أثارت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تكْريمَ عدد من الشخصيات العربية والإفريقية، عبْر إطلاق أسمائها على الشوارع الفرنسية جدلاً واسعا في الأوساط السياسية، وانقسامًا داخل الرأي العام.
انقسام سُرعان ما تحول إلى تراشق حادّ على منصات التواصل الاجتماعي، ما بين مواقف رافضة لهذا “الغزو” والذي يتهدّد هوية المدن الفرنسية تاريخيا، وما بين دعوات تتبنّى دعوة ماكرون لتكريم العرب والأفارقة الفرنسيّين اعترافًا بإسهاماتهم، وتكريسًا للتنوّع الثقافي والعرقي التي يخْتزله المجتمع الفرنسي.
فخلال حوار أجراه مع منصّة “بريت” الرقمية، أطلق ماكرون دعوة إلى وضْع مدوّنة تضمّ عددًا من الأسماء تتراوح ما بين 300 إلى500 شخصية عربية وافريقية لتكريمها وتخليدها.
إخفاق “النموذج الفرنسي”
المقترح جاء على هامش تطرّق الرئيس الفرنسي إلى مسألة إخفاقات “النموذج الفرنسي”، في التكامل بين مختلف مكوّناته متعددة الثقافات والخلفيات.
فشل “تجربة التكامل الفرنسي” في تحقيق الاندماج، خاصة بالنسبة إلى الفرنسيّين المنحدرين من أصول إفريقية ومغاربية، خلق بحسب ماكرون نوعًا من “الردَّة الفكرية” لدى تلك الفئة من الشباب، “الذين لا أعتقد أنّنا عرفْنا كيف نتحدّث معهم”، حسب تعبيره.
ماكرون أشار بشكل ضمْنيّ إلى أنّ انتشار التطرّف الديني و”الانعزالية الإسلامية”، في أوساط الشباب الفرنسي من أصول عربية وإفريقية، هو نتيجة عدم شعورهم بالانتماء والذي أرجعه إلى عدم إبراز وتثمين الدولة ومؤسساتها الرسمية للتاريخ الوطني القائم على التنوع، والدور الذي لعبه ملايين الفرنسيّين من أصول إفريقية ومغاربية من تضْحيات في سبيل فرنسا، مضيفا: “لا أعتقد أنّ مجتمعنا قد فكّر في ماضيه، لدينا الملايين من شبابنا وكبارنا الذين جاؤوا من القارة الأفريقية، وعلينا التفكير في دمْج الجيل الجديد بشكل أفضل، اقترح مدوّنة تضمّ ما بين 300 أو 500 اسم لهؤلاء الأبطال”.
الدعوة إلى إقامة تماثيل وتسمية الساحات بأسماء عربية وإفريقية حتى وإن كانت ذات مرجعية فرنسية، مثّلت منطلقا لهجوم حادّ شنته القاعدة الشعبيّة لليمين الفرنسي والتيارات القومية على ماكرون.
“محاولة تملّق الأقليات المسلمة والأفارقة على حساب أغلبية الفرنسيّين” و”مبادرة لتكريم الأشخاص اعتمادًا على لوْن البشرة والعرْق، وليس على أساس ما حقّقوه”، هكذا وصفت آلاف التدوينات مبادرة الرئيس الفرنسي مُعبّرة عن رفْضها، فيما اعتبرت أطراف أخرى أنّ “ماكرون لا يملك قانونًا، سلْطةَ استبدال أسماء شوارعنا بـ 500 شخصية سوداء أو عربية لغايات إيديولوجية”، بحسب التدوينة.
الناشطون الليبراليّون والحقوقيّون وصفوا المقْترح بكونه محاولة للإلهاء والتعميّة عن قانون الأمن الشامل، عبْر تحويل النقاش واهتمام الرأي العام إلى قضية موازية.
مبادرة للتسويق السياسي
والراجح أنّ مبادرة ماكرون تأتي بحسب المتابعين للشأن الفرنسي، ضمْن مسْعى لالتفاف على الانتقادات الواسعة التي جوبِه بها نتيجة مواقفه وقراراته الأخيرة، والتي وُصفتْ على نطاق واسع داخليا وخارجيا بأنها “معادية للإسلام والمسلمين”.
وبحسب محلّلين سياسيّين، فإنّ تصريحات ماكرون التي هاجم خلالها “الانعزالية الإسلامية وتهديدها لقيّم الجمهورية” والإجراءات المعلنة بحق عشرات المساجد والجمعيات الإسلامية والخيرية، تنْدرج ضمن مساعي لكسب ودّ اليمين والتيارات القومية والتي تحوز على شعبية وتأييد واسع، فضلا عن طرْح مشروع لتكريس الهوية الوطنية أمام البرلمان ضمن نفس السياق.
ويبدو أنّ الإدانة الواسعة التي تعرّض لها ماكرون من وسائل الإعلام، والاشتراكيّين واليسار والقوى الوسطية، دفعته نحو محاولة إبداء “حُسْن النوايا”، واسترضاء الجاليات العربية والمسلمة، وتسويق شعار الاندماج الوطني، والنموذج الفرنسي بهدف التخفيف من الأزمة الداخلية التي تتهدّده.
محاولة التبرّؤ هذه من تهمة معاداة الإسلام، والتأكيد على النموذج الفرنسي القائم على التنوع، والذي يحتوي الجميع بما فيهم المسلمين والأفارقة، يحتاج بحسب المراقبين إلى مقاربة أعمق من مجرّد تسمية الشوارع بأسماء عربية، بهدف معالجة واقع الإنبتات الهويّاتي الذي يعيشه ملايين الفرنسيّين، ما بين أصولهم وواقعهم الفرنسيِّ الراهن.