أنيس العرقوبي
عدّلت تونس من خطابها الموجّه تجاه المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، في خطوة تهدف إلى احتواء أزمة متفرعة بين الحقوقي والاقتصادي والدبلوماسي، عبر تطمينات المسؤولين وإجراءات عاجلة أقرّتها السلطة يقول خبراء إنّها متأخّرة لكنّها مهمّة في هذا الوقت الحرج خاصّة بعد تزايد انتقادات الداخل والخارج.
ويرى خبراء ومحلّلون أنّ تعديل الموقف الرسمي التونسي في ملف الهجرة خطوة نحو التخلّص تدريجيا من خطابها الشعبوي الموجّه إلى إرضاء النزعة “الطائشة” لجزء من التونسيين، وبناء آخر أكثر عقلانية وتوازنا موجّه إلى الفضاء الخارجي، ما يسمح للبلاد باستعادة مكانتها وصورتها، وكذلك تحصيل الدعم المالي والسياسي لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة.
وأعلن البنك الدولي، الإثنين، في مذكّرة داخلية، عن تعليق إطار شراكة مع تونس ووقف التعامل مع الجهات الرسمية التونسية حتى إشعار آخر، بعد تصريحات الرئيس قيس سعيّد بشأن المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء.
وقال مدير البنك الدولي ديفيد مالباس في المذكّرة، إنّ البنك أوقف إطار الشراكة مع تونس مؤقّتا، كما قرّر تأجيل اجتماع مجلس المحافظين بشأن استراتيجية جديدة للتعاون مع تونس، والذي كان مقرّرا يوم 21 من الشهر الجاري.
وسبق إعلان البنك المركزي، تأكيد وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج نبيل عمار بأنّ هناك حملة موجّهة ضدّ تونس على خلفية أزمة المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، مضيفا أنّ جهات وأطرافا من الداخل والخارج تدعم هذه الحملات، وأن السفارات الأجنبية تفهمت موقف بلاده.
إجراءات لفائدة المهاجرين
وأعلنت رئاسة الجمهورية إجراءات عدّة لمصلحة المهاجرين الأفارقة المقيمين في تونس تشمل تمديد صلاحية وثائق إقامة الطلبة، معربة عن استغرابها من حملة تتّهم السلطات بالعنصرية، مؤكدة أن “مصادر هذه الحملة معروفة”، وذلك دون تسميتها.
في بيان نشر على صفحة الرئاسة والحكومة، أكدت السلطات على رفضها الاتهامات بالعنصرية، مضيفة: “لن نقبل أن يكون الأفارقة ضحايا هذه الظاهرة لا في تونس ولا خارجها.”
وشملت الإجراءات التي أعلنت عنها رئاسة الجمهورية، مساعدات اجتماعية وصحية ونفسية، منها؛ تسليم بطاقات إقامة لمدة سنة لفائدة الطلبة من البلدان الإفريقية، والتمديد في وصل الإقامة من ثلاثة أشهر إلى ستة.
ومن الإجراءات الأخرى، تسهيل عمليات المغادرة الطّوعية لمن يرغب في ذلك، وإعفاء من دفع خطايا التأخير المستوجبة على الوافدين الذين تجاوزوا مدة الإقامة المسموح بها، وتكثيف المساعدات الاجتماعية والصحية والنفسية اللّازمة للمهاجرين واللّاجئين كافّةً.
والسبت، عاد نحو 300 مالي وعاجي إلى البلدين من تونس في إطار عمليّات إجلاء نظّمتها باماكو وأبيدجان، بعد حملات عدائية تجاه المهاجرين غير القانونيين من دول جنوب الصحراء أجّجها خطاب عنيف للرئيس قيس سعيّد.
وأثار خطاب سابق لسعيّد موجة ذعر في صفوف المهاجرين من جنوب الصحراء الذين أبلغوا مذّاك عن تصاعد الهجمات ضدّهم، فيما هرع عشرات منهم إلى سفاراتهم لإعادتهم إلى بلادهم.
وفي 21 فيفري الماضي، دعا سعيّد إلى وجوب اتّخاذ “إجراءات عاجلة” لوقف تدفّق المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء، معتبرا أنّ هذه الظاهرة تؤدّي إلى “عنف وجرائم” مع استمرار “جحافل” المهاجرين غير النظاميين.
وقال رئيس الجمهورية إنّ “ترتيبا إجراميا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس” بقصد “توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا”، لكنّه عاد بعد خطابه الأول ودعا وزير الداخلية إلى عدم التعرّض للمهاجرين.
وحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يقيم في تونس البالغ عدد سكّانها 12 مليون نسمة، أكثر من 21 ألف مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء، معظمهم في وضع غير نظامي.
وأُوقِفَ عشرات المهاجرين خلال عمليات للشرطة وسُجن بعضهم، وقدّم بعضهم الآخر شهادات لمنظّمات حقوقية عن تعرّضهم لاعتداءات لفظية وجسدية، مندّدين بوجود “ميليشيات” تقف وراء ما يقع.
وكانت العديد من المنظمات غير الحكومية ندّدت بخطاب الرئيس، ووصفته بأنّه “عنصري ويدعو إلى الكراهية”، فيما تظاهر مئات الأشخاص في العاصمة دعما للمهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، مطالبين سعيّد بالاعتذار لهذه الجالية.
بدورها، عبّرت أحزاب سياسية عن رفضها الحملات الأمنية التي تستهدف المهاجرين والمهاجرات من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وقالت في بيانات منفصلة إنّ “الإجراءات الأمنية لا تحترم أبسط معايير الكرامة البشرية”.
تعديل موقف
يرى مراقبون أنّ تعديل الموقف من قضية الهجرة ناتج عن تغير رؤية السلطة من المقاربة الأمنية الصلبة -التي تفرضها الدول الأوروبية على نظيرتها الواقعة جنوبي المتوسّط- إلى أخرى أكثر تفاعلا مع المحيط الجغرافي المبني على التكامل الاقتصادي والتنموي مع العمق الإفريقي، إضافة إلى البعد الإنساني.
وتأتي الإجراءات الجديدة بعد نحو أسبوعين من خطاب سعيّد، لتخفيف حدّة التوتّر خاصّة مع التكتّل الإفريقي، إذ أدان رئيس مفوضية الاتّحاد موسى فقي محمد في بيان تصريحات السلطات التونسية ووصفها بـ”الصادمة.
وفي السنوات السابقة، عملت تونس على تعزيز دبلوماسيتها الاقتصادية عبر توجيه الاستثمار وتعزيز التصدير إلى الأسواق الاقتصادية الإفريقية.
وتعاني تونس أزمة اقتصادية مدفوعة بارتفاع الأسعار والتضخّم وتدهور مستوى معيشة المواطنين، في وقت تكافح فيه السلطة من أجل إنعاش المالية العامة عبر حزمة إنقاذ متوقّعة من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن قرار البنك المركزي قد يعيق مساعي البلاد تجاوز الإشكال التمويل.
وقال المحلّل السياسي هشام الحاجي في تصريح لبوابة تونس إنّ الإجراءات التي أعلنت عنها الرئاسة تأتي في سياق التفاعل مع رفض المنظمات المدنية والمكونات السياسية في الداخل لاستهداف الأفارقة، ودعوات الخارج وتصريحاتهم التي شجبت المقاربة التونسية الجديدة في التعامل مع ملف الهجرة.
وأوضح الحاجي أنّ خطوة الرئاسة تعدّ تغييرا نسبيا وتعديلا ذاتيا، يراد به امتصاص ردود أفعال الداخل والخارج، والخروج من دائرة الضوء المسلّط عليها من قبل منظمات الدولية المعنية بالهجرة وحقوق الإنسان.
وقال المحلّل السياسي إنّ التعديل الذاتي الأخير لم يكن في حجم الأزمة وتداعياتها على المستويين الدبلوماسي والسياسي، مضيفا: “أعتقد أنّ الإجراءات الأخيرة خطوة جيّدة ولكنها غير كافية أمام ما لاحظناه من ردود أفعال دولية وخاصّة القادمة من إفريقيا”، متابعا: “أدعو الرئاسة والحكومة إلى إجراءات أخرى أكثر وضوحا وفاعلية، لاسيما أنّ إفريقيا باتت جغرافيا اقتصادية مهمّة جدا بالنسبة إلى التونسيين”.
ودعا الحاجي إلى تطويق الأزمة التي تسببت فيها تصريحات رئيس الجمهورية عبر خطاب سياسي شجاع يقر بالخطأ، والقيام بخطوات أكثر جرأة خاصة بعد إعلان البنك الدولي تعليق العمل مع تونس إلى إشعار آخر.
وكان رئيس مجلس الأعمال التونسي الإفريقي أنيس الجزيري كشف، عن تنفيذ عدد من الدول الإفريقية حملات مقاطعة واسعة تستهدف المصالح التجارية والاقتصادية التونسية، وذلك ردا على مواقف السلطات التونسية في حقّ المهاجرين.
وعن إمكانية تصدّع العلاقات التونسية الإفريقية، قال هشام الحاجي إنّ مقاربة تونس الأمنية في التعامل مع الهجرة وإضفاء صبغة المؤامرة، أصابت انتماء البلاد إلى قارّتها، مؤكّدا أنّ هذا الوضع يقتضي خطابا أكثر شجاعة دون تحميل المهاجرين مسؤولية فشل معالجة معضلة الهجرة.
من جانبه، قال وزير الثقافة الأسبق المهدي مبروك، إنّ تعديل السلطة لخطابها الموجّه تجاه المهاجرين خطوة إيجابية في هذه المرحلة، تشير إلى تفاعلها مع دعوات المنظّمات الحقوقية والدول.
وأوضح أستاذ علم الاجتماع في تصريح خاصّ ببوابة تونس، أنّ الإجراءات التي أقرّتها السلطة لفائدة المهاجرين الأفارقة قد تساهم في تدارك الخطإ الاتّصالي الجسيم، مشيرا إلى أنّها رسائل موجّهة إلى الخارج بأنّ تونس حريصة على احترام مبادئ حقوق الإنسان بما فيها المهاجرين، وأنّ الدولة لا تتبنى خطاب العنف والعنصرية.
وفي ما يتعلّق بدوافع القرار، قال مبروك إنّ الإجراءات الأخيرة ناتجة عن مراجعة نقدية وهي استكمال لعملية إصلاح الضرر الذي تسبّب فيه الخطاب السابق لرئيس الجمهورية، مشيرا إلى أنّ القرار يُعدّ التعديل الرابع الذي تجريه السلطة بعد البيانات التي أصدرتها الخارجية والرئاسة والحكومة.
وفي السياق ذاته، لم يستبعد الخبير في علم الاجتماع أن تكون ضغوط المنظّمات المدنية والمكونات الحزبية، إضافة إلى الدولية وعلى رأسها الاتّحاد الإفريقي وحجم ردود الأفعال، وراء تعديل تونس لخطابها، مشيرا إلى أنّ الإجراءات الأخيرة خطوة مهمّة لكنها غير كافية.
وارتفع عدد المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء في السنوات الأخيرة، ويعملون في قطاعات تحتاج إلى يد عاملة مثل الفلاحة (الزراعة) والبناء ومحطات غسل السيارات أو الأشغال العمومية مثل تنظيف الشوارع، ونجح آخرون في تأسيس مشاريع منها المطاعم والمقاهي، فيما يُطالب كثيرون منهم بالحصول على شهادات إقامة.
ووفق بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، توفي قرابة 600 شخص في عمليات هجرة غير نظاميّة على السواحل التونسية في 2022، فيما تؤكّد وزارة الداخلية أنّها اعترضت في العام نفسه قرابة 39 ألف مهاجر في البحر من بينهم أكثر من 27 ألفا من الأجانب أغلبهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
بعيدا عن المواقف الرسمية، يبدو أنّ حجم التعاطف مع الأفارقة في تونس -الذي كان أكبر بكثير من الهجمات التي تعرّض للهاجرون وتداولتها وسائل التواصل الاجتماعي قصد شيطنة التونسيين- نجح نسبيا في تخفيض وتيرة الأزمة ومن تحوّلها إلى قضية دولية.