رأي عرب

ليبيا.. هل دقّت ساعة الحقيقة؟

مختار غميض

ما بين اجتماع واشنطن وقبيل اجتماع المجلس الأعلى للدولة المؤجّل، يبدو أنّ الأجسام الليبية قد استنفدت الوقت اللازم لوضع قواعد مشهد سياسي جديد بإرادتها.

فها هي مجموعة الاتّصال الدولية حول ليبيا تحثّ الخُطى في واشنطن لكشف الآليات البديلة وبلورة رؤية مشتركة حول ليبيا، بقيادة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي، بعد شبه إجماع على تجاوز القوى المحلية التي فشلت في حسم القرار الداخلي.

 تلكّأ مجلس الدولة في التصويت على القاعدة الدستورية بعد إملاءات من البرلمان، ما أعطى الأسبقية لتدخّل تأثيرات اللاعبين الدوليين، ستكون لها الكلمة الفصل بشأن كيفية إجراء الانتخابات الليبية وليس فقط ضرورتها؛ وقد تنضمّ بدرجة أقل فاعلية كل من قطر والإمارات، وسط استبعاد للدور الروسي.

اجتماع يستثني روسيا

تسعى الولايات المتحدة بكل قوة إلى تأثيث المشهد الليبي بعيدا عن روسيا في شكل باتّ شبه معلن، بمشاركة أخرى قوى وازنة من دول حلف الأطلسي. 

لذلك تبدو مجموعة الاتّصال الدولية حول ليبيا 3 زائد 2 زائد 2 (أمريكا وبريطانيا وفرنسا، إلى جانب إيطاليا وألمانيا، فضلا عن مصر وتركيا)، منتقاة بشكل يفتح الباب للدول الغربية لرسم المشهد السياسي الجديد في ليبيا.

في المقابل تحاول أمريكا بغطاء أممي؛ تحجيم المحاور الإقليمية التي كانت إلى وقت قريب مؤثّرا في الساحة الليبية، وهنا نقصد الدور المصري والتركي، فتركيا تحتفظ بتعاون عسكري كبير مع الغرب الليبي، بالتأثير نفسه المصري على الشطر الشرقي، أو هو يزيد عليه.

وتأمل مصر إلى آخر لحظة -وهو ما عبّرت عنه- أن تؤثّر في القرار المزمع اتّخاذه في واشنطن، من خلال دعوة البرلمان الليبي (الذي استعجل نشر التعديل الدستوري بالجريدة الرسمية ليصبح نافذ المفعول) لمجلس الدولة بسرعة التصويت على التعديل، ولذلك لضمان التمديد للمجلسين.

وبالتالي ضمان استمرار الحليف القديم في السلطة، فمن تعرفه أفضل بالتأكيد ممّن لا تعرفه، وقد عُرف عقيلة بولائه التام المعلن للجانب المصري والانصياع لرغباته السياسية في ليبيا.

لا رهان على المجلسيْن

في ظلّ عدم حضور أيّ ممثّل للجانب الليبي في اجتماع واشنطن، يبدو أنّ الوقت قد نفد بشكل نهائي أمام مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة؛ أو الطبقة الأوليغارشية كما يحلو للبعض تسميتها، في استنباط اتّفاق أو توافق داخلي يقطع الطريق على مبادرات دولية أخرى.

لذا حوّل عقيلة صالح سحب قراراته الفردية على خالد المشري، لكن الأخير لم يناور بالشكل اللازم لسحب البساط من التدخّل الخارجي، ما جعله ساحة لمعارضة داخله لم تسمح بتحقّق النصاب للتوافق، وألّب عليه الشارع للتظاهر ضدّ اتّفاقه مع مجلس البرلمان.

هذه الفرص المُهدرة داخليا لطالما أُعدّت تلاعبا من الجسم التشريعي والاستشاري، لإطالة عمرهما، فهل تنطلي هذه المرة على الفاعل الخارجي؟

لا شكّ في أنّ بعض الدول الخارجية ترغب في بقاء بعض الأشخاص في السلطة، لكن تغييب جميع الأطراف الليبية لا يبدو عملا عفويا، فهو من ناحية إبعاد لشبهة الانحياز لأيّ طرف محلّي أو الوقوع تحت تأثيراته، ثم هو إذن بالانتقال إلى مرحلة ثانية لطرح البديل.

وعليه، لم يحظ مقترح عقيلة صالح بشأن تشكيل حكومة جديدة، بالقبول من طرف الأمريكيين ومن معهم من الغربيين.

وبعيدا عمّا أُشيع من تسريبات حول الاجتماع المطوّل، نفتها البعثة الأممية، فإنّه ما من شكّ في أنّ الخطوط العريضة قد حُدّدت بخصوص ماهية الطريقة الجديدة وآليتها لتنظيم الانتخابات دون أيّ دور للبرلمان ومجلس الدولة، وهو ما يفسّر تسريع عقيلة صالح بطرح تعديله الدستوري لإرباك الفاعلين ومنح المجلسين مزيدا من الوقت لإقراره، كما أشرنا سابقا.

الرئاسي على الخطّ

لطالما أعرب المجلس الرئاسي الليبي على لسان رئيسه محمد المنفي في إيجاد فرص حقيقية تتجاوز الانسداد الحالي، وأعرب مرارا عن طرح مبادرات للحلّ إلّا أنّه ظلّ يلوّح بذلك تهديدا دون الكشف عن أيّ طرح جدّي.

لكن على خلاف السابق، يبدو المنفي متحمّسا هذه المرة للمبادرة الأمريكية لإنهاء الفترات الانتقالية، عبر تنفيذ استحقاقات جديدة تنهي مع الشخصيات الجدلية والوجوه السياسية المستهلكة.

وما يشجّع الرئاسي الليبي على المضي في خياره، هو أنّ موقفه حظي بدعم كبير من المبعوث الأممي وحتى من المندوب الليبي بالمنتظم الدولي، وخاصّة من إيطاليا وألمانيا، الدولتان الأقلّ تدخّلا مقارنة ببقية الأوروبيين، لا سيما فرنسا وبريطانيا.

هذه المواقف جعلت المنفي يتحدّث بلهجة جديدة غير مألوفة، ما يعكس تغيّر المواقف الدولية التي تبدو عازمة على التغيير وطرح بديل من الممكن أن يكون فاعلا ومؤثّرا على أرض الواقع.

ساعة الحقيقة!

عطفا على ما سبق، يمكن اعتبار أنّ منعرجات قادمة ستشهدها ليبيا ستفصح عنها الترتيبات الدولية الجارية.

 وفي مقدّمة ذلك ستكون مخرجات جلسة مجلس الأمن نهاية الشهر الجاري، وما ستنتجه من حلول للأزمة دافعا نحو توجّه جديد، سيتمّ اعتماده خاصّة في ما يخصّ الموقف من القوانين الانتخابية.

هذه الضغوط ستكون المحطّة الأخيرة بعد إجماع غير مسبوق على إجراء انتخابات في 2023؛ وعليه فإنّ حل الأزمة لن يكون إلّا من الأطراف الخارجية المتحكّمة في المشهد.

وتلك الأطراف تصاعديا هي، تركيا في الغرب ومصر في الشرق، إضافة إلى الإمارات وقطر، بالتزامن مع ممارسة قدر أوفى من الضغوط من الدول الغربية لتوحيد الهدف النهائي، وحتى يتمّ التخلّص من ارتهان البلاد لأجسام تآكلت شرعيتها.

فتجديد السلطة التنفيذية أمر موكل هذه المرة إلى الآليات التي سيتم اعتمادها طريقًا لصندوق الاقتراع، وهو المأزق الحقيقي الذي يستشعر الجميع في الداخل والخارج ضرورة تجاوزه بغضّ النظر عن كيفية ذلك، وهو لبّ الأزمة المُحاطة دائما بالألغام، التي فسحت المجال للدبلوماسية الغربية بدل المحلية.

سيناريوهات خلافية

لا ريب أنّ التكتّم عن فحوى اللقاءات يعكس التخوّف من إثارة الخلافات التي قد تعصف بالجهد الجماعي المنتظر، تماما كما أنّ إصرار عقيلة على أنّ البرلمان هو مصدر جميع التشريعات والقوانين في إهانة لمجلس الدولة سيعصف بخلافاته مع صاحب الدور الاستشاري الذي لا تمر القوانين دون التوافق معه، كما ينصّ على ذلك اتّفاق الصخيرات بوضوح.

وما تزال هناك مسائل ثانوية تستحقّ توضيحات، وفي أولوية تلك المسائل ما يُثار حول طبيعة الانتخابات، ما إذا ستكون عامة أو مقتصرة على انتخابات برلمانية، لينتخب النواب إثرها رئيسا للبلاد، أو تحديد موعد للانتخابات الرئاسية.

لكن انتخابات الرئيس قد تجد معرقلات جمّة، فقرار مجموعة الاتّصال الدولية لن يخلو من صعوبات ستصطدم بالواقع، لا سيما في ما يخصّ القاعدة الانتخابية، وما إذا ستسمح بترشّح عسكريين ومزدوجي الجنسية ورموز النظام السابق.

فشخصيتا حفتر وسيف الإسلام لا يبدو أنّ لهما قبولا في الترشّح لدى التيار الفبرايري، بالتالي سيُعاد السيناريو نفسه للموعد الانتخابي السابق، الذي كان مصيره مزيدا من التجاذبات، انتهت بفشل الانتخابات.

 وهذا ما أوصل الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم؛ أي بتعزيز رهان البعض على تدخّل قوى غربية لمنع ترشّح الشخصيات المُثيرة للجدل، من قبيل ما أُثير في الآونة الأخيرة عن تمسّك بريطانيا بمنع ترشّح سيف القذافي، وكذلك الحال للولايات المتّحدة التي ساهمت في التدخّل لإسقاط أبيه.

ضمن المنهج نفسه، هناك تحفّظ أمريكي على ترشّح حفتر (المتابع جنائيا في محكمة فرجينيا) للانتخابات الرئاسية، وهو ما تسرّب عن اجتماعات بين أمريكيين وفرقاء ليبيين، تنمّ عن وجود توجّه يتمّ العمل عليه بالكواليس، وهو ما أكّدته مصادر إعلامية لندنيّة.

وعليه، فإنّ البصمة الأمريكية البريطانية في الحلّ يعتمد على استبعاد نهائي للحل الليبي، وفي أقصى الحالات منح مُهلة وجيزة بمثابة فرصة أخيرة لتوافق داخلي، قد يسمح بترشّح قيادات من الصف الثاني مثل ما تمّ تداوله عن ترشّح أبناء حفتر.

 ولا يمكن إغفال البعد الدولي لاستبعاد روسيا، أي إضعاف حظوظ ذراعها حفتر في الترشّح، وكذلك سيف الإسلام نجل القذافي، الحليف القديم للروس واللّذين تجمعهما اتّفاقيات عديدة ترغب موسكو في إحيائها.

مجمل تلك العوامل ستلقي بانعكاساتها على المستقبل القريب للحالة الليبية، لا سيما بعد تنامي مناخات عدم الثقة في الأطراف المحلية بخصوص الاستحقاق الانتخابي، ذلك يستوجب حتما عدم سقوط الثقة في الحل الأممي حتى لا تنهار الأوضاع نهائيا.

في كل الأحوال، حجم الترتيبات الأممية والظروف المرحلية تؤكّد أنّ ثمة شيئا ما يُطبخ للبناء عليه، فلا نقطع حبائل أيّ توَقّع قبل مشاهدة جلسة الإحاطة الأممية يوم الـ27 من فيفري الجاري لنتبيّن الإجابات عن أسئلة مُلحّة.

فهل تسرُّب المقترح الأمريكي البريطاني الفرنسي البريطاني من اجتماع واشنطن (حول الاكتفاء بانتخابات تشريعية لإعداد دستور وترحيل الرئاسية إلى ثلاث سنوات) جاء من فراغ أم هو بالون اختبار؟

وهل تحمُّس محمد المنفي هذه المرة من قبيل الأمل غير المسبوق والمصادفة؟ 

وهل تكذيب البعثة الأممية لتسريبات اجتماع مجموعة الاتّصال يخفي حقائق دقّت ساعتها؟