مع تصعيد السّلطة.. هل تشهد تونس حوارا على المقاس؟
tunigate post cover
رأي

مع تصعيد السّلطة.. هل تشهد تونس حوارا على المقاس؟

ضخّمت الانتخابات الأخيرة الانتكاسة السياسية في تونس.. فهل يحلّها حوار على المقاس؟
2023-01-07 22:41


مختار غميض
بالتزامن مع تشديد القبضة على المعارضين والمدوّنين، كثرت المبادرات الداعية إلى الحوار، بعضها من داخل منظومة الحكم لتمكين الحُزيْبات القديمة من مواصلة الحفر تحت المسار التأسيسي، وأخرى من خارجها تشترط الرجوع إلى المسار الدستوري السابق، فيما بدت المنظّمة الشغلية تدفع نحو محاولة لإنقاذ المسار الدستوري المتعثّر للرئيس قيس سعيّد أو إصلاحه.

تحوّلت الدعوات إلى مُضغة يلوكها المحلّلون في البرامج السياسية وأُخرجت من كل محتوى حتى أصبحت أقرب إلى الإلهاء والتعمية عن الحلول الاقتصادية، ليستمرّ إحراق المواطن بلظى الغلاء، وإلهاء الناس عن الحاجيات الأساسية، مع بدء تحرّكات قطاعية تؤجّجها تشريعات توصف بالتجويعيّة.

مُضغة الحوار

بعد الضّربة القاسية والهزيمة المدوّية التي فاق صداها حدود البلاد، حتى غابت التهاني عن قصر قرطاج، خرجت فجأة بروباغندا الحوار الوطني وضرورة الالتفاف حوله، حتى أصبحت كلمة الحوار أقرب إلى مُضغة يتمّ اجترارها في الأفواه بمناسبة ودون مناسبة أحيانا، باتت كالرأي العام الذي تدفع في اتّجاهه قوة غير مرئية، لا شكّ في أنّ وراءها ماكينة تحرّكها بعناية وتختار وقتها وشخوصها.

ولا ريب أيضا في تقدير معظم المواقف، أنّها هي الماكينة نفسها التي أظهرت الوجوه القديمة أمثال محسن مرزوق وخميس قسيلة وغيرهم، التي قيل بعد “المسار التصحيحي” إنّه مضى زمنها، فكيف يسوّق لها بعد اليوم؟

طبعا السياق مهمّ بعد انتكاسة الانتخابات، لذا يبدو الحديث عن حوار في حدّ ذاته تعلةً، طالما أنّ الحوار لا يمكن أن يكون، إلّا ندّيا أو لا يكون، لا يكون تحت طائلة الاستبداد أو الشروط أو الاستقواء، ولا بين مستسلم ومنتصر.

في هذه المناخات من الشدّ والجذب بين رئيس مصرّ على الاستمرار في طريقه، وبين معارضة مصرّة أيضا على المقاطعة، بقي الشارع غير مكترث، بينما يصرّ الرئيس على أنّه صوّت لمشروعه وأنّ نسبة المصوّتين أهمّ من نسبة المقاطعين.

في المقابل تريد المعارضة العودة بالحوار إلى فضائه الحقيقي وهو قبّة البرلمان والدستور الذي أقسم عليه الرئيس، بالتالي ليس عليها غير صنع الفارق وترجيح بقوّة الكفّة، من خلال إثبات قدرتها على التعبئة لصالح جبهة الخلاص ومواطنون ضدّ الانقلاب.

تأتي دعوات الحوار من كلّ الجهات، بعضها من داخل منظومة الحكم الحالية الموالية لمسار جويلية/يوليو، وهي عبارة عن حُزيْبات صغيرة قديمة لا تتجاوز تمثليّتها البرلمانية بعض المقاعد، بل خسرت الرّهان حتى في المسار الجديد بعد أن منّت نفسها بالاستحواذ على الأغلبية.

مثّلت حركة الشعب والوطديّون وما رافقهم من ذوي الهوى الراديكالي، المتّهمون من خصومهم بمواصلة الإجهاز على المسار الديمقراطي، حتى أنّ رئيس حركة تونس إلى الأمام عبيد البريكي دعا إلى منح قيس سعيّد سنوات أخرى قادمة لتطبيق مشروعه.

وأخرى تشترط الرجوع إلى المسار الدستوري السابق، فيما بدت أخرى محاولة لإنقاذ المسار الدستوري المتعثّر للرئيس قيس سعيّد أو إصلاحها.

حوار لإنقاذ الرئيس:

فاقمت انتخابات الرئيس الأزمات وفجّرت الاختلافات بعد أن كان يعتقد العكس، الإجهاز على إرث العشريّة الأخيرة، لذلك يبدو الحوار مسبقا مفرغا من محتواه، فمن غير المستغرب أن تراه النواة المعارضة للرئيس مُكيّفا على هوى الرئيس، فما قدرة المعارضة على التجديف ضدّه؟ وما حظوظ عودة البلاد إلى حضن العقلانية؟

يبدو الحديث عن الحوار مع استمرار تعقّب الصفوف الأولى للمعارضة مثل أحمد نجيب الشابي ورضا بلحاج، تعمية جديدة تخلو من كلّ تطمينات وتشريك للتيّار المعاكس، ضمن مخطّطات اعتبرتها شخصيات مستقلّة، وحتى من بين الّذين كانوا مساندين للرئيس، للإلهاء وربما ضربة استباقية لكلّ جهد جادّ لإحداث توافق سياسي. 

وهو أيضا تجنّ جديد، يبدو أنّه تشفّ مغرض بعد الهزيمة القاسية والمقاطعة التاريخية التي مُنيت بها الانتخابات الأخيرة التي دعا إليها قيس سعيّد، ضحيّتها اليوم إيقاف المدوّنين الذين يدعون إلى التظاهر السلمي، ومقاضاة دعاة الحق في الإضراب، من القطاع الحيوي مثل قطاع النقل، أو قطاع القضاء من خلال محاكمة المسؤول عن القضاة المعفيين العيّاشي الهمامي.

وبالتالي فإنّ الحوار يعدّ هامشا للمناورة وتفريغا لكلّ مبادرات قد تكون جديّة من أيّ اهتمام إمعانا في التنكيل بها، حتى يظهر أنّه لا حلّ سوى المضي في مشروع الرئيس، وإتمام الجولة الثانية من الانتخابات، رغم دعوة أقرب المقربين إلى تجاوزها عبر انتخابات رئاسية مبكّرة، ولربما لا تبدو تلك سوى مناورة داخل المناورة من أقلّ الحزيْبات حاصلا انتخابيا في جميع المحطّات السابقة.

هذا إذا لم تكن الغاية من الدعاية بشأن الحوار، أداة في نفس يعقوب، ودسّا للسم في العسل من المسار الأحادي التسلّطي لفرض القبول بالحدّ الأقصى المنتظر من الحوار، أي القبول بما يسمّى بديلا جمهوريّا للإنقاذ، دون الرجوع إلى ما قبل 25 جويلية/يوليو 2021، تحت مسمّى توحيد الصف الوطني.

الاتّحاد الوظيفي:

تلقّف اتّحاد الشغل الدعوة التي تمّ الترويج لها إعلاميا على غرار حوار الرباعي ما بعد الترويكا، ضمن الدور الوظيفي الذي بارك منذ البداية الانقلاب على المسار الديمقراطي، وهذا رأي كثيرين، ما جعله يعلن متأخّرا أنّ هدفه من الحوار إنقاذ البلاد وليس رئيسها.

هذا المنطق في الواقع قديم ولم يتغيّر، حيث سبق لقيادة المنظّمة الشغيلة على لسان أمينها العام نورالدين الطبوبي، أن دعت منذ بداية شهر ديسمبر/ كانون أول -أي قبل انتظار النتيجة الهزيلة والهزلية للانتخابات- إلى إنقاذ البلاد من خلال تعديل حكومي، غير أنّه أضاف مصطلح خريطة الطريق، وهنا نستذكر أيضا الموقف القديم لقيس سعيّد، عندما قال للاتّحاد، فلتذهبوا بخرائطكم إلى كتب الجغرافيا.

سقط الاتّحاد في الخيارات الإقصائية لليسار التي تنزع نحو “دمقرطة” مُقوْلبة للخارطة السياسية، وفق مقاس مفصّل على المسار السياسي الجديد، بشكل يقصي ما يسمّى الإسلام السياسي، أي أكبر الأحزاب السياسية في البلاد، وأكثرها حضورا وتنظيما وتعبئة للشوارع بشهادة خصومها.

وما فتئت المنظومة القديمة منذ أول انتخابات بعد الثورة، في الحفر تحت المسار التأسيسي الانتقالي لترهيله وإسقاطه، عبر كلّ الخطط والخطط البديلة، واجتهدت في ذلك أيّما اجتهاد، بدءا بالاعتصامات ومرورا بأساليب بثّ الفوضى والترهيب، وصولا إلى التسريبات عن تنفيذ انقلابات، دعمتها دعوات صريحة للتصفية الدموية من قبيل “يسيل الدم يزول الهم”، رفضا لقيام منظومة ديمقراطية جديدة وبديلة تصبح أمرا واقعا ومقبولا لدى الناس، ولا أدلّ من ذلك مواصلة الابتزاز المخالفين، إلى يوم الناس هذا.

ضمن هذا الإطار يستمر التنكيل نفسه بالقوى التي قبلت بكامل اللعبة الديمقراطية دون تجزئة أو تكييف وتوظيف، وهو ما لا تريده منظومة 25 جويلية/يوليو، لولا أن اهترأ مسارها من الداخل، وبدأ في التداعي والتآكل الداخلي وصولا إلى سحب الاعتراف به شعبيّا وبالصندوق.

وما عبّر عنه السياسي مبروك كورشيد في الآونة الأخيرة يصبّ في هذا المنهج، بعد أن دعا صراحة إلى تنفيذ قالب سياسي جديد، موجّه إلى كل القوى الوطنية، ما عدا الإسلام السياسي، وفق كلامه.

أما عبير موسي فقد باتت العصا التي تهشّ على غنم الانقلاب كلّما استدعى الأمر، كما ذهب إلى ذلك أكثر الموغلين في دهاليز السياسة، وهي التي سبق لها أن اعترفت بعظمة لسانها بأنّها كانت الأداة وراء ترذيل المشهد النيابي لتمهيد الطريق لإعلان الإجراءات الاستثنائية، فهي اليوم لم تخرج عن مهمّة ترذيل الحوار والمساهمة في إفساد الدعوات الجدية إليه.

“يا عمّال اتّحدوا”

“يا عمّال اتّحدوا” أو يا معارضة، بمختلف مشاربكم اتّحدوا تحت سقف الاختلاف الديمقراطي ودستوره التشاركي الذي شهد له زعماء العالم، الشعار الشيوعي يذكر “أنّ الطبقات الحاكمة ترتعد أمام الثورة” في دعوة للعمّال إلى الوحدة، فليس لديهم ما يخسروه غير الأغلال والسلاسل.

ومحلّ الشاهد السابق، ينطبق على قوى المعارضة التي تحشد اليوم للتظاهر في أول موعد بعد المقاطعة الشعبية للانتخابات وتدعو إلى وحدة الصف، وهو تحدّ سيجعل المعارضة تحت سيف الأحكام والتقييم مجدّدا من حيث مدى الإقبال الشعبي على تلبية دعوتها، ما يستوجب عودة الانسجام داخل التيّار المعارض للانقلاب.

بدأت السنة الجديدة بالتّصعيد المطلبي القطاعي، الذي تتقدّمه نقابات المحامين والتعليم والصحفيين، صحيح هي معارك فئوية لا ناقة فيها ولا جمل للعامة، لكنها قد تتحوّل إلى وقود يذكي حالة الاحتقان والغضب المعتمل في النفوس نتيجة الغلاء المشطّ والإمعان في التنكيل بالمستهلك.

 لذا فإنّ حالة القلق وعدم الاستقرار هي المهيمنة دائما على المزاج العام، نظرا إلى وجود مناخ غير سليم، وأفق مجهول العوالم حتى للغد القريب، ما يعزّز الاعتقاد أكثر بأنّ المستقبل مفتوح على جميع التوقّعات، خاصّة إذا لم تتبلور رؤية حقيقية لمخرج فعلي للأزمة أو تتأكّد حقيقة الحوارات الوطنية.

ذلك لا يعني سوى استمرار حالة الغليان، أي الجذب بين خطّين لا ثالث لهما يرفع كلاهما شعار “لا تراجع”، خطّ الاحتكام إلى إدارة الخلافات بشكل جمعي أو الاستمرار في فرض الهيمنة والاستفراد بالقرار، بينما تتزايد الطبقات الفقيرة فقرا، ما يجعل المشهد برمّته مفتوحا على كلّ التوقّعات، لا بل مزيد من هدر الوقت في ما لا يغني ولا يسمن من جوع، بل وعطش مخيف.

ولعلّ افتتاح موسم المبادرات على أوسع نطاق، في ذاته انتصار للمشترك على مشروع الفرد المهيمن، ناهيك عن كونه انتصارا في المفهوم الشامل، للمنظّمات والأحزاب، يكفي اختطافا لإرادة الشعب، من هنا يبدأ البناء.

حوار وطني#
قيس سعيد#

عناوين أخرى