لا يبدو مقترح الرئيس إيمانويل ماكرون لتعليم اللغة العربية في المدارس العمومية، محل ترحيب أو قبول من جانب كل النخب السياسية الفرنسية، وكذلك بين أوساط الرأي العام.
فالدعوة التي أطلقها الرئيس الفرنسي ضمن جملة من المقترحات، لتهدئة الانتقادات الداخلية التي يواجهها، وامتصاص غضب المسلمين جراء مواقفه وسياساته المعادية للإسلام، يُنظر إليها على نطاق واسع بكثير من الريبة والتشكيك داخل الأوساط المسلمة، ومن جانب القوى السياسة والشعبية المعارضة لهذه الخطوة أيضًا.
فخلال حواره مع منصة بريت الإلكترونية قبل أيام، أعاد ماكرون طرح مبادرته لتبني تدريس العربية بشكل رسمي بالمدارس، لا من أجل مكافحة نزعة الانعزالية الإسلامية لدى جزء من مسلمي فرنسا وهو الرهان الذي يطرحه مشروعه، وخاصة المنحدرين من أصول عربية و مغاربية، لكن بهدف “الاعتراف بالتنوع الثقافي الذي يميز النموذج الفرنسي”.
“ما أريد أن أفعله هو أنّ أكون قادرًا على توسيع تدريس اللغة العربية وهي واحدة من أكثر اللغات التي يتحدّث بها هؤلاء الشباب في عائلاتهم، أولا لمنع إساءة استخدامها من قبل الآخرين، وأيضًا للتعرف على جانب مهمّ من الجذور الثقافية والحضارية لدى هذه الفئة من الفرنسيّين”، يضيف ماكرون.
تجفيف منابع التطرف
مشروع وإن بدت ملامحه مثالية، فإنّ تحليل أبعاده يكشف عن مضامين ملغومة سياسية وإيديولوجية، برغم التبريرات القيّمية والحضارية، التي يحاول الرئيس الفرنسي أنْ يُغلّف بها مبادرته.
يستند ماكرون لإثبات وجهة نظره المقترحة، إلى أهمية إشراف الدولة على برنامج تدريس العربية، وقطع الطريق على تدريسها بالصورة الراهنة داخل المساجد والجمعيات الإسلامية في فرنسا، بما يضمن حسب تعبيره عدم تلقي التلاميذ لمضامين تحتوي على أفكار متطرفة وتفسيرات أصولية.
ويشدّد الرئيس الفرنسي على هذه النقطة بشكل أساسيّ، في دفاعه عن فكرته خلال إطلالاته الإعلامية الأخيرة، حيث يقول: “إنّ تدريس العربية يتم حاليًا من خلال جمعيات تعمل في أحيان كثيرة وليس دائمًا على نشر تفسيرات وأفكار تُسوّق في مضمونها لمشروع انعزالي إسلامي، وتحويل الشباب عن قيّم ومفاهيم الجمهورية”.
مشروع “الإسلام الفرنسي”
كلام ماكرون وإنْ بدا ظاهره منطقيًا، إلا أنه لا يقول الحقيقة كلها بحسب المراقبين، فالدعاية التي يسوق لها تعتمد خلطًا خطيرًا ما بين تدريس العربية كلغة حمّالة للعلوم والمعارف والحضارة، وما بين الإسلام كعقيدة وتفسيرات تتباين ما بين التشدّد والاعتدال.
خلْطٌ في المفاهيم ينزع إلى وصْم العربية بالتطرف، وترسيخ فهْم مغلوط لدى الوعي العام بكونها مساوية للإرهاب باعتبارها لغة المسلمين، والتعمية على العامل الأساسي الذي يكمن في التفسيرات المتشدّدة للنص الديني، وهو أمر لا يرتبط باللغة العربية لوحدها.
ما لم يقله ماكرون هو أنّ مقترحه يتنزّل ضمْن مشروع استراتيجي إيديولوجي لقولبة الإسلام، بما يتناسب مع فلسفة الجمهورية والنظام (اللائكي؟) في فرنسا، وإعادة هيكلة مفاهيمه في إطار الانتقال من سياق الإسلام في فرنسا إلى نموذج الإسلام الفرنسي.
المشروع صاغه بحسب ما ذكرته وسائل إعلام فرنسية، معهد “مونتينين”، وهو مركز دراسات سياسية واجتماعية ذو خلفيّة ليبرالية، ويديره حكيم القروي أحد المقرّبين من ماكرون، ويطرح جملة من التوصيات، من بينها تعزيز تعليم العربية في المدارس.
ويشير تقرير معهد مونتينين، إلى أنّ عدد المُقبلين على تعلّم العربية بالمساجد تضاعف بالسنوات الأخيرة بنسبة 10 مرات، ما يثير مخاوف من انتعاش الفكر السلفي الذي يُسيْطر على أغلب المساجد، انطلاقًا من حلقات تدريس العربية والتي تأخذ لاحقًا مضامين دينية متشدّدة.
المشروع يرجّح أنْ يستمر الجدل بشأنه وقتًا طويلًا، ما بين التخوفات اليمينية من أسلمة فرنسا، ورُؤية منْفتحة تدافع عن الإثراء والتنوع الثقافي والحضاري، كما يطرحها مدير معهد العالم العربي في باريس ووزير التعليم الأسبق جاك لانغ، والذي ينتقد إحجام الحكومات المتعاقبة على النهوض بتعلّم اللغة العربية في المدارس، وعدم تكريس التعدّدية اللغوية ثقافيًا واجتماعيًا.
في المقابل يُجابَه مثل هذا الطرْح برفض واسع من التيارات اليمينية والقومية، والتي ترى في المقترح تهديدًا لقيم العلمانية والهوية الوطنية الفرنسية، التي تتأسس على اللغة الفرنسية كإطار لغوي جامع لجذورها الثقافية والحضارية.