في أحدث مظهر يلخّص الأزمة الاقتصادية التي تعيش مصر على وقعها في الأشهر الأخيرة، أقرّت حكومة مصطفى مدبولي إجراءات تتعلّق بخفض الإضاءة في الشوارع والساحات العامة ليلا، بهدف توفير نسبة 15% من استهلاك الطاقة الذي يثقل الموازنة العاجزة أصلا، وسعيا إلى توفير فائض من الغاز لتصديره إلى الأسواق الأوروبية المتعطّشة لأيّ مصادر بديلة للغاز الروسي.
وصادقت حكومة مدبولي على مشروع قرار ترشيد استهلاك الكهرباء، بما في ذلك “تخفيض إنارة الشوارع والميادين العمومية”، من أجل توفير كميات من الغاز الطبيعي “لتصديرها”.
أهم الأخبار الآن:
قرار إطفاء الشوارع ليلا يعكس أحد الأوجه القاتمة للمرحلة الحرجة التي بلغتها السياسيات النقدية في البلاد، في ظل شحّ النقد الأجنبي من السوق، بسبب تراجع الاحتياطيات النقدية من العملة الصعبة، نتيجة تبعات الحرب الروسية الأوكرانية المستمرّة.
أزمة عميقة
ووفق تقرير لوكالة فرانس برس، فإن أبعاد الأزمة الحالية التي يعيشها الاقتصاد المصري عميقة ومركّبة، في ظلّ انفلات مؤشّرات الأسعار ومعدّلات الغلاء وبلوغ مستويات التضخّم بنسبة 15%.
ويأتي هذا الارتفاع عقب لجوء الحكومة إلى تخفيض سعر صرف الجنيه أمام الدولار بنسبة 17 %، في الوقت الذي أصبحت فيه البنوك عاجزة عن توفير العملة الخضراء حتى للمستوردين الذي يقومون بتوريد السّلع الأساسية والمواد الحيوية.
البحث عن الدولار
ويرى خبراء ومحلّلون اقتصاديون، أن تخفيض الإضاءة بالشوارع يهدف إلى تقليل الإنفاق الذي تتحمّله الموازنة العامة، كما يسعى من خلاله المسؤولون إلى توفير مداخيل إضافية بالعملة الصعبة من بيع كميات الغاز التي سيقع توفيرها من الاستهلاك الداخلي، والاستفادة من ارتفاع أسعاره في الأسواق العالمية.
وأوضحت الحكومة المصرية في بيانها حول ترشيد استهلاك الكهرباء، أن الهدف هو “تحقيق فائض إضافي يقارب نحو 15 % من حجم الغاز الطبيعي الذي يضخّ لمحطات الكهرباء، على مدار العام بغرض تصديره”.
مفاوضات مع صندوق النقد الدولي
إطفاء شوارع مصر وساحاتها، لا يشكّل وفق الخبراء سوى أحد الحلول الظرفية الذي لن يأتي سوى بنتائج محدودة، في مواجهة أزمة حادّة وشاملة، ما يجعل من الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، الخيار الوحيد للتقليل من آثارها.
وتُجري مصر في الوقت الراهن مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على قرض جديد لدعم الوضع الاقتصادي المتأزّم الذي عصفت به تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، مسبّبة نزيفا من الخسائر وهروب الاستثمارات.
وتفيد بيانات المصرف المركزي أنّ مصر خسرت 14.6 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، “مما يعكس قلق المستثمرين على إثر اندلاع الصراع الروسي الأوكراني”، حسب تعليق الخبير الاقتصادي في “كابيتال إيكونوميكس” جيمس سوانستون.
تكلفة القرض الجديد ستكون قاسية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بسبب الشروط القاسية التي يفرضها الصندوق، وعلى رأسها إلغاء المزيد من سياسات الدعم والتحرير الكامل لسعر صرف الجنيه، ما سينعكس سلبا على القدرة الشرائية والمعيشية لملايين المصريين الذين يعيش أكثر من 30 % منهم تحت خطّ الفقر.
ويرى المحاضر في الجامعة الأمريكية في القاهرة والخبير الاقتصادي المصري هاني جنينة، أن الحكومة المصرية تحتاج إلى القيام بـ”إجراءات وإصلاحات قاسية نتجرّع منها جرعة صعبة في الأمد القصير حتى نتمكّن من توفير الدولار”، وسيكون من بينها تحرير سعر الصرف بشكل كامل.
وأرجع جنينة أحد أسباب الأزمات الاقتصادية التي تواجهها بلدان مثل مصر، إلى “التكلفة الكبيرة التي تتكبّدها لتثبيت سعر الصّرف بشكل وهمي”، حسب قوله.
وتحصّلت مصر منذ 2016 على أربعة قروض من الصندوق، بلغت قيمة الأول 12 مليار دولار، كما حصلت على قرضين آخرين في 2020 بقيمة 5.4 مليار دولار لتطبيق برنامج اقتصادي، فضلا عن استفادتها بمبلغ 2.8 مليار دولار لمواجهة وباء كورونا.
شروط صعبة
وإزاء تعقّد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعدم التوصّل إلى اتّفاق مبدئي، على الأقل، رجّح تقرير لمركز “كابيتال إيكونوميكس” للأبحاث في لندن، أن “طول أمد المحادثات مع صندوق النقد يدلّ على أن بعض المسؤولين المصريين يتردّدون في تنفيذ مطالبه، ويفضّلون الاعتماد على الدعم المقدّم من اقتصادات الخليج “.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السياسي قد عيّن المصرفي حسن عبدالله قائما بأعمال محافظ البنك المركزي، خلفا لطارق عامر الذي عُيّن مستشارا للرئيس.
ولم تكشف خلفيات رحيل عامر عن إدارة البنك المركزي، لكن بعض الصحف المحلية نقلت “أن عدم التوصّل إلى اتّفاق مع صندوق النقد كان من بين الأسباب”.
ويعلّق الخبير الاقتصادي هاني جنينة على عدم التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد بالقول، إنّ الخلاف في وجهات النظر داخل الحكومة المصرية يتعلّق بالجدول الزمني لتنفيذ الإجراءات التي يطلبها صندوق النقد، وليس خلافا على المبادئ الأساسية.
ويشير إلى أن صندوق النقد قد يطلب تطبيقا عاجلا في بعض المسائل مثل رفع الدعم وسعر الصرف، بينما تفضّل الحكومة تنفيذ ذلك تدريجيا.
وتوقّع الاقتصادي بمركز “كابيتال إيكونوميكس” جيمس سوانستون، أن يبلغ سعر الدولار 25 جنيها مصريا خلال السنتين القادمتين، مؤكّدا أن تخفيض قيمة العملة المحلية مجدّدا، بات أمرا ملحّا “لتجنيب تعرّض مصر لاختلالات خارجية”.
وكشفت الإحصائيات الخاصة بوزارة التخطيط المصرية، عن تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 6.6 % خلال الأشهر الأولى من العام الحالي، قبل أن تبدأ انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية.
أضف تعليقا