وجدي بن مسعود
“انشغلت خدوج بالتفكير في زواج أخيها وزارت منزل الحاج عبد اللطيف لتعرف الفتاة لكن غبطتها تحولت إلى حزن عميق، فقد كانت تتوقع وجها مستديرا أبيض كبياض الثلج وفما صغيرا كالخاتم وعينين سوداوين وجسما مليئا مكتملا ولكنها فوجئت بوجه …”.
أهم الأخبار الآن:
هذه الأسطر مقتطفة من أحد الكتب المدرسية الرسمية في تونس وموجهة لتلاميذ المرحلة الابتدائية، حيث يطلب من التلاميذ إكمال النص بحسب السياق العام بصفات معاكسة للمقاييس الجمالية التي استعرضها الكاتب في الجزء الأول، بما يرسخ لدى الناشئة بشكل مبطن وغير واع فكرة التنمر ضد المرأة.
على أساس الشكل الجسدي، وتغرس لديهم عقلية تمييزية تختزل نظرتهم للمرأة عبر المظهر، في صورة واضحة للتميز الجندري الذي تحفل به المضامين التعليمية في تونس.
لا يقتصر الأمر على هذا النموذج، ذلك أن البرامج التربوية والكتب المدرسية على مستوى المرحلتين الابتدائية والأساسية بشكل خاص، ما تزال مشوبة بمحتوى تمييزي وعبارات صادمة وعنيفة أحيانا، تحول بعضها إلى محور نقاشات وتعاليق على منصات التواصل الاجتماعي، في عديد المناسبات.
تحليل البرامج التربوية
ومع إعلان وزارة المرأة وشؤون الأسرة والطفل عن دراسة جديدة ستنطلق قريبا لتحليل المضامين الجندرية في البرامج التربوية الوطنية، يعود الجدل بشأن هذه الألغام الفكرية المزروعة في مناهج الأطفال إلى دائرة الضوء مرة أخرى، ما يحرك تساؤلات عن حقيقة هذا المحتوى وتأثيره النفسي والسلوكي والعوامل التي تفسر سماح وزارة التربية منذ سنوات بمضامين تمييزية في كتبها.
صور نمطية ذكورية
في حديثها مع بوابة تونس، أوضحت الأكاديمية والباحثة الجامعية آمال قرامي أن وحدة بحث الماجستير المتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي بجامعة منوبة، سبق لها العمل على دراسات لتحليل المضامين الجندرية بالتعليم العمومي.
واستشهدت آمال قرامي في هذا الصدد بدراسة الباحثة ألفة الدريدي عن المحتوى التمييزي بمناهج السنة التاسعة من التعليم الأساسي، والذي كشف عن نماذج صادمة من التمييز على مستوى الصور والأفكار وفقرات من النصوص وغيرها.
ويطرح هذا المحتوى التمييزي خطابا تفاضليا بين الرجل والمرأة بمنطق ذكوري بحت، وبأسلوب رجعي متبلد، كما يرسخ صورا نمطية دونية عن الفتيات على صعيد الدور والتنشئة الاجتماعية.
وأضافت آمال قرامي “تحليل المضمون الذي ركزت عليه الدراسة كان من منظور النوع الاجتماعي، لبيان التراتبية والتمييز والعلاقات غير المتساوية وقام بوضع بيانات دقيقة وصور توثق المحتوى، وخلال مناقشتها وقع التطرق إلى الجوانب النقدية المتعلقة بضرورة مراجعة وزارة التربية لهذه البرامج، إذا لا يعقل ونحن في سنة 2021 وبعد مرور سنوات من إمضاء تونس لعديد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تلزمنا باعتماد المنظور الجندري في التشريعات والسياسات، والقضاء على كل أشكال التمييز بين الذكور والاناث ان لا يقع تنقية المضامين التربوية من هذه الشوائب”.
صورة مناقضة للمرأة التونسية
الصور والأفكار ضد الطابع الجندري التمييزي بالكتب المدرسية، تكرس بحسب محدثتنا صورة نمطية تتناقض مع المكاسب والإنجازات التي حققتها المٍرأة التونسية من تنمية للقدرات واكتساب للتجارب والخبرات والمناصب.
واستشهدت الباحثة آمال قرامي في هذا الصدد بنماذج من القصص التي تقدم للأطفال وقع رصدها بالدراسة، وهي تحث الأولاد على اكتساب الخبرات والمهارات العلمية وتطوير ذكائهم وتنمية شخصيات قوية وقيادية، وتغرس في أذهانهم أنهم المؤهلون لحمل المسؤوليات مستقبلا وتسلم أهم المناصب، فيما تسوق ضمن نفس المحتوى على تدريب الفتاة على بعض الأدوار التقليدية والاهتمامات البسيطة مثل الطبيعة وشؤون المنزل والحفاظ على جسدها من الأعمال الشاقة.
وتقول الباحثة التونسية “هذه الأفكار تمثل تكرارا لذات المفاهيم التي كانت سائدة قبل عقود، والتي تسوق لشخصية الأب الذي يعمل ويقود ويراجع الدروس للأبناء، في حين أن الأم تكتفي بترتيب المنزل وغسل الأواني وهي صورة لا تعكس التحولات والتغيرات الاجتماعية وما يحدث في البيوت من تكامل وتقاسم للأدوار حتى على المستوى الاقتصادي الذي يفرض على الزوجين تحمل الأعباء المشتركة، وللأسف المنظومة الحقوقية تسير في اتجاه والمضامين التعليمية تسير عكسها تماما”.
مقاومة للتغيير
حسب تجارب وشهادات قدمها عدد من الباحثين وأساتذة التعليم الأساسي والثانوي المشاركين في وحدة البحث في المضامين الجندرية وماجيستر النوع الاجتماعي، فإن استمرار هذا المضمون التمييز والنمطي هو نتاج مقاومة من جانب بعض الجهات ومراكز القرار داخل الوزارة، والتي ترجع إليها صياغة مضمون الكتب المدرسية وبرامجها.
وتنقل الباحثة آمال قرامي التي واكبت واستمعت إلى شهادات عدد من الأساتذة في هذا السياق، أن عددا من المتفقدين ومديري البرامج البيداغوجية المتأثرين أو الحاملين للفكر والمنطق الذكوري يسهمون في تكريس هذه الصور والمحتويات المترعة بالتمييز والتنمر، وإعادة انتاج منطق المفاضلة بين المرأة والرجل.
ورغم محاولات التغيير والنقد لهذه المضامين فإن أغلبه لا يؤخذ بعين الاعتبار للعوامل سالفة الذكر، ويهمش بسبب التصدي المستمر من عديد المشرفين على البرامج والمضامين الذين تغلب عليهم النزعة التقليدية والمحافظة، ولا يريدون الاعتراف بمضامين وأفكار هم لا يؤمنون بها رغم أنها أصبحت قيما عالميا ومناهج حقوقية متعارفا عليها.
مناهج قديمة لا تواكب التطورات
من جانبه يقر الباحث في علم الاجتماع والمتفقد بوزارة التربية جلال المدب بأن عدم مراجعة المناهج والكتب التعليمية يعد من بين أبرز مشاكل المدرسة التونسية، مشيرا في هذا السياق إلى وجود كتب وبرامج لم تنقح منذ 10 و15 سنة في بعض الأحيان، وهو ما يفسر استمرار بعض الأفكار والمضامين التميزية والجندرية غير السليمة.
وبين المدب في تصريح لبوابة تونس أن الصورة الشائعة في بعض الكتب التربوية تسوق لتمييز إيجابي لصالح الذكور من خلال تصوير الرجل باعتباره القائد في المجتمع والعائلة والممسك بدفة المناصب الهامة.
وأشار محدثنا في هذا الصدد إلى أن شخصية مدير المدرسة في كتب القراءة على سبيل المثال غالبا ما يكون رجلا، وهو ما يرسخ في الأذهان هذا المحتوى النمطي القائم على فكرة تفوق الرجل.
واعتبر جلال المدب أن مفهوم الجندرية كفلسفة قائمة على المساواة ومكافحة كل أشكال التمييز على أساس الجنس ما تزال حديثة العهد في الأوساط التونسية، وهو ما يفسر انتباه المنظمات والجمعيات والمؤسسات الرسمية لقضية المحتوى المدرسي مؤخرا، وسعيها لبث قضية “الجندر” ضمن الإصلاح المرتقب على المناهج المدرسية وبعض الاختصاصات على غرار مادة التربية المدنية.
واعتبر محدثنا أن قضية “الجندرة” بشكل عام والبرامج التربية تتطلب دراسة معمقة وحوارا موسعا بين منظمات المجتمع المدني ووزارة التربية والهيئات المعنية، حتى لا يكون مجرد اصلاح شكلي لا يعكس مكانتها كمسألة اجتماعية مضيفا أنه من المفروض تنقيح البرامج المدرسية والكتب بشكل دوري كل سنتين حتى تواكب التحولات الاجتماعية والمفاهيم الحقوقية المستحدثة.
أضف تعليقا