ثقافة

محمود درويش… شاعر الأرض وحافظ حق العودة إلى فلسطين

وجدي بن مسعود

يحي العالم العربي وجمهور الأدب والشعر الثلاثاء 9 أوت/أغسطس، الذكرى 14 لرحيل شاعر الأرض والثورة والوطن محمود درويش.

درويش الذي جعل من هويته وانتمائه العربي عنوان معركة في مجابهة الجلاد الصهيوني في “سجل أنا عربي”، وأعلن قيام دولة فلسطين بين قصيدتين، وحرّر خيوط الشمس من أصفاد الاحتلال، ناحتا بكلماته موقعا لشعبه تحت ضيائها.

ترك درويش “الحصان وحيدا” بلا وداع أخير، ذات يوم حزين من أوت/أغسطس 2008، بعد أن أثقل قلبه بأنواء طويلة من الحزن والتغريب القسري عن فلسطين.

بين محطات الشتات القاسية شكّلت تونس محطة استقرار روحية ونفسية عميقة لدرويش لما أنسه بين ظهرانها من الألفة والدفئ الإنساني، وارتباط شعبها الغريزي بالقضية، لتنسج قصة حب أسطورية بين الشاعر وقرطاج التي احتضنت رفاقه من مقاتلي منظمة التحرير وقياداتها وحافظت على وهج الثورة.

“كيف نشفى من حب تونس”، لا أبالغ بالقول إنها من العبارات التي سجلها التاريخ لتبقى مدوّنة في سفر الأدب العربي، تستفز مخيلة الشعراء وهواجس العشاق، وتترجم رابطة خاصة، وعلاقة فوق العادة قلما تكرّرت تفاصيلها، لا تضاهيها إلاّ أشواق المتنبي الدائمة إلى حلب الشهباء التي ظل عشقه لها يتردّد عبر العصور.

قافية العشق

لم يطلق درويش جملته اعتباطا أو من باب المجاملة، والتزلف، والتقرب إلى الجمهور التونسي سيرا على ركاب بعض فناني المشرق ومبدعيه، ممّن اعتادوا التصنيج وتصنع المواقف، وترديد عبارات خاوية من شاكلة “تونس بلدي الثاني”.

كانت قوافي درويش، وكلماته تأبى الارتزاق من الموقف أو استدرار العاطفة، والمشاعر، فمتى حدثك شاعر الأرض وأحد رموز فلسطين، وذخيرتها الأدبية عن عواطفه تجاه تونس، فثق أن كلماته كالـ”رصاصة” مباشرة، دقيقة، مغمّسة بعذوبة الشعر خالية من الرتوش والتجميل، وبعض الإضافات و”المبالغات” التي يقتضيها المقام والقول والوزن.

هي صيغة أسطورية لإعلان الحب، إذ لا يليق بعاشق بمنزلة درويش إلاّ إعادة تعريف فعل الحب ومنازله وما بينهما، من وله، وعشق، وجوى كتبت تفاصيله على دفاتر ذكريات طويلة، وبين سطور قصائد خالدة قدّر لها أن ترى النور على شواطئ قرطاج.

من موسكو إلى تونس

رافقت لعنة المنفى درويش عقودا طويلة، مرتحلا من عاصمة إلى أخرى، عبر موسكو إلى القاهرة ثم بيروت مرورا بدمشق ونيقوسيا وصولا إلى تونس التي حط الرحال عندها بعد استقرار قيادة منظمة التحرير فيها سنة 1982.

“غادرت دمشق إلى تونس، ورأيت الرئيس عرفات، والإخوان في مشهد تراجيدي، رأيت الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطئ بحر”، بين ثنايا توصيفه لواقع الثورة الفلسطينية، وما آلت إليه على الضفة الجنوبية للمتوسط بعيدا عن خطوط التماس مع العدو، بدا واضحا أن مزاج درويش الذي أدماه الارتحال لم يتعوّد في أشهره الأولى على مناخ تونس.

انطباع أولي كان مغلفا بعوامل ذاتية وموضعية، كان له أن يتحول لاحقا إلى قصة إدمان لصخب شوارع العاصمة، والهدوء الساحر الذي يغمر ضاحية سيدي بوسعيد، والتي كان يهرب إليها فرارا من ضجيج باريس وجفاف طقوسها الإنسانية.

ملجأ الروح

كانت تونس ملجأ درويش طوال أكثر من 10 سنوات لغسل روحه، واستعادة المعنى من وطأة البرد الفرنسي، حيث كان يقضي فترات متقطعة لتحرير مجلة الكرمل التي انتقلت إدارتها من بيروت إلى باريس، إذ كان يسافر باستمرار، حرصا على البقاء أطول فترة ممكنة قرب منظمة التحرير في تونس.

“هو البلد الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين، لقد ودعونا بالزهور”، جملة تلخص جانبا من التاريخ الفلسطيني المعاصر الذي كان درويش شاهدا عليه، وتختزل غربة مريرة سكنت روح الشاعر، نتيجة امتزاج المنفى بملاحقات الترحيل القسري المتتالية.

لم تخفّف تونس وطأة الإحساس بالغربة فحسب بل حمت درويش، و”الفلسطينيين من الانهيار النفسي، وأعادت لهم الأمل”، على حد تعبيره.

“كانت نظرة التونسيين إلينا كفلسطينيين مشوبة ببعد أسطوري، فعندما ودعت تونس في المسرح البلدي لم أعرف كيف بكيت، سبقت الدموع كلماتي واختلطت مشاعري”.

مكانة تونس الاستثنائية جعلت درويش لا يتردّد في قبول أية دعوة للحضور أمام جمهورها حتى في أصعب أوضاعه الصحية، حيث يحتفظ بباكورة قصائده، ودواوينه الجديدة ليقدّمها في أمسياته التونسية على ركح المسرح البلدي.

وأمام جمهور غفير كان درويش في خريف 2007 على موعد مع تحية أخيرة، وكان قبلها غارقا في متابعة فصول “الجدارية” التي حوّلتها مجموعة فلسطينية إلى عمل مسرحي مبهر، كأنه يستحضر بين لوحاتها تفاصيل كتابتها الدامية على محفة غرفة العمليات، وبين أوجاع “القلب المفتوح”، مشهد الوداع الأخير شابه صمت مخفور بكلام كثير، رحل درويش بعدها بأشهر قليلة، و”في القلب شيء من تونس”، التي لم تشف بعد من غيابه.