وجدي بن مسعود
الحديث عن الموسيقى الملتزمة والسياسية في تونس، يرتبط ضرورة بفرقة “البحث الموسيقي” بقابس، هذه المجموعة الموسيقية اتلي كانت قرينة “الفن الملتزم” تعتبر النواة الأولى للفن البديل منذ أواخر السبعينات وبداية الثمانينات في تونس، لتكرس تجربة تونسية محلية على صعيد الألحان والكلمات، وتخاطب المهمشين والبسطاء بلغتهم، وتعبر عن واقعهم دون أن تنفصل عن القضايا ذات البعد الإنساني والعربي
اختمرت فكرة تشكيل فرقة موسيقية مستقلة تنهض بالأغنية البديلة، عقب أحداث جانفي 1978، وما رافقها من قمع شديد وتنكيل بالمعارضين والمتظاهرين، والنشطاء النقابيين والطلابيين بشكل عام.
جيل الأغنية الثورية
مهدت أحداث “الخميس الأسود”، لبروز جيل جديد من الشعراء والكتاب من أصحاب التوجه الثوري المباشر في تونس، مثل التيجاني زليلة وعلي سعيدان ومختار اللغماني، والصغير أولاد أحمد وعبد الجبار العش وآدم فتحي.
تلقفت مجموعات موسيقية هاوية ذات توجهات يسارية هذه القصائد، وحاولت تلحينها معتمدة توجهًا أقرب إلى أسلوب الشيخ إمام من حيث النصوص المغناة واللحن كذلك.
سنة 1980 وفي ذكرى تأسيس المعهد الثانوي بمدينة قابس (جنوب شرقي تونس)، تكونت فرقة البحث الموسيقي حين نظمت بالمناسبة أول حفل فني جماهيري لها.
فلسفة الموسقى
اختار المؤسسون وهم نبراس شمام وخالد الحمروني وخميس البحري وآمال الحمروني، اسم “فرقة البحث الموسيقي” تجسيدا لفلسفتهم القائمة على البحث والتجريب في المضامين والأنماط الموسيقية، والقطع مع أسلوب التعاطي مع القصائد الجاهزة.
قدمت الفرقة أعمالا من نماذج متنوعة، تراوحت بين القصائد والطقوقة والأغنية، وأسهمت في تركيز نمط تونسي روحًا وقالبًا للموسيقى الملتزمة، لتكر بعدها السبحة من خلال مجموعات أخرى أبرزها أولاد المناجم والحمائم البيض.
بلغت الموسيقى الملتزمة في تونس أوج انتشارها خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي بفضل تطور التجارب وتنوعها، خاصة على مستوى فرقة البحث الموسيقي التي كانت بمثابة القاطرة الرائدة لبقية المجموعات، حيث قدمت مجموعة من الأغاني ما تزال خالدة إلى اليوم في ذاكرة عشاق الأغنية البديلة، على غرار “هيلا هيلا يا مطر”، و”البسيسة” و”لو الندى دمعة سخيبة” و”نخلة واد الباي”، فضلًا عن رائعة “سأحمل وجهي وأرحل” التي تحولت إلى أيقونة وتيّمة فنية ارتبطت بصوت آمال الحمروني وأدائها الخرافي.
من البحث إلى عيون الكلام
عاشت الحركة الطلابية في تونس في الثمانينيات مخاضاً مقاوماً كان دافعًا لمجموعة البحث الموسيقي وبقية المجموعات الناشطة في مجال الموسيقى الملتزمة. كانت الساحة الجامعية مساحة خصبة للعروض، إلى جانب المقرات النقابية والفضاءات الثقافية المستقلة بل الخارجة تماماً عن سيطرة النظام حينذاك، ما جعل من مضمون الأغاني مشحونًا بقضايا الحريات ومعاناة الكادحين، والتهميش والفقر والقضية الفلسطينية وكفاح الشعوب في مواجهة الاستعمار.
في أغنية “البسيسة” طرحت مجموعة البحث واقع الطلبة المنحدرين من الجهات الداخلية والمنسية، والأقل حظاً من حيث التنمية ومعاناتهم الاجتماعية والمادية، والتمييز الذي يواجهونه في العاصمة والمدن الكبرى.
غنينا لشعبنا…وغنينا لفلسطين
يتحدث نبراس شمام في تصريحات سابقة عن معالم الاختيارات الغنائية للمجموعة بالقول “منذ البداية كان انتماؤنا إلى مدرسة الشيخ إمام، اهتممنا بكل المواضيع التي تهم الإنسان في كل أبعاده، آلامه أحلامه، مقاومته كل أشكال الاستغلال والظلم، غنينا لشعبنا وغنينا لفلسطين، غنينا للحب بمعانيه الراقية، للوطن، للسجين، للطالب، للعامل، وبشّرنا دائماً بغد أجمل”.
بعد ما يزيد عن عقد من التوهج، عرفت المجموعة صعوبات سببها التضييقات من النظام الديكتاتوري، الذي عمل على محاصرة الأغنية الملتزمة لما تمثله من نفس معارض وثوري، كما تعرض عدد من أعضائها إلى السجن وهو ما أدى بالنهاية إلى توقفها أواسط التسعينيات.
سنة 2004 عندما نظمت المجموعة “حفل العودة” بالمسرح البلدي، اعتبر المتابعون للمشهد الثقافي الحدث مؤشرًا على عودة الأغنية الملتزمة بعد سنوات من الانكماش، لكن العرض لم يكن سوى محاولة لجمع شمل الرفاق القدامى في لقاء أخير مع الجمهور، كانت الخلافات الداخلية بين أعضاء الفرقة تعبيرًا عن واقع الأغنية السياسية المأزوم، وهو ما أدى إلى ظهور مسارين فنيين متوازيين، بعد تشكيل خميس البحري وآمال الحمروني مجموعة “عيون الكلام” والتي عملت على تجديد أنماط الأغنية البديلة ومزيد تطويرها، في حين حافظ نبراس شمام على التسمية التاريخية وعزز الفريق بمجموعة من الشباب، وواصل في نهج المدرسة ذاتها التي تنهل من تجربة الشيخ إمام، مستفيدًا من مساحة الحريات بعد الثورة وعودة الاهتمام بهذا النمط الموسيقي بين الجمهور التونسي.