عالم

لغز كارولاينا الشمالية… جريمة تخفي جريمة

سمية المرزوقي

صباح شهر ماي/آيار 2002، تفاجأ زملاء ستيفاني بينات بشغور مكتبها، خاصّة وأنّها لم تكن في إجازة ولم تتعوّد منذ توظيفها على التأخّر يوما. وتزايدت حيرة الموظّفين مع مرور الوقت لصعوبة الحصول عليها رغم محاولات الاتّصال بها عبر الهاتف.

وبعد إشعار والديها قرّرا الذهاب إلى بيتها بكارولاينا الشمالية، لاستجلاء الأمر والاطمئنان عليها. لكنّهما أُصيبا بهلع شديد لرؤيتها ملقاةً في غرفة نومها دون حراك.

تفطّن رجال الشرطة منذ البداية لوجود آثار قاتمة اللون حول رقبتها، بما يرجّح أن يكون الخنق هو سبب الوفاة. وبعد معاينة جميع الأقفال تأكّدوا أنّ القاتل تسلّل إلى الداخل عبر النافذة، نظرا إلى وجود الستائر منزوعة، وعدم ظهور أيّ علامة على اقتحام البابين الأمامي والخلفي.

محاولات دون جدوى

بحث المحقّقون فرضية أن يكون المتسلّل لصّا قد اقتحم البيت لسرقة بعض الأغراض. لكن التحرّيات أثبتت أنّ كامل الأثاث والمقتنيات الثمينة وغير الثمينة، ظلّت بمكانها. ولم يتمّ العثور سوى على الهاتف، وكأس من الماء، وكيس صغير للمناديل الورقية داخل غرفة تغيير الملابس.

أدّى هذا الأمر إلى شكوك في أنّ شخصا ما كان مختبئا في ذلك المكان، في انتظار الانقضاض على ضحيّته. ولم يتمكّن رجال الشرطة من استخراج بصمات مقتحم البيت، الأمر الذي يدلّ على أنّه كان يرتدي قفّازين حتى لا يترك أثرا يكشف عن هويته.

تقول المحقّقة جاكي تايلر، في تصريح لوسائل إعلام أمريكية: “مسرح الجريمة يحتوي على مؤشّرات قليلة جدا وغير كافية، وكأنّ الجاني قد اتّخذ جميع احتياطاته حتى لا يترك وراءه أيّ دليل أو بصمة”.

عاد الأمل إلى المحقّقين عندما عثروا على مجموعة من الملابس الداخلية مخفية في حديقة قريبة من مكان الجريمة. لكن سرعان ما تلاشى أملهم عند التأكّد من أنّها ليست على ملك الضحية.

في تلك الأثناء، أصدر الطبيب الشرعي تقريرا يؤكّد وفاة ستيفاني في حدود منتصف الليل. وبمراجعة سجلّ اتّصالاتها، اكتشف المحقّقون أنّها أجرت اتّصالا بصديقها على الثامنة ليلا.

الاتّصال كان على هاتف بيته الذي يبعد أربع ساعات عن بيت ستيفاني. كما أكّد عدد من الشهود وجوده هناك، وهو ما يبعد فرضية أن يكون هو القاتل.

بعد إبعاد صديق الضحية عن قائمة المشتبه فيهم، ركّز رجال الشرطة بحثهم على تفاصيل حياتها وعملها ومحتويات هاتفها وحاسوبها الشخصي، بحثا عن أيّ تفصيل جديد.

وتمكّن فريق التحقيق هذه المرة من العثور على رسالة الكترونية، كانت ستيفاني قد أرسلتها إلى شقيقتها قبل أسابيع من يوم مقتلها، تضمّنت تعبيرها عن خوفها الشديد من ظهور شخص غريب يحوم حول بيتها.

وبالتوازي مع التحقيقات الميدانية، وبعد اكتشاف تعرّض الضحية للاغتصاب قبل موتها، انكبّ الأخصائيون على البحث عن هوية حامل الحمض النووي للحيوانات المنوية التي وُجدت على جسد القتيلة.

لكن لسوء الحظّ لا وجود لتطابق مع أيّ حمض نووي مسجّل بقاعدة البيانات الأمريكية “كوديز”، ممّا اضطرّ رجال الشرطة إلى مقارنة ما لديهم مع الحمض النووي لجميع الرجال المحيطين بستيفاني في عملها وحيث تقطن. لكن دون جدوى.

متطفّل في الحي

عند فشل العثور على تطابق للحمض النووي، حقّق رجال الشرطة مع عدد أكبر من المتساكنين في الحي الذي تقطن فيه ستيفاني في محاولة لإيجاد تفاصيل جديدة أو غير مألوفة.

واكتشف المحقّقون تطابق ما جاء في رسالة ستيفاني لشقيقتها مع ما قاله أغلب الشهود القاطنين جوارها، إذ لاحظ عدد من الجيران وجود شخص متطفّل يتسكّع بالمكان ليلا، ويقترب في أحيان كثيرة من نافذة الضحية.

وكانت أوصاف المتطفّل متقاربة جدا وفق شهادة الجميع. وانطلاقا من ذلك تمّ رسم صورة تقريبية له نُشرت عبر مختلف شاشات التلفزيون. ورغم ذلك فشلت محاولات الإيقاع بالقاتل مرة أخرى. فوجدت الشرطة أنّه من الضروري العودة إلى استجواب جميع الشهود والبحث عن وصف أكثر دقّة. وكان لهم ذلك بعد تأكيد أحد الجيران لوجود كلب برفقة المتطفّل.

تعرّف أحد المشرفين على شؤون الحي والصيانة، على أوصاف المشتبه فيه، وأخبر الشرطة عن شخص يحمل الأوصاف ذاتها وبرفقته كلب صيد ضخم كان يقطن في المكان. لكن غادر منذ سنة.

وأصبح هذه المرة لدى الشرطة اسم المظنون فيه وهويّته، وهو درو بلانتان؛ شخص ثلاثيني ليس لديه سجلّ إجرامي، وليس له أصدقاء، ويعيش وحيدا.

لا مجال لترك بصماتي خلفي

عند استدعاء درو إلى قسم الشرطة، أنكر أيّ صلة له بالجريمة، ورفض السماح باستخراج عيّنة من حمضه النووي. لذلك فكّر المحقّقون في مراقبته، والبحث بأنفسهم عن أيّ أثر يتركه خلفه قد يحمل حمضه النووي.

لكن درو تفطّن لفريق المراقبة، وظلّ ينظّف وراءه كل مكان يذهب إليه، ولم يعثر رجال الشرطة على شيء في بيته.

كان يتوخّى الحذر حتى عند الذهاب إلى المطعم، حيث ينظّف الفرشاة والكؤوس، ويتعمّد عدم ملامسة الأشياء مباشرة في حرص شديد.

لم ييأس رجال الشرطة والتقطوا فرشاته بعد مغادرته وتمكّنوا من العثور على حمض نووي، لكنّه بدا غير مكتمل لتعمّد درو مسحه.

الحمض النووي منقوص، لكنه قدّم للمحقّقين صورة جزئية متطابقة عن العيّنة التي استخرجت منذ البداية من العيّنة الموجودة على جسد الضحية.

ولمزيد التأكّد أخذ الأخصائيون عيّنات مختلفة من حمضه النووي من لوحة المفاتيح بمكتبه بعد مغادرته، وتمّ اكتشاف تطابقها التام مع عيّنة الحيوانات المنوية التي لديهم.

الجريمة الثانية

بعد تجميع الأدلة والمؤشّرات من مسرح الجريمة، يرجّح المحقّقون أنّ درو تسلّل إلى بيت ستيفاني عبر النافذة، وظلّ ينتظر قدومها وهو مختبئ داخل خزانة الملابس. وبمجرّد خلودها إلى النوم، انقضّ عليها درو، واعتدى عليها، ثم خنقها إلى أن فارقت الحياة.

وعند تفتيش بيت القاتل تمّ العثور على أشرطة فيديو لأفلام إباحية، وعدد من الرسائل المرسلة إلى فتاة اسمها ريبيكا هيسمان. وبالتحرّي عنها اكتشف المحقّقون أنّ ريبيكا قُتلت منذ ستّ سنوات، ولم يتمّ اكتشاف القاتل منذ ذلك الوقت.

وأثبتت التحرّيات أنّ درو كان يدرس بجامعة ميتشيغن، التي درست فيها ريبيكا في الفترة ذاتها التي قُتلت فيها.

قُتلت ريبيكا بالرصاص عند خروجها من ملهى ليلي كانت تعمل فيه، واحتفظت الشرطة ببقايا الخراطيش ضمن ملف القضية. وتمّ جلب الخراطيش لمقارنتها بالخراطيش والمسدّس الذي عُثر عليه في بيت درو.

وكانت المفاجأة الكبرى أن ثبت التطابق الكلّي بعد إجراء جميع الاختبارات. ومع ذلك رفض درو التعاون مع الشرطة وسرد وقائع الجريمتين والاعتراف بهما، واختار أن يضع حدّا لحياته بنفسه في أحد سجون الولايات المتّحدة.