عقب سنوات من “البرود” تعود “الدبلوماسية الإيــــطالية” لتفــترضَ حضـورها القوي في ليـبيـا من بوابة “شراكة تاريخية” توّجتها الزيارة الرابعة لجورجيا ميلوني منذ تولّيها مقاليد السلطة
محمد بشير ساسي
لأول مرة منذ 14 عاما تعود “أجواء الدفء” لتخيّم من جديد على العلاقات التاريخية بين ليبيا وإيطاليا تحت العنوان الاستثماري الأبرز “منتدى الأعمال الليبي – الإيطالي” الذي انعقد مجدّدا في العاصمة طرابلس بعد غياب دام 10 سنوات، عاش على وقعها البلد الغني بالنفط عديد الهزّات القويّة بسبب التوتّرات السياسية والانفلاتات الأمنية المتكرّرة.
اتفاقية الصداقة
وينظر على نطاق واسع للصفحة الجديدة من الشراكة بين طرابلس وروما خلال الفترة الأخيرة، كونها عودة الحياة بأكثر فاعلية إلى “اتفاقية الصّداقة” التي وقّعها الراحلان الزعيم الليبي معمر القذافي ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني في الـ 30 من أوت سنة 2008، يومها اعتذرت روما لطرابلس عن حقبة الاستعمار، والتزمت بدفع 5 مليار دولار تعويضات -في شكل استثمارات على مدى 25 عاما- في سابقة لم يعرفها العالم العربي الذي رزحت معظم دوله تحت نير “الاستعمار” في القرن الماضي.
وشملت الاستثمارات آنذاك شقّ طريق سريع ساحلي من غرب ليبيا إلى شرقها، بالإضافة إلى التزام إيطاليا بإنجاز مشاريع سكنيّة، وتقديم منح دراسيّة للطلبة الليبيين في الجامعات الإيطالية، وتشجيع الشركات الإيطالية على اقتحام السوق الاستثمارية في ليبيا.
كما نصّت الاتفاقية على تقديم السلطات الإيطالية منحا لضحايا حقول الألغام التي زرعتها القوات الإيطالية في “عهد موسوليني” في الحرب العالمية الثانية لوقف زحف قوات الحلفاء. وبالمقابل نص الاتفاق على تعاون بين طرابلس وروما في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
نزعة براغماتية
لفهم أهمية المصالح الحيوية مع ليبيا وعمقها، فذلك يحيل كل متابع لهذا الملف على طريقة تعامل روما في حقبة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني مع القارة الإفريقية بشكل عام.
فعلى المستوى الإستراتيجي نجحت السياسيّة التي تنتمي إلى حزب “إخوة إيطاليا” -وفق مراقبين- في هندسة الطيف الشعبوي الإيطالي واستطاعت بذكاء كبير أن تحوّل اليمين المتطرف إلى تيار ذي نزعة براغماتية محافظة تحسن التموقع والاستدارة جنوبًا نحو إفريقيا والمستعمرة السابقة مع المحافظة على موقعها في خارطة الفعل الدبلوماسي الأوروبي خاصة بعد الأزمة الأوكرانية.
قدَّمت ميلوني منذ البداية خطابًا ليس من المعتاد أن يستخدمه سياسيون يمينيون؛ إذ تحدّثت عن الغطرسة الغربية، وأنّ الأوروبيين يَعِدون الأفارقة ولا يَفون بوعودهم ولا يعطونهم الاحترام اللائق. وقد قالت بوضوح: “إنّ الأوروبيين يهتمون بإعطاء الدروس للأفارقة بدلا من مساعدتهم بجدية في حلّ مشكلاتهم، مؤكِّدة أنّ سياستها الجديدة في القارة عِمادها أن يصبح التعاون مع إفريقيا ‘غير مُفترِس وغير إمبريالي’ “، على حدِّ تعبيرها.
وتميَّزت آلية عمل ميلوني منذ تسلّمها مقاليد رئاسة الوزراء بسِمتَيْن أساسيتين: الأولى هي البراغماتية في التعامل مع المواقف الطارئة دون الجمود الأيديولوجي، والثانية هي الميل إلى الوسط أكثر في سياساتها بدلا من التشبُّث برؤى اليمين، ومن ثم استطاعت ميلوني توسيع شعبيتها خارج حدود قاعدتها الشعبية اليمينية. وقد نجحت ميلوني في إعطاء انطباع عام في الشارع الإيطالي بأنها امرأة قادرة على ترسيخ الاستقرار بعد سنوات طويلة من الحكومات المتخبّطة في دولة تُعرف بكونها من الدول ذات نظام سياسي مستقر.
ومنذ تولّيها السلطة في أكتوبر 2022، أكّدت ميلوني رغبتها في إطلاق خطة تعاون جديدة بين إيطاليا وإفريقيا. وقد جرى تضمين الهدف بالفعل في البرنامج الانتخابي لحزب “إخوة إيطاليا” (فراتيلي دي إيطاليا) للانتخابات البرلمانية، في سبتمبر 2022، وخصّصت “ميلوني” مقطعا كاملا من خطابها الأول في البرلمان للمشروع الضروري للحصول على الثقة من أجل ولادة الحكومة. ولطالما عرَّفت “ميلوني” المبادرة بأنها “مخطط ماتِّيِي من أجل إفريقيا”، وهو تعبير تكرّر عدة مرات، ولكن ما يزال لا يُعرف عنه سوى القليل من الناحية العملية. والإشارة هنا إلى “إنريكوماتِّيِي” كان رئيسا أولا لشركة “AGIP” (الشركة الإيطالية العامة للنفط) ثم “ENI” الوكالة الوطنية للهيدروكربونات.
شراكة تاريخية
عقبَ سنوات من “البرود والجفاء”، تعودُ “الدبلوماسية الإيـطالية” لتفـترضَ حضـــــورها القـوي والمـميّز في ليـبيا من بوابة “شراكة تاريخية” توّجتها الزيارة الرابعة لجورجيا ميلوني منذ تولّيها مقاليد السلطة.
وفي محاولة من “إيطاليا الجديدة” تغيير النّظر إليها من محرّك لتأجيج الاستقطاب الدولي إلى قبل مشجّع على استقرار وداعم لعملية السلام في ليبيا، راهنت روما على زيادة التعاون الاقتصادي مع ليبيا ومزاحمة العديد من دول العالم في انتزاع مكاسب استثمارية من طرابلس، فنجحت ميلوني في حصد 8 مذكّرات تفاهم واتفاقيات جديدة أضافتها إلى “اتفاق غاز تاريخي” الأضخم منذ أكثر من 20 عاما كانت وقّعته في جانفي 2023، لتطوير حقلي غاز قبالة السواحل الليبية باستثمارات تقدّر بثمانية مليار دولار على مدى ثلاث سنوات.
ومن المقرّر أن يبدأ إنتاج الغاز في الاتفاقية الجديدة، في عام 2026، وسيبلغ ذروته عند 750 مليون قدم مكعب من الغاز يوميّا، وفق شركة النفط الإيطالية العملاقة “إيني”. في حين قالت المؤسسة الوطنية الليبية للنفط إنّ الاتفاقية ستدرّ 13 مليار دولار من العائدات لليبيا.
خلال الاحتفاء بعودة منتدى الأعمال الإيطالي – الليبي أعادت أول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في إيطاليا التأكيد من جديد أنّ ليبيا أولوية بالنسبة إلى إيطاليا، واستقرار البحر الأبيض المتوسط والأمن الإيطالي وللتحدّيات الكبرى التي تواجه أوروبا، مثل أزمة الطاقة.
وخاطبت ميلوني مسؤولي البلدين قائلة: “إننا نضع الأسس لمرحلة جديدة تماما في علاقاتنا الاقتصادية والتجارية.. نحن نفعل ذلك مع إدراكنا بأنّ إيطاليا وليبيا هما دولتان صديقتان، تربطهما قرون من التاريخ المشترك، وأنّ مصائرنا متشابكة ونحن أقرب بكثير إلى بعضنا البعض مما نتذكره في الكثير من الأحيان”.
وضعت الاتفاقيات أسسا جديدة لتعزيز التعاون الاقتصادي والمؤسّسي والتنمية بين البلدين، حيث توزّعت كالآتي:
1 – مذكّرة تفاهم في مجال التعاون من أجل التنمية: تهدف إلى تنظيم أنشطة الوكالة الإيطالية للتعاون من أجل التنمية “AICS” في ليبيا، وإضفاء الشرعية على وجودها في الدولة وضمان الحفاظ على علاقات رسمية مع السلطات الليبية. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ قدرات “Aics” على العمل في ليبيا في الوقت الحالي محدودة للغاية، وذلك أيضا بسبب استحالة إطلاق مفاوضات مع السلطات الليبية المركزية والمحلية، وتوقيع عقود خدمات وأعمال وتوريد وإدارة موظفيها ومكاتبها في البلاد، كذلك فإنها مستبعدة حاليّا من الحصول على تصاريح من السلطات الليبية لتنفيذ مشروعات تعاون مموّلة من قبل الاتحاد الأوروبي.
2 – مذكّرة تفاهم بين وزارة الحكم المحلي الليبية وغرفة والتجارة: تهدف مذكّرة التفاهم الموقّعة بين وزارة الحكم المحلي الليبية وغرفة التجارة الإيطالية – الليبية المشتركة إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الإيطالية والليبية، ودفع التعاون بين الشركات الصغيرة والمتوسطة الليبية والإيطالية، علاوة على تسهيل تطوير المشاريع المشتركة ونقل التكنولوجيا وخلق بيئة مواتية لنمو الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وتشمل مجالات التعاون الأخرى تنظيم الفعاليات وتقديم المساعدات الفنية والقانونية وتبسيط الإجراءات المصرفية والجمركية. ومن المقرر إنشاء لجنة مشتركة للإشراف على تنفيذ الأنشطة، وعقد اجتماعات قطاعية شهرية بين ليبيا وإيطاليا لإنشاء شراكات جديدة. مدة الاتفاقية ثلاث سنوات مع إمكانية التجديد.
3 – اتفاقية بين Simest والمصرف الليبي الخارجي: جرى التوقيع أيضا على اتفاقية بين مؤسسة “Simest” والمصرف الخارجي الليبي وغرفة التجارة الليبية الإيطالية: وتلتزم الأطراف الموقّعة دعم وضع أسس لتطوير العلاقات التجارية بين إيطاليا وليبيا بهدف إحداث زيادة كبيرة في الاستثمارات الثنائية وتعزيز القدرات التنافسية للشركات من خلال دعم عملية نقل التكنولوجيا. وتهدف الاتفاقية أيضاً إلى دعم تشغيل “آلية “Simest الإفريقية” في ليبيا، وهي أداة تمويلية بقيمة 200 مليون يورو من أجل تطوير العلاقات التجارية بين إيطاليا وإفريقيا، المنصوص عليها في خطة ماتّي.
4 – مذكّرة تفاهم بين الاتحاد العام لغرف التجارة: هذه المذكّرة تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين إيطاليا وليبيا وتشجيع فرص الصفقات والاستثمار. وتضع الاتفاقية إطار تعاون يهدف في المقام الأول إلى تعزيز تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة. وتحقيقا لهذه الأهداف، فإنّ هذه الاتفاقية تنص على: تبادل المعلومات ووفود رجال الأعمال، ونشر المهارات الفنية والتقنيات وفرص التدريب، وتطوير المشاريع والمبادرات المشتركة، وتشكيل فريق عمل يضم ثلاثة ممثلين من كل جانب لإدارة الأنشطة المنصوص عليها في الاتفاقية.
5 – اتفاق بين وكالة التجارة الإيطالية ومركز الصادرات الليبي: من المقرّر توقيع اتفاقية تعاون بين وكالة التجارة الخارجية الإيطالية “Ice” ومركز ترويج الصادرات الليبي بهدف تحفيز التبادل التجاري والاستثمارات بين إيطاليا وليبيا، وعلى وجه الخصوص من خلال دعم الشركات الإيطالية في بحثها عن شركاء تجاريين جدد في قطاعات رئيسية، مثل المنتجات الزراعية-الغذائية والطاقة والتكنولوجيا الصحية وصناعة الأدوية والإسكان والبنى التحتية والتدريب الإداري للمصدرين.
6 – خطاب قبول بين هيئة إدارة الطريق السريع إمساعد – رأس إجدير وشركة توديني: من خلاله ستعلن الهيئة الليبية رسميا، وبتفويض حكومي، قبولها التعاقد مع الشركة الإيطالية لتنفيذ المشروع بمجرد التحقّق من توافر شروط الضمان المالي والتشغيلي التي لم تحدّد بشكل نهائي بعد.
7 – اتفاق صحي مع شركة “GKSD” القابضة الإيطالية: يهدف إلى تطوير فرص استثمارية في ليبيا لـ”GKSD”، التي تتبعها مجموعة سان دوناتو الصحية وتعمل أيضا في قطاعات أخرى تشمل الطاقة والبنى التحتية. وتلتزم الحكومة الليبية، بموجب هذا الاتفاق، دعم “GKSD” في افتتاح أفرع لها في ليبيا من أجل تنمية التعاون في المجال الصحي (مستشفيات ومراكز رعاية صحية فائقة الجودة وتدريب وبحث علمي) وفي تطوير بنى تحتية ومشاريع في مجال توليد وتوزيع الطاقة الكهربائية، علاوة على الكفاءة الطاقوية ومعالجة النفايات.
8 – مذكّرة بين هيئتي الطيران المدني الإيطالية والليبية: الهدف تقريب هذه الأخيرة من المستويات القياسية للطيران المدني الأوروبي. وتنص المذكّرة على بدء رحلات الناقل الوطني الإيطالي “ITA Airways” في ليبيا.
وقد تناولت حلقات النقاش آفاق التعاون الثنائي بين البلدين في قطاعات الطاقة والصناعات الزراعية والرعاية الصحية والأدوية والبنى التحتية والتصميم، فقد خصّصت جلسة أخرى لاستعراض أوجه الدعم العام، المقدّمة من قبل وكالة التجارة الخارجية الإيطالية “Ice” والمؤسسة الإيطالية للضمان الائتماني “Sace” والمؤسسة الإيطالية للخدمات المالية والتسويقية للتجارة الخارجية “Simest”، للشركات الإيطالية التي تنوي الانخراط في ليبيا.
وعلى هامش منتدى الأعمال، عقدت ميلوني اجتماعا ثنائيا مع رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة. وقد تركّزت المباحثات على مناقشة مختلف مجالات التعاون الثنائي المتنامي بين البلدين، مع تأكيد الرغبة المشتركة في التعاون بهدف تأسيس شراكات قائمة على المساواة مع الدول الإفريقية في إطار المشاريع المهمة التي أطلقتها خطة ماتّي للتنمية في إفريقيا.
استرجاع النفوذ
استطاعت إيطاليا استرجاع نفوذها التاريخي في مستعمرتها السابقة، والتفوق على الدول الأوروبية الأخرى من حيث خطواتها الجدية ومواقفها، والتي تستند بالأساس إلى دعم سلطة الأمر الواقع وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول. ويجمع مراقبون أنّ المصالح هي التي تحكم العلاقات بين ليبيا وإيطاليا، وأنّ ميلوني تحترم هذا المبدأ، كما أنّ رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة يتعامل معه بجدية كاملة في سياق الانسجام التلقائي مع متطلّبات المرحلة ومع سياسة البحث عن حلفاء يدعمون استمرار الوضع الليبي على ما هو عليه.
بلغة الأرقام المحفزة، تعدّ روما الشريك الأساسي لليبيا، إذ بلغ حجم التجارة بين البلدين 9.8 مليار دولار عام 2023، موزّعة بين واردات منها بنحو 1.8 مليار دولار، وصادرات إليها بحوالي 7.9 مليار دولار.
فيما احتلّت الصين المرتبة الثانية بتجارة بينية قيمتها 6.1 مليار دولار، تلتها ألمانيا التي بلغ حجم تجارتها مع ليبيا نحو 5.7 مليار دولار.
وتوضّح إحصائيات صادرة عن جهات رسمية إيطالية أنّ غالبية الصادرات إلى ليبيا (52.3%) هي وقود مكرّر في إيطاليا (1.05 مليار دولار)، في حين نحو الثلث عبارة عن أغذية زراعية (10.9%)، وآلات ومعدّات (8.6%)، وهو اتجاه ثابت بشكل متزايد.
وحسب وكالة “نوفا” الإيطالية، قُدّرت نسبة الشركات الإيطالية التي استأنفت نشاطها حاليا في ليبيا بنحو 70%.
أما بيانات بنك التنمية الإفريقي، فقد أظهرت أنّ ليبيا تمثّل أحد أسرع الاقتصادات نموا في المنطقة، مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12% في عام 2023 وتوقّعات بنسبة تتراوح بين 7% و8% لعام 2024.
ووفق نائب رئيس الاتحاد العام للصناعة الإيطالية (كونفيندوستريا) إنريكو بانياسكو لم يعد يفصل إيطاليا عن ليبيا سوى 300 كيلومتر، وبفضل البنية التحتية للطاقة والتجارية والرقمية مثل الكابلات البحرية، أصبح البلدان أقرب من أيّ وقت مضى.