محمد بشير ساسي
قبل أن يطوي العام 2022 سجلّاته المتراكمة بالحروب والاضطرابات والخلافات، تسرّبت أرقام مفزعة ومليئة بالإحباط والسلبيّة يدور في فلكها العالم بأسره والجغرافيا العربيّة على وجه الخصوص، جرّاء أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة تتحمّل أعباءها الثقيلة شعوب المنطقة التي لا تملك رفاهية العيش الكريم.
ولعلّ ما سيبقى في الأذهان “جائحة كرونا” التي أتت على الأخضر واليابس مخلّفة وراءها أعدادا كبيرة من الضحايا وانكماشا اقتصاديّا، وكذلك آثار التغيّر المناخي، وصولا إلى الحرب الروسيّة على أوكرانيا التي عقدت وضعية العالم العربي المنهك أساسا من الصّراعات والحروب والتنمية المفقودة وتفاقم أزمة ديون الحكومات العربية، التي تخطّت حاجز التريليون ونصف دولار في عام 2022، حسب تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي.
مكامن الخلل
ثلاث معضلات دفعت عدّة مؤسّسات مالية واقتصادية دولية إلى التحذير من تداعياتها خصوصا على الاقتصادات العربية الضعيفة التي تقترب يوما بعد يوم من حافة الإفلاس، وباتت عاجزة عن الاستيراد لعدم توفّر النقد وعن سداد الديون وصرف أجور موظّفي الدولة.
ويحدّد خبراء ومحلّلون اقتصاديون مكامن الخلل في الاقتصاديات العربية في ثلاثة عناصر أساسية:
– أولا: استيراد النماذج الاقتصادية من الخارج بدل نماذج اقتصادية محلّية خاصّة بكل دولة، تقوم على المقوّمات الذاتية والمواد البشرية للدولة.
– ثانيا: طبيعة الأنظمة السياسية وهي إما قبلية عائلية وإمّا ديكتاتورية تكرّس واقعا اقتصاديا يجعل المواطن تابعا لها ويضمن استمراريتها، وبالتالي فالطبقات السياسية في العالم العربي هي أصل المشكل لأنّها لا تريد تبنّي القرارات الصحيحة لمعالجة الأزمات لأنّ المسألة تحتاج إلى إرادات أكثر منها خيارات.
– ثالثا: المنظومة الأخلاقية والثقافة الاستهلاكية المحكومتان بالفساد الذي لم تحرز عدة بلدان العربية أيّ تقدم يذكر في خفض مستوياته على مدى العقد الماضي، بل إنّ هذه الآفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أصبحت “ممنهجة“.
أرقام مقلقة
ووفق مؤشّرات منظمة الشفافية الدولية، ما تزال بلدان غارقة في صراعات وأعمال اقتتال مثل سوريا واليمن وليبيا، في صدارة الدول الأكثر فسادا خلال العام 2021 بالإضافة إلى لبنان المترنّح سياسيا يغرّد بدوره في أول السرب، في المقابل حقّقت قطر والإمارات قفزة نوعية في مكافحة الظاهرة مسجّلتين تقدّما كبيرا من أجل السيطرة عليها.
على أرض الواقع المتردي وبلغة الأرقام المقلقة، كشف تقرير للجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، أنّ ثلث السكان في الدول العربية يقعون تحت خط الفقر؛ أي بواقع 130 مليون شخص باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي وليبيا، وذلك استنادا إلى المعايير الوطنية في كل بلد.
وحسب التقرير، فإنّ نسبة التضخّم في المنطقة ارتفعت لتصل بالمعدّل إلى 14% عام 2022، متوقّعا أن تستمرّ هذه المستويات في الارتفاع خلال العامين المقبلين، خاصّة في 2024. كما أشار التقرير إلى أنّ معدّلات البطالة مرتفعة، حيث وصلت في 2022 إلى 12%، أما معدّلات البطالة بين النساء العربيات فهي الأعلى على مستوى العالم.
معدّلات التضخّم هذه تحمّلتها الشعوب العربية في إطار ما يُعرف بالتضخّم المستورد، بسبب طبيعة اقتصادات دولها الريعيّة، حيث تعتمد موازناتها العامة حتى 90% على الموارد الطبيعية أو الاستدانة من الخارج.
تملّص الدول
ويُرجع مراقبون الفشل في العالم العربي إلى تطبيق المشروع “النيوليبيرالي“خلال العقود الأخيرة، وهو في الواقع مشروع سياسي طبقي لا يقتصر على المنطقة العربية، ويقوم على تملّص الدولة من مسؤولياتها في الحماية الاجتماعية ومعالجة قضايا الفقر.
وأمام هذه الكومة من المعضلات يدفع الإنسان العربي وما يزال الثمن الأكبر لهذه السياسات، فهي الأعلى عالميا منذ أزمة 2007-2008 في حدة سياسات التقشّف وتقليص الإنفاق العام على حساب خدمات الدولة وتحميل العبء الضريبي الأكبر لذوي الدّخل المحدود، حتى وصلت نسبة المتضررين حوالي 80% من السكان.
وعلى الرغم من كل هذا التقشّف زاد عجز الموازنات العربية، واستحوذ الإنفاق على خدمة الدّين العام (التي فرضها صندوق النقد الدولي بالتواطؤ مع القائمين على السياسات العامة) نسبة عالية من الإنفاق العام وزادت المديونية لإيفاء الديون السابقة. كما أنّ الفوائد المرتفعة تشكّل خطرا كبيرا لأنّها أدّت إلى حصول قلّة على جزء من ثروة المجتمع، وهي مبالغ لا يوازيها مردود أيّ نشاط إنتاجي.
فعليا تترقّب الدول العربية بتوجّس عام 2023 أحد أكثر السنوات توقّعا بحدوث ركود اقتصادي في وقت لم تتعافَ معظمها من تبعات جائحة كورونا خلال عامي 2020 و2021، والحرب الروسية الأوكرانية وضغوط التضخّم، حيث تأثّرت غالبيتها من التشديد النقدي الذي نفّذه البنك الفدرالي الأمريكي، بزيادة أسعار الفائدة 7 مرات في 2022 على الأموال الاتّحادية، وتبعات ذلك على ارتفاع كلفة القروض والواردات المقومة بالدولار.
تفاوت التأثّر
ومثل بقية الأزمات السابقة، لن تكون تأثيرات خطر الركود بالدرجة نفسها على الاقتصادات العربية التي تنقسم إلى دول منتجة للنفط وأخرى مستهلكة له. فبالنسبة إلى الدول المنتجة للنفط (السعودية، قطر، الإمارات، الكويت، الجزائر، العراق، وبدرجة أقل، سلطنة عُمان، البحرين، وليبيا) نجحت في أكثر من أزمة سابقة بإدارة التحديات الاقتصادية التي واجهتها، بفضل الرصيد المالي المطمئن الذي تتمتّع به من عائدات النفط الخام والغاز الطبيعي.
في المقابل، تواجه الدول المستهلكة للنفط تحدّيات كبرى قد تعيدها سنوات إلى الوراء، لأنّها لم تتعافَ حتى اليوم من تبعات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. وخلال الفترة الماضية اضطرّت مصر إلى خفض قيمة عملتها عام 2022 بنسبة 57% وهي ترزح تحت عبء الديون، التي تضاعفت بأكثر من ثلاث مرات في العشر سنوات الأخيرة لتصل إلى 157 مليار دولار.
وفي بلد يستورد غالبية احتياجاته من الخارج وشهدت فيه أسعار الفائدة ارتفاعا بمقدار 8% في 2022، كان التأثير فوريا إذ بلغت نسبة التضخّم 18.7%، وفق الأرقام الرسمية. ويشهد الأردن حراكا مستداما احتجاجا على الانهيار الاقتصادي وارتفاع أسعار الديزل، كما يرزح 95% من السوريين تحت خط الفقر.
أما لبنان فأصبح اقتصاده يعيش على المساعدات المقدّمة إليه، بعد دخوله في أزمة مالية واقتصادية حادة، بدءًا من أكتوبر/تشرين الأول 2019، وصفها البنك الدولي بأنّها واحدة من أشدّ الأزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
كما يواجه السودانيون أزمة معيشية طاحنة تزداد ضراوة، ويبقى الوضع في تونس على كفّ عفريت نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها، في وقت أرجأ صندوق النقد الدولي اجتماعًا لمجلس إدارته للنظر في منح البلاد قروضا كان من المقرّر عقده في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لأنّ ميزانية تونس والإصلاحات الاقتصادية لعام 2023 لم تجهز بعد.
وفي تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية تضمن أهم التوقّعات والأحداث المرتقبة في القارة الإفريقية في العام المقبل، كشف أنّ تونس على وشك الإفلاس في ظلّ وضع سياسي متأزم وأنّ الوضع الاقتصادي مرشّح للتفاقم في 2023. وتوقّعت المجلة أن يدفع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والضغوط الاقتصادية العديدة الأخرى الناجمة عن التضخّم، التونسيين إلى خروج إلى الشارع في 2023 للاحتجاج على حكم قيس سعيّد.
خيار الهجرة
ونتيجة لهذه الأوضاع المزرية، يخاطر الشباب العربي بحياتهم في عرض البحار هربا من الأهوال الاجتماعية في شمال إفريقيا والمنطقة العربية التي كشف تقرير أممي أنّ 32.8 مليون شخص هاجروا أو أُجبروا على النزوح منها في عام 2020 -حسب التقديرات- بينما مكث 44% منهم في المنطقة.
ويمثّل اللاجئون من حيث عددهم مجموعة بارزة، إذ بلغت نسبة اللاجئين القادمين من بلدان عربية 43% من مجموع اللاجئين المشمولين بولاية مفوضية اللاجئين (8.9 مليون شخص من أصل 20.7 مليون شخص في العالم).
كما لا يمكن التغافل عن ظاهرة ترك الكفاءات العربية أوطانها بحثًا عن موطئ قدم في بلاد أخرى. إذ لا يقيس مؤشّر خروج الكفاءات وهجرة العقول فقط أعداد الكفاءات والمهنيين والمثقفين الذين غادروا أوطانهم، بل يقيس أيضا التأثير الاقتصادي والفراغ الاجتماعي اللّذين يتركهما خروج تلك الأدمغة من بلادها والعواقب التي قد تترتّب على ذلك على مستوى تنمية الدولة.
وتقول عدة دراسات قامت بها الجامعة العربية ومنظّمة يونيسكو والبنك الدولي، بأنّ منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تساهم في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وتعتبر أنّ هناك 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من مجموع الكفاءات والعقول العربية، يهاجرون إلى دول أوروبا واستراليا وكندا وغيرها من البلدان حول العالم.
وباختصار، سيشهد عام 2023 زخما كبيرا في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والطاقية، في حين ستُحقّق مساعي التعدّدية القطبية وإلغاء القطبية درجة ما من التوازن، ووسط كل هذه الانتظارات تشير إحصائيات عدة إلى أنّ المنطقة العربية التي يقرّ عدد سكانها بأكثر من 430 مليون نسمة- تشهد تراجعا في تحقيق أهداف التنمية المتعلّقة بالقضاء على الفقر وعدم المساواة، وتسجّل أحد أكبر الفوارق في الدخل في العالم بسبب غياب الاستراتيجيات الحكومية في المجال الاقتصادي والخدمي والإنساني.