ثقافة

محمد الدغباجي… أسد الجنوب التونسي الذي قاوم الاستعمار وتغنى به إسماعيل الحطاب


في مثل هذا اليوم 1 مارس/ آذار من العام 1924 أُعدم أسد الجنوب التونسي الذي أرّق الاستعمار الفرنسي، محمد الدغباجي

   في ساحة سوق بلدته الحامة التابعة لمحافظة قابس عن سن ناهزت الـ39 عاما.

ويروي العديد أنه رفض وضع العصابة على عينيه ساخرا من الموت، كما يُروى أن زوجة والده زغردت لهذا المشهد، وهتفت مباركة شجاعته والشرف الذي نالها منه، وأنه أجابها وهو يبتسم “لا تخشي علي يا أمي فإنني لا أخاف رصاص الأعداء، ولا أجزع من الموت في سبيل عزّة وطني..الله أكبر ولله الحمد”.

من هو الدغباجي

ولد الثائر التونسي الشهير وبطل الجنوب محمد الدغباجي عام 1885، وكانت حينذاك قد مرت سنوات قليلة فقط على دخول الاستعمار المباشر البلاد التونسية (1881). وهو من مواليد مدينة الحامة من محافظة قابس، واستقر ذكره بالوجدان الشعبي فغناه، وخلد وقائع كفاحه، وحين  وافته المنية بكاه ورثاه.

كان الدغباجي منذ الصغر يستشعر حقدا خاصا ضدّ الدخيل الجاثم على بلاده، شأنه شأن الكثير من أبناء الجنوب، وسائر أبناء تونس، الذين أبوا دوما أن يرضخوا للحكم المركزي المجسّم في المظالم، فرفضوا التجنيد في صفوف الجيش الاستعماري، وثاروا وتمردوا.

لم يكن الدغباجي محنكا سياسيا ولا منظرا أو مستهديا بنظرية ثورية، يحسب للمعارك كل حسابها. ولم يكن منظرا للواقعية والعقلانية، كان فقط ثائرا ومثالا للفدائي الذائد عن العزّة والكرامة.

ونسبه هو الدغباجي الزغباني الخريجي من بني يزيد، أما الدغباجي فهي كنية خاصة به لا بأسرته.

لمّا بلغ الثانية والعشرين من عمره أجبرته الحاجة والحرمان على قبول التجنيد، وذلك سنة 1907 حتى 1913. في تلك الفترة كانت تصل الجنوب التونسي أنباء عن انتصارات الليبيين على الإيطاليين، فتثار الحمية، وتبعث النخوة، وتؤجّج مشاعر التعلق بالكرامة.

وبلغت أخبار المواقف البطولية لقادة المقاومة الطرابلسية مسامع الدغباجي، وخاصة منهم خليفة بن عسكر النالوتي. فتحركت فيه مشاعر الشهامة والنخوة، وبدأ يفكر في الفرار من الجندية، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا مشغولة بالحرب العالمية الأولى.

لم يتردد الدغباجي طويلا، و فرّ من المعسكر الفرنسي بالذهيبة في تطاوين، والتحق بصفوف المقاومة مع خمسة من رفاقه. شارك في بداية نشاطه في مهاجمة الحصون الفرنسية بالحدود كجندي بسيط، لكنه اشتهر بإقدامه، وبحسن رمايته، فنال حظوة خاصة عند قائده النالوتي. بيد أن بطولاته لم تتأكد إلا بداية من العام 1918.

مقاومة  المستعمر

صمّم الشاب الدغباجي على كيل الصاع صاعين للمستعمر الفرنسي، فكوّن مجموعة فدائية عادت خلسة عبر التراب الليبي. وتناهت إلى مسامع الفرنسيين أخبار الدغباجي، فعزموا على مطاردته، والمطالبة برأسه، خاصة بعد حادثة “الزلوزة” في غرة جانفي/ يناير1920، التي قتل فيها عدد من أعضاء الديوانة الفرنسيين.

وقد أشبع المستعمر بني زيد وأهالي الدغباجي ألوانا من التنكيل الانتقامي،   إذ عمد إلى ردم الآبار والمواجل لقطع الماء عن المقاومين، ونقل الأهالي مع حيواناتهم إلى الحامة. كما زج بالرجال في السجون، و اعتقل النساء في محتشد خاص… وأجبر السكان على حمل السلاح لمطاردة المقاومين، بقيادة العميل المسمى عمار بن عبد الله بن سعيد، الذي وعدته السلطات الاستعمارية بمنصب خليفة الحامة.

وقد حاول هذا العميل استدراج الدغباجي، ولكنه تفطن إلى المكيدة فبعث له رسالة بتاريخ 16 فيفري/ فبراير 1920، يقول فيها: “أنتم تطلبون منا الرجوع إلى ديارنا لكن ألسنا في ديارنا؟  لم يطردنا منها أحد، فحركتنا تمتد من فاس إلى مصراتة، وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا… ونقسم على أننا لو لم نكن ننتظر ساعة الخلاص لأحرقنا كل شيء، والسلام من كل جنود الجهاد”.

وتثبت هذه الرسالة الأبعاد، التي كانت تعبئ الدغباجي وأمثاله بروح المقاومة، وهي الأبعاد الوحدوية والجهادية الرافضة للاستغلال والظلم، وتعبّر عن روح التحدّي لقوة الاستعمار وبطشه.

وقد نجح الدغباجي فعلا في إشعال العديد من المعارك في الجنوب التونسي أهمها معركة “خنقة عيشة”، و”المحفورة”، وواقعة “المغذية” من محافظة صفاقس، والتي واجه فيها  صحبة  قلة من رفاقه قوات المستعمر التي تعدّ حوالي 300 نفر، ونجا خلالها بمساعدة بني عمّه، ممّا جعل القوات   

الاستعمارية تسلّط ضدّهم عقابا شديدا. وكذلك واقعة “الجلبانية”، التي كاد يسقط أثناءها ثانية بين أيدي القوات الاستعمارية وهو جريح.

المحاكمة والإعدام

في يوم السابع والعشرين من أفريل/ نسيان 1921 وقعت محاكمة الدغباجي غيابيا والقضاء بإعدامه مع جمع من رفاقه، الذين التحقوا بالتراب الليبي، ولكن “الطليان” لم يتأخرّوا في القبض عليهم وتسليمهم إلى السلطات الفرنسية. ومن هناك تم إعدامه في غرّة مارس/ آذار 1924.

وهكذا بقيت قصّة الدغباجي شفوية تتردّد على الألسن، ومنها ما تغنى به الفنان البدوي الراحل إسماعيل الحطاب:                                        

الخمسة اللّي لحقوا بالجُرة *** وملك الموت يراجي

لحقوا مولى العركة المرة *** المشهور الدغباجي.