عالم

“ماكدونالدز” … قصة “شطيرة برغر” اختزلت التحولات في العلاقات الروسية الأمريكية

وجدي بن مسعود

بإعلان شركة “ماكدونالدز” الإثنين 16 ماي/مايو عن قرار التفويت في سلسلة مطاعمها في روسيا بعد إغلاقها أواخر فيفري/فبراير الماضي، يكتب الفصل الأخير لقصة أشهر وجبة سريعة في التاريخ غيرت وجه روسيا المعاصر قبل ما يزيد عن 30 عاما.

فعلى وقع توتر سياسي شديد يخيم على العلاقات بين واشنطن وموسكو منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تجلت القطيعة غير المعلنة على المستوى الاقتصادي من خلال انسحاب مئات الشركات والعلامات التجارية الأمريكية من السوق الروسية.

كانت كبرى الكيانات الاقتصادية مثل “كوكا كولا” و”شال” و”مايكروسوفت” في طليعة الشركات التي علقت أعمالها، لكن علامة “الأقواس الذهبية” التي تحول شعارها إلى رمز لنمط الحياة الأمريكية جاء قرارها محملا بدلالات تتجاوز الخسارة المادية الضخمة التي منيت بها، لتسدل الستار على أسطورة الانفتاح الشامل الذي دشنته وجباتها في قلب المعسكر الشيوعي في 31 جانفي/يناير 1990.

رياح التغيير

لم يكن الإعلان عن افتتاح أول مطعم لسلسلة “ماكدونالدز” في الاتحاد السوفياتي قبل 32 عاما، مجرد استثمار أمريكي في سوق متعطشة إلى رأس المال الغربي بعد أكثر من 80 عاما من الاحتكار الشيوعي للقطاع الاقتصادي، بقدر ما ترجم التحولات المتسارعة التي هبت على المعسكر الشرقي بعد نهاية حقبة الحرب الباردة.

مثل افتتاح المطعم بشارع بوشكين في موسكو أحد ثمار تطبيع العلاقات مع واشنطن، وباكورة لسياسات “البروسترويكا” التي بشر بها ميخائيل غورباتشوف آخر الزعماء السوفيات، محملة بوعود الانفتاح الاقتصادي والإصلاح السياسي.

تصدر خبر الترخيص لأول فرع لماكدونالدز في روسيا عناوين الصحف الغربية والأمريكية لعدة أسابيع، فكان بمثابة إعلان عن نهاية مرحلة الانغلاق الثقافي والحضاري والسياسي التي طبعت علاقة روسيا السوفياتية بالغرب منذ الثورة البلشيفية، وجعل من الافتتاح قصة صحفية مثيرة تجاوزت في أهميتها التطورات المتسارعة في المنطقة.

بداية العصر الأمريكي

بعد شهرين من سقوط جدار برلين وفي الحادي والثلاثين من جانفي/يناير 1990، تكدس آلاف من المنتظرين في طوابير طويلة أمام المطعم الذي اتشحت واجهته بشعار “الأقواس الذهبية”، لاقتناء وجبة البرغر الأمريكي رغم سعرها المرتفع.

وبعد عقود من العزلة، تذوق ثلاثون ألفا من سكان موسكو في اليوم الأول من نشاط المطعم شطائر اللحم البقري على طريقة “العم سام”.

رمزية مطاعم “ماكدونالدز” تتجاوز حسب المؤرخين فكرة الترويج للثقافة الاستهلاكية الأمريكية بين ملايين الروس، إذ تجسد مفهوم الرأسمالية الغربية ونهاية حقبة سياسية غلب عليها التنافس السياسي والعسكري بين المعسكرين الشرقي والغربي، وبداية عصر القطبية الواحدة بقيادة واشنطن.

عود على بدء  

لعلها المفارقة التاريخية التي جعلت من مطاعم “ماكدونالدز” عنوان بداية ونهاية لمرحلة سياسية في تاريخ العلاقات الروسية الأمريكية، فمثلما دشنت قبل 3 عقود “دخول موسكو العصر الأمريكي وتدجينها سياسيا وإقليميا”، على حد توصيف عديد المراقبين والباحثين، أضحى قرار بيع سلسلة محلاتها البالغ عددها 850 مطعما في كامل أنحاء البلاد، عنوانا لتغييرات جيوستراتيجية عميقة في توازنات القوى وحسابات المواجهة بين فلاديمير بوتين وجوزيف بايدن.

في خطابه الذي جاء قبل ساعات من بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا، وصف بوتين سقوط الاتحاد السوفياتي بـ”المأساة التاريخية العميقة”، في رسالة ضمنية ترجمت نوايا سيد الكرملين الساعي إلى استعادة دور روسيا على الساحة الدولية، وإحياء الأمجاد السوفياتية التي سقطت في بداية عهد “الماكدونالدز”، فهل يشكل إسدال الستار على “شطيرة البرغر” في روسيا، إعلانا عن نهاية زمن “القطبية الأمريكية” وبداية عصر جديد من صراع القوة والنفوذ بين واشنطن وموسكو؟