات الأمريكية من الصين: 438.9 مليار دولار، بزيادة قدرها 2.8% عن العام السابق.

– العجز التجاري لمصلحة الصين: 295.4 مليار دولار، ويمثل ارتفاعا بنسبة 5.8% عن عام 2023.

المشهد يتكرر اليوم بأكثر حدة في معركة شرسة بين أمريكا والتنين الصيني، حيث وصل إجمالي الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على المنتجات الصينية هذا العام إلى 145%، وهي تضاف إلى الرسوم التي فرضتها الإدارات السابقة.

في المقابل رفعت الصين الرسوم الجمركية على السلع الأميركية إلى 125%، في تصعيد متبادل يُقلق الأسواق العالمية.

وقالت لجنة التعريفات الجمركية في مجلس الدولة في بكين في بيان نشرته وزارة المالية إنّ “فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية مرتفعة بشكل غير طبيعي على الصين ينتهك بشكل خطير قواعد التجارة الدولية والقوانين الاقتصادية الأساسية

لاحقا، قرّرت إدارة ترامب منح استثناءات من الرسوم الجمركية للهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب وغيرها من واردات الإلكترونيات التي يأتي معظمها من الصين، وهو ما أتاح فرصة كبيرة لشركات التكنولوجيا مثل آبل التي تعتمد على المنتجات المستوردة.

في المقابل، قالت بكين إنها تقيّم تأثير هذا القرار الذي وصفته بأنه مجرد “خطوة صغيرة” لتصحيح ممارسات واشنطن الخاطئة المتمثلة في فرض رسوم جمركيّة مضادة من جانب واحد.

تشير التقديرات إلى أنّ الرسوم الأمريكية المرتفعة على الصين قد تؤثّر بشكل واسع في الاقتصاد الأمريكي، إذ إنّ العديد من السلع والمنتجات كالإلكترونيات والملابس المنخفضة السعر التي يشتريها الأمريكيون تأتي من الصين، ومن ثم قد تؤدي الرسوم المرتفعة إلى زيادة في الأسعار للمستهلكين.

وفقا لتوقعات مختبر ميزانية جامعة ييل، ستكون واردات المنسوجات والسيارات والإلكترونيات من بين الأكثر تضررا، وذلك قد يؤدي إلى:

– ارتفاع أسعار الملابس بنسبة تصل إلى 32.7 %.

– زيادة أسعار المنسوجات غير الملبوسة بنسبة 18%.

– ارتفاع أسعار السيارات بنسبة 15.8%، أي ما يعادل زيادة تبلغ نحو 7600 دولار على متوسط سعر السيارة لعام 2024.

– زيادة أسعار المنتجات الطازجة بنسبة 6.2%.

– ارتفاع عام في أسعار المواد الغذائية بنسبة 4.5%.

وتنتج المصانع الصينية أكثر من نظيراتها في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا مجتمعة، والعديد من المنتجات المستوردة إلى الولايات المتحدة تأتي من الصين. كما تمثّل الصين المصدر الرئيسي للإلكترونيات الاستهلاكية في السوق الأمريكية.

ويؤكّد جامعيون مختصون في الاقتصاد أنّ هذه الرسوم سيكون لها تأثير اقتصادي كبير مشيرين إلى أنّ من الهواتف الذكية 73% –

– 78 % من الحواسيب المحمولة

– 87 % من أجهزة ألعاب الفيديو

– 77 % من الألعاب المستوردة تأتي من الصين، وذلك يعني أنّ تأثير الرسوم الجمركيّة في هذا القطاع سيكونُ كبيرا للغاية.

قلق في الشرق الأوسط

كما أثارت الرسوم الجمركية موجة من القلق في أوساط المستثمرين حول تداعيات هذه الرسوم على اقتصادات وأسواق الخليج والشرق الأوسط، خصوصا في ظل الترابط القوي مع الأسواق العالمية.

فالعديد من دول الخليج، مثل الإمارات والبحرين، تُصدّر منتجات مثل الألمنيوم والحديد إلى الولايات المتحدة، وهو ما يجعل هذه الصادرات معرّضة لقيود مباشرة قد تؤثر في إيراداتها ونمو صناعاتها التحويلية. كما أنّ أيّ تباطؤ في الاقتصاد العالمي نتيجة لتلك الرسوم قد يؤدي إلى تراجع الطلب على النفط، ما يُشكّل ضغطا إضافيا على موازنات الدول المنتجة للنفط في المنطقة.

إلى جانب ذلك، قد تشهد سلاسل التوريد الإقليمية اضطرابات بسبب القيود التجارية، خاصة في ظل اعتماد بعض الصناعات في الخليج على مكونات مستوردة تُعيد تصديرها بعد التصنيع.

تكلفة انتقالية

في تطور مفاجئ، وضمن سياق تغريدة مقتضبة نشرت قبل أيام على منصته “تروث سوشيال” كتب الرئيس الأمريكي هذا هو الوقت المناسب للشراء!!!

كانت الجملة قصيرة، لكنها كفيلة بإثارة زلزال في الأسواق المالية، خصوصا أنها سبقت بساعات إعلانا مفاجئا عن تعليق مؤقت للرسوم الجمركية الجديدة لمدة 90 يوما.

 تنفسّت الأسواق الصعداء مؤقتا بعد هذه الخطوة التي فسّرت كونها محاولة واضحة لاحتواء موجة الذعر التي اجتاحت الأسواق المالية العالمية عقب قرارات ترامب التصعيدية السابقة.

ويعتمد سيد البيت الأبيض 4 إستراتيجيات في قراره: تقليل العجز التجاري، وحماية الصناعات المحلية، وحماية الأمن القومي، فضلا عن كونها أوراق مساومة تتخطى القضايا التجارية وفق ما تروج تحليلات اقتصادية.

ويرى خبراء أنّ هذا القرار الذي جاء بعد ضغط من دوائر اقتصادية وتجارية بارزة داخل الإدارة الأمريكية، فضح الانقسام الحاد في صفوف فريق ترامب بين مؤيّدين للتصعيد التجاري ومعارضين له وبالأخص بين إيلون ماسك، رجل الأعمال والرئيس التنفيذي لـ”تسلا” و”سبيس إكس” والوزير المؤقت في حكومة ترامب، المستشار التجاري في البيت الأبيض بيتر نافارو.

ولا يقتصر الارتباك على ماسك ونافارو بل الانقسام داخل الفريق الاقتصادي لترامب، فقد كشف تقرير إعلامية أمريكية أنّ وزيرة الزراعة بروك رولينز تهربت من تأكيد ما إذا كانت الرسوم ستُلغى أو ستستمر، خلال مقابلة مع “سي إن إن”

وفي الوقت ذاته، أكّد وزير التجارة هاورد لوتنيك أنّ الرسوم ستظل قائمة خلال الأسابيع المقبلة.

وهذا الأمر في الحقيقة يعكس أنّ الرسائل المتضاربة والمتناقضة تؤكّد غياب رؤية موحّدة داخل الإدارة الأمريكية ما يضعف مصداقيتها أمام الأسواق، وربما صراعا على مستقبل السياسة الاقتصادية داخل البيت الأبيض.

ففي مواجهة فوضى الأسواق وانخفاض مؤشرات الأسهم والسندات، لم يتردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اللجوء إلى اللغة التلطيفية، واصفا حالة الذعر بأنها مجرد “قلق بسيط” بين المستثمرين، واعتبر أنّ ما يحدث هو مجرد “تكلفة انتقالية” في طريق “إعادة بناء رائعة للاقتصاد الأميركي”. وقال: “في النهاية، سيكون الأمر جميلا للغاية.

أرقام مقلقة

في ظل الأحداث والتصريحات والأرقام والنسب الاقتصادية المقلقلة، خفضت منظمة التجارة العالمية توقعاتها للتجارة العالمية للسلع بشدة من نمو قوي إلى انخفاض، قائلة إنّ زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية وامتداد تبعاتها وتأثيراتها قد يترتب عليها أشد ركود منذ ذروة جائحة كوفيد-19.

وأعلنت المنظمة أنها تتوقع انخفاض تجارة البضائع بنسبة 0.2% هذا العام، في تراجع عن توقعاتها في أكتوبر الماضي بنمو قدره 3%، وأوضحت أنّ تقديراتها الجديدة تستند إلى إجراءات طبقت مطلع الأسبوع الماضي.

وقالت منظمة التجارة العالمية إنه إذا أعاد ترامب فرض المعدّلات الكاملة لرسومه الجمركية الأوسع نطاقا، فإنّ ذلك من شأنه أن يقلّل من نمو تجارة السلع بنحو 0.6%، مع خفض آخر بنحو 0.8% بسبب التأثيرات غير المباشرة التي تتجاوز التجارة المرتبطة بالولايات المتحدة. ويمكن أن تؤدي تلك العوامل مجتمعة إلى انخفاض بنسبة 1.5%، وهو أكبر تراجع منذ 2020.

ويطرح تقرير بمجلة إيكونوميست تساؤلات حادة حول صحة رواية ترمب بكون هذا الألم القصير؟ وهل المكاسب الطويلة الأمد ممكنة في ظل هذا المسار السياسي المربك؟

وتشير المؤشرات الاقتصادية الحديثة إلى أنّ الألم القصير الأجل الذي وعد ترامب بتجاوزه قد يكون أكثر حدة مما أُعلن في ظل:

– انهيار مؤشر ثقة المستهلك الصادر عن جامعة ميشيغان في أفريل إلى 50.8، وهو ثاني أدنى مستوى له في تاريخه. والسبب الرئيسي هو مخاوف الأمريكيين من ارتفاع الأسعار نتيجة التعريفات الجمركية، حيث يتوقع المستهلكون تضخما بنسبة 6.7% خلال العام المقبل، وهي النسبة الأعلى منذ أكثر من 40 عاما.

– تراجع مؤشر تفاؤل الأعمال الصغيرة الصادر عن الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة لثلاثة أشهر متتالية، مما يعكس تراجع الثقة في الأجندة الاقتصادية للرئيس بعد أن كانت الشركات تراهن على إصلاحات داعمة للنمو في بداية ولايته الثانية.

– رغم أنّ بيانات سوق العمل ما تزال إيجابية، فإنّ بيانات الإنفاق باستخدام بطاقات الائتمان تشير إلى أنّ المستهلكين ربما يسرّعون مشترياتهم من السيارات والإلكترونيات تحسّبا لارتفاع الأسعار، مما يعني أنّ هذه المؤشرات الإيجابية قد لا تدوم.

– في التاسع من أفريل الحالي، ومع دخول الرسوم الانتقامية حيّز التنفيذ، توقّع محلّلو غولدمان ساكس احتمالا بنسبة 65% لدخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود خلال 12 شهرا القادمة. وبعد إعلان ترامب تأجيل بعض الرسوم لمدة 90 يوما، انخفض هذا الاحتمال إلى 45%. لكن وفق التقرير، هذا التحول الحاد يعبّر عن هشاشة الواقع الاقتصادي، فالمصير مرهون بتقلّبات مزاج الرئيس في السياسة التجارية.

وعلى المدى الطويل، يرى تقرير مجلة إيكونوميست أنّ التبعات ستكون أعمق وأكثر خطورة. إذ إنّ الحمائية التجارية تُكافئ القطاعات الضعيفة، وتحوّل رأس المال والعمالة إلى صناعات غير فعّالة.

ووفقا لدراسة البنك الدولي عام 2022، فإنّ رفع الرسوم الجمركية بنسبة 4 نقاط مئوية يؤدي في المتوسط إلى تراجع الناتج المحلي بنسبة 0.4% خلال خمس سنوات، وانخفاض إنتاجية العمل بنسبة 1%.

لكن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب تتجاوز بكثير تلك المستويات التاريخية، إذ ارتفع متوسط الرسوم الفعلي في الولايات المتحدة من 2.5% في 2024 إلى أكثر من 20% هذا العام، حتى بعد استثناءات على الهواتف الذكية والإلكترونيات.

كما أنّ الرسوم تؤثّر ليس فقط في التجارة، بل أيضا في حركة رؤوس الأموال. فمنذ بداية أفريل الماضي ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات بنصف نقطة مئوية، مما يعني انخفاضا في الطلب الأجنبي على الأصول الأميركية.

وعلى المدى البعيد، قد تُضطر الأسر والشركات الأمريكية إلى تمويل الدين الحكومي الداخلي على حساب الاستثمار الخاص.

ووفقا لنموذج الميزانية الصادر عن جامعة بنسلفانيا، فإنّ الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب ستؤدي خلال العقود الثلاثة القادمة إلى:

– انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8% عن المسار السابق.

– تراجع الأجور بنسبة 7%.

– انخفاض المخزون الرأسمالي الوطني بأكثر من 10%، مما يعني طرقات أكثر تدهورا ومطارات أقدم ومصانع عفا عليها الزمن.

وتحذّر إيكونوميست من أنّ حالة اللايقين الناجمة عن سياسات ترامب التجارية أصبحت مضاعفة مقارنة بما كانت عليه خلال حربه التجارية الأولى في 2018. ولا يعود ذلك إلى طبيعة الرسوم فحسب، بل إلى دورة “التهديد، ثم التنفيذ، ثم “التراجع” التي يتّبعها ترامب.

وبينما لا يمكن الوثوق بشكل قاطع بتوقعات اقتصادية تمتد لعقود، تشير الأدلة إلى نتيجة واضحة: الضرر الحالي مؤكد، والمستقبل محفوف بمخاطر أكبر.

وفي حين يحلم ترامب بـ”اقتصاد معاد البناء”، فإنّ الواقع يشير إلى أمريكا بأصول متقادمة ونمو بطيء وأجور راكدة.

وختمت الصحيفة تقريرها بالقول إنه بينما يروّج ترامب لفكرة “الألم المؤقت والمكسب المستقبلي”، يبدو أنّ الكلفة الحالية فادحة، والوعود البعيدة تفتقر إلى الأسس الاقتصادية الصلبة.

أفكار إمبريالية

إذن يحذّر كثيرون من أنّ رئاسة ترامب تخاطر بتدمير الأسس ذاتها التي جعلت الولايات المتحدة مزدهرة ومبتكرة ومحترمة في جميع أنحاء العالم.

ففي مقال له بصحيفة نيويورك تايمز ذائعة الصيت، شنّ لكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان -المعروف بميوله الليبرالية أشرس هجماته على الرئيس ترامب.

وتساءل فريدمان: في خضم حربه التجارية المستعرة، على توقيع أمر تنفيذي لإحياء صناعة تعدين الفحم، بينما يحاول وقف تمويل عمليات تطوير التكنولوجيا النظيفة من ميزانيته، كيف لمثل هذا القرار أن يجعل أمريكا أقوى؟

ويصف الكاتب إدارة ترامب الثانية برمتها بأنها مهزلة بشعة، مضيفا أنه ترشّح لولاية أخرى ليس لأن لديه مفتاحا لنقل أمريكا إلى القرن الـ21، بل لأنه يسعى إلى تجنّب السجن، ولكي ينتقم من أولئك الذين حاولوا محاسبته بأدلة حقيقية أمام القانون.

ويقول إن ترامب عاد إلى البيت الأبيض وهو غارق في أفكار بالية تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وأضاف أنّ الرئيس شن حربا تجارية دون حلفاء يقفون معه ولا استعدادات جادة، وليس أدل على ذلك من جنوحه كل يوم تقريبا إلى تغيير الرسوم الجمركية التي فرضها على دول العالم، ودون فهم لطبيعة الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على تجميع مكونات منتجاته من بلدان متعددة.

وأضاف أنّ هذه “المهزلة” على وشك المساس بكل مواطن أمريكي، فالرئيس يهاجم أقرب حلفاء بلاده -مثل كندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي- وأكبر منافس لها، وهي الصين، في حين يفضل روسيا على أوكرانيا ويفضل صناعات الطاقة المدمرة للمناخ على الصناعات الموجهة نحو المستقبل مما يجعله يتسبب في فقدان ثقة العالم في أميركا بشكل خطير.

أما الإعلام البريطاني فقد أجمع على أنّ الرسوم الجمركية والنزعة القومية الاقتصادية للرئيس الأمريكي لا تتعلق بتصحيح الاختلالات التجارية؛ بل خطة إمبريالية تخبر الآخرين عن قبول الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، دون أن يتطلب ذلك من الولايات المتحدة التضحية بميزتها المحلية.

وأشارت إلى أنّ الولايات المتحدة ما تزال تعاني من عجز في السلع ليس لأنها “تقترض” من الخارج، ولكن لأن بقية العالم يستبدل عن طيب خاطر السلع الحقيقية بالدولار الأمريكي الذي لا تستطيع إصداره.

وفي مقابل هذا الامتياز، يطالب ترامب بالجزية وهي السيطرة على البنية التحتية الرقمية، والوصول القسري للشركات الريعية في مجال التكنولوجيا الفائقة وقمع التكنولوجيات المنافسة.

كما ترى الصحف البربطانية أنّ “الإمبراطورية الأمريكية” لا تسعى، من خلال فرض تلك التعريفات الجمركية، إلى الانسحاب من العالم، بل تريد عالما يخضع لشروطها الجديدة، رغم أنها ما تزال هي المنتفعة اقتصاديا باعتبارها القوة المهيمنة.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *