اشتعل فتيل الغضب الشعبي في تونس من شمالها إلى جنوبها مرة واحدة، تزامناً مع الحجر الصحي الشامل الأيام الماضية، وما صُور في البداية على أنه “مجرد أعمال شغب وتخريب” أو احتجاجات محدودة بلا أهداف أو تأطير، تحول إلى موجة احتجاج حقيقية هادرة، نطاقها اتسع من أحياء مهمشة في العاصمة التونسية إلى الضواحي ومختلف الجهات والمناطق الداخلية.
أربعة أيام من الغلق التام أو الحجر الشامل كما يسميه البعض، كانت كافية لتتحول إلى فضاء زمني مناسب ترجم انقطاع صبر الشباب العامل والمعطل عن العمل، الدارس وتارك الدراسة، ممن تفاقمت أوضاعهم الاقتصادية أو ما عاد الوضع السياسي الذي تحكمه التجاذبات يطاق بالنسبة إليهم. سنة كاملة من الكساد بسبب أزمة كورونا نتائجها ملموسة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، تكاد تكون المحرك الأول لموجة من التحركات الليلية والمواجهات مع قوات الأمن، ترجمت بحسب المتابعين حالة من الغضب والإحباط والثورة على إخفاقات النخب السياسية طوال العشرية التي أعقبت الثورة، في تجسيد الوعود والشعارات الاجتماعية.
إحباط وغضب
خرجت الاحتجاجات من الأحياء الشعبية بالعاصمة، مثل حي التضامن والملاسين والكرم وواد الليل وغيرها من “أحزمة الفقر” برغم مخاطر الوضع الوبائي، ما يترجم حالة الغليان الاجتماعي بحسب الأستاذة درة محفوظ أستاذة علم الاجتماع بجامعة تونس في حوار مع بوابة تونس.
وفي تصريح لموقعنا ، بينت الأستاذة محفوظ أن المحرك الأساسي للاحتجاجات الأخيرة هو العامل الاقتصادي والاجتماعي، في ظل تفاقم اللامساواة بين الجهات والفئات، وتقلص الطبقة الوسطى وارتفاع معدلات البطالة وعدم تجسيد وعود التنمية.
“خيبة الأمل والإحباط كانت كبيرة بعد سنوات من الانتظار والأمل بالتغيير لدى قطاع واسع من الشباب، وخاصة المنحدر من الطبقات الفقيرة والمهمشة لذلك كانت ردة الفعل بهذه الطريقة، رغم المخاوف المتعلقة بالتجمعات تحسبا من العدوى بفيروس كورونا، لكن السواد الأعظم من المحتجين لم يبقَ لديه ما يخسره، وليس لديه إلا الصوت للتعبير والتنفيس عن غضبه”، تضيف الأستاذة درة محفوظ في تناولها لدلالات الاحتجاجات وأبعادها.
الأزمة الناتجة عن الوباء كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت حريق الاحتجاجات بحسب محدثتنا، بعد ارتفاع أعداد المعطلين عن العمل وانكماش النشاط التجاري، وتضرر الآلاف من العمال في مختلف القطاعات، وهي أوضاع كانت ارتداداتها أكثر حدة على الفئات الاجتماعية الأقل حظا ومحدودة الدخل.
وتشير الأستاذة محفوظ إلى أن استهداف المتظاهرين لأعوان الأمن باعتبارهم رمزا للسلطة والفضاءات التجارية، كان يحمل رسالة ضمنية لأبعاد الاحتجاجات الناقمة على فشل المنظومة الحاكمة، وتصوير واقع الجوع وارتفاع مستويات الفقر.
تراكم الإخفاقات
“سياسيا لا يمكن تحميل تبعات الأزمة الراهنة والانفجار الاجتماعي برمته على حكومة المشيشي الذي يعتبر أقرب إلى جيل الشباب”، تعلق الأستاذة محفوظ إجابة على سؤال بوابة تونس، مبينة أن الفريق الحكومي الحالي يتحمل جانبا من مسؤولية الوضع نتيجة فشل رئيس الحكومة في الاستماع لصوت الشارع في وقت مبكر، إلا أن الأزمة بالأساس نتاج لتراكمات مستمرة وعميقة من الحكومات الماضي وسياساتها المنفصلة عن الواقع ومطالب التشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية والتمييز الايجابي.
“لم يجد الشباب حظه طوال عشر سنوات، ولم يكن هناك اهتمام من القيادات والنخب التي تداولت على الحكم للحوار معه، وتقديم حلول حقيقة أو خارطة طريق طويل المدى لمعالجة الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي، في كل مرة كان الاكتفاء بحلول وقتية دون معالجة جذرية وحقيقية” تعلق محدثتنا بشأن خلفية الاحتجاجات.
الانتفاضات مستمرة…لماذا؟
الاحتجاجات كانت مثار انقسامات في الساحة الداخلية، بين من اعتبرها تحركات هامشية تغلب عليها عمليات التخريب والسرقة وهو الموقف الذي تبنته السلطة وعدد من القوى السياسية في البداية، في مقابل فعاليات اجتماعية وشعبية دافعت عن مشروعيتها باعتبارها “انتفاضة عفوية” تعبر عن صوت الشارع وإحباط الشباب المهمش، وهو ما خلق موجة ثانية من التظاهرات الحاشدة التي ضمت مئات الناشطين المنددين بفشل المنظومة السياسية، في تجسيد المشروع الاجتماعي للثورة.
يذكر الكاتب والباحث في التاريخ السياسي محمد صالح العبيدي في تصريحه لبوابة تونس، في تحليله لمضمون التحركات الأخيرة والجدل الذي أثير بشأنها باعتبارها “أحداثا مفتعلة ومدعومة من بعض الأطراف” بسلسلة الانتفاضات الاجتماعية التي عرفتها تونس خلال العقود الماضية بداية من أحداث جانفي 1978 وأحداث الخبز سنة 1984، وصولا إلى الثورة سنة 2011، معتبرا التحركات الأخيرة استمرارا لأزمات تخبو لبعض الفترات نتيجة عوامل سياسية، وانتهاج السلطة سياسة المسكنات الموضعية المؤقتة التي تضمن لها السلم الداخلي لبعض السنوات، دون معالجة جذرية لمعضلة الفقر والتمييز الاجتماعي والجهوي، ما يتسبب في تجدد التحركات في كل مرة.
ويضيف العبيدي “هناك غليان مستمر واستعداد لحدوث انفجار اجتماعي في السنوات الأخيرة وهو أمر تكرر بعد الثورة في عدة مناسبات على غرار الاحتجاجات التي جدت في شتاء 2016، ومع التحول بعد الثورة على صعيد الفاعلين الاجتماعيين، وكذلك على مستوى الوعي والمستوى التعليمي انكسر حاجز الخوف وأصبح الشارع رمزا لحرية التعبير والتعبير عن الذات للشباب الغاضب”.
وبحسب العبيدي فإن هذا التحول يفسر العدد الكبير من الاحتجاجات في تونس، والتي تقدر بحوالي 1000 احتجاج سنويا بأشكال مختلفة.
يستبعد محمد صالح العبيدي نظرية المؤامرة المتعلقة بالأطراف التي تقف وراء إثارة الأوضاع، مبينا أن الاحتجاجات الأخيرة نتيجة طبيعة للأزمة العامة التي تسبب بها الوباء، مذكرا في السياق ذاته بالمظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها عدة مناطق في العالم للسبب ذاته، على غرار فرنسا وهولندا والتي عرفت مظاهرات واسعة وصدامات حادة مع قوات الأمن بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية واحتدام المشاكل الاجتماعية.
ويخلص محدثنا إلى أن التحركات الأخيرة تعد بمثابة دعوة للقطع مع ثقافة “الحلول المسقطة”، وانتهاج تصورات جديدة في التعاطي مع الوضع الاقتصادي والأزمة الاجتماعية، عبر الانفتاح على الشباب وتشجيع منظمات المجتمع المدني على تقديم مقاربات مبتكرة للتشغيل والتنمية.