مدونات

لعنة الماضي تقودها إلى حتفها

سمية المرزوقي

صبيحة يوم من شتاء 1988، فريق من الكشافة الأمريكية يتوزّع على أنحاء متفرّقة قرب أحد أنهار مدينة باتلار بولاية أوهايو في الولايات المتّحدة، لجمع قوارير الألمنيوم الملقاة بهدف إعادة تدويرها.

فجأة وأثناء انغماسهم في عملية الجمع، تفاجأ أعضاء الفريق بكومة مجمّدة على حافة النهر. وبالاقتراب منها هلع الجميع لرؤية جثّة هامدة بالكاد تظهر ملامحها.

اتّخذت الشرطة المحلية كلّ الاحتياطات الممكنة للحفاظ على كل ما من شأنه أن يكون دليلا في القضية، وقاموا بلفّ الجثّة في قطعة قماش كبيرة قبل إرسالها إلى المشرحة. 

وبعد تحليل الجثّة ومراجعة سجلّات المفقودين في المنطقة، تبيّن أنّ الضحية هي مارجي كوفي، أمّ أمريكية تبلغ من العمر اثنتين وثلاثين سنة.

كانت الشرطة قد تلقّت إخطارا باختفائها قبل عشرة أيام من اكتشاف الجثّة، بعد العثور على سيارتها مركونة لفترة طويلة أمام إحدى الحانات.

لكنّ طبيب التشريح كشف أنّ الهالكة قد قُتلت قبل عدة أيام من إعلان اختفائها، وأكّد أنّها تعرّضت للخنق باستخدام وشاحها الذي كانت ترتديه لحظة اكتشاف الجثّة.

مراهقة متمرّدة

بعد نشأتها وسط أسرة متديّنة ومحافظة، قرّرت مارجي مغادرة قريتها وأهلها مع بداية مراهقتها، بحثا عن التحرّر من كل ما كانت تعتبره قيدا ومثالية مبالغا فيها.

أصبحت مارجي تعيش بعيدا عن بيت أهلها، وشيئا فشيئا وطّدت علاقاتها بفتيات الهوى حتى صارت واحدة منهنّ، وباتت معروفة لدى رجال الشرطة الذين يرونها باستمرار على أطراف الطريق بحثا عن زبائن.

بعد فترة على دخولها عالم المخدّرات وبائعات الهوى، تعرّفت على الشاب ستيف كوفي، وقرّرا الزواج، ثم أنجبا طفلة. لكن زواجها لم يدم طويلا وسرعان ما انفصلا.

في ذلك الوقت، قرّرت مارجي القطع مع ماضيها “غير المشرّف”، وانتسبت إلى إحدى الجامعات لدراسة اختصاص القانون، واضطرت إلى العمل نادلةً بأحد المطاعم لإعالة نفسها وطفلتها الصغيرة.

مرّت بضعة أشهر على حياتها الجديدة، ثم دخلت في علاقة ثانية مع رجل آخر أنجبت منه طفلا.

عند الاطّلاع على كلّ هذه التفاصيل من حياة الهالكة، استبعد المحقّقون أن تكون أجرة نادلة في مطعم كافية لإعالة طفلين وتغطية مصاريف الجامعة. وكان أغلب ظنّهم يتّجه نحو عودتها إلى الانحراف مرة أخرى لكسب المزيد من المال.

ملاحقة الماضي

رجّح فريق التحقيق أن يكون القاتل أحد زبائن مارجي السابقين، والذي قرّر العودة لينتقم منها لسبب ما. وافترضوا أن تكون متورّطة أيضا في ترويج المخدّرات وعليها ديون ينبغي سدادها.

ورغم تركيز التحرّيات على الحياة الماضية للضحية، أكّد كل أصدقائها أنّها قطعت كلّ صلة تربطها بتلك الفترة، وأنّها كانت تسخّر كامل وقتها وجهدها لتربية طفليها.

وتأكّد رجال الشرطة فعلا من أنّ مارجي كانت تحبّ أبناءها كثيرا، وغيّرت نمط حياتها تماما لأجلهما، بأن أوقفت كل نشاطاتها المشبوهة وغير القانونية وأصبحت امرأة مسؤولة ومتديّنة.

لكن ومع ذلك يوقن المحقّقون أنّ الماضي كثيرا ما يلاحق صاحبه حتى وإن قرّر طيّه ونسيانه. لذلك تمّ التركيز هذه المرّة على علاقاتها الغرامية السابقة، للبحث عن أيّ دليل قد يقود إلى هوية القاتل.

وأثبتت الأبحاث أنّ مارجي كانت على علاقة بشخصين من رجال الشرطة كانا متزوّجين في ذلك الوقت.

وباستجواب أحدهما، واسمه روبار كليموند أكّد أنّه انفصل عنها منذ حوالي سنة ونصف. وهو ما قاله أيضا الملازم تشارلز أوزفالت الذي أفاد أنّه قطع علاقته تماما بمارجي، لأنّه يحب زوجته كثيرا ولا يريدها أن تنزعج أو تعلم بخيانته. كان أوزفالت مثالا للشرطي المستقيم والدؤوب، وكان الجميع يكنّون له الاحترام.

المشتبه به في بيتنا

أفاد الملازم أوزفالت أنّه كان في الخدمة ليلة مقتل مارجي وأثبت قيامه بدوريات في أنحاء المدينة في ذلك الوقت، للبحث في أطوار قضية مخدّرات.

عند هذه النقطة تعقّدت القضية أكثر فأكثر، وأُصيب رجال الشرطة بخيبة كبيرة لعجزهم عن التقاط طرف الخيط الذي يمكن أن يحلّها.

قال الطبيب الشرعي، أنطوني تامباسكو، لوسائل إعلام أمريكية: “نحن لا نملك أدلّة أو أسلحة، وعلينا استكشاف احتمالات أخرى”.

بالعودة على شهود العيان، تبيّن أنّ مارجي قد شوهدت للمرة الأخيرة قبل اختفائها في مطعم بالمدينة، وهي منغمسة في مراجعة دفاترها الجامعية.

وعند استجواب صاحب المطعم أكّد وجود الملازم أوزفالت بالتوقيت نفسه الذي قدمت فيه مارجي إلى المكان، ولفت إلى أنّهما تبادلا التحيّة، لكنّهما لم يجلسا سويّة على الطاولة ذاتها.

شعر المحقّقون بحرج كبير لمجرّد الاعتقاد بأن يكون زميلهم الذي عرف باستقامته، متورّطا في مقتل الضحية. وبدا غريبا أنّ الملازم أوزفالت لم يعلّق البتّة عند إعلامه بذلك.

في تلك الأثناء، تقدّم أحد رجال الشرطة للإدلاء بشهادته عمّا رآه ليلة الحادثة. وأشار إلى أنّه لاحظ مرور أوزفالت مشيا على الأقدام وهو يرتدي لباسا مدنيا، ما يعدّ أمرا غريبا لشرطي خلال فترة خدمته. 

ألقى الشرطي التحية على أوزفالت، وسأله إن كان كل شيء على ما يرام، لكنّه تجاهله تماما وتوجّه إلى مبنى الشرطة من الباب الخلفي.

أثار ذلك استغراب زملائه وبدا لهم كأنّه بصدد إخفاء أمر ما، خاصّة أنّه كان على علاقة سابقة بالهالكة.

للجثّة أقوال أخرى

بعد تجفيف ملابس الضحية، عثر الطبيب الشرعي على قطعتين من الألياف بدتا متطابقين للعين المجرّدة، لكن بعرضهما على الفحص المجهري تبيّن أنّهما مختلفتين.

خصوصيات القطعة الأولى يُرجّح أن تكون علقت بعد انسلاخها من سجاد يستخدم عادة إما داخل السيارات أو الفنادق، لأنّه يخفي الأوساخ.

لذلك سارع المحقّقون بأخذ عيّنات من ألياف السجادات المستخدمة في كل الأماكن، التي زارتها الضحية قبل مقتلها.

ولم يستثن البحث سيارة الشرطة التي قادها الملازم أوزفالت خلال ليلة الحادثة. لكن تبيّن أنّ معظم سيارات الشرطة لا تستخدم مثل ذلك النوع من السجادات.

وبمزيد التحرّي أثبتت سجلّات الشرطة أنّ أوزفالت كان تلك الليلة قائد الدوريات، وهو ما يعني أنّ سيارته تختلف عن بقية سيارات الشرطة المستخدمة.

عندما عرضت عيّنة من سجاد سيارة أوزفالت، صعق المحقّقون لشدّة تطابقها مع عيّنة الألياف التي كانت عالقة بثياب الضحية.

ومع ذلك لا تعتبر الألياف أدلّة قطعية، مثل الحمض النووي والبصمات. وما زاد الأمر تعقيدا هو عدم توفّر دافع لارتكاب جريمة القتل.

ولم ينتظر المحقّقون طويلا قبل ظهور ما يمكن أن يكون دافعا صلبا في القضية. فقد كشفت التحريات أنّ مارجي اضطرّت إلى الإفصاح عن هوية والد ابنها الثاني بروندي، في إجابة عن سبب كفالتها له ضمن استمارة طلب منحة جامعية.

وعثر المحقّقون على اسم والد بروندي، وهو تشارلز أوزفالت. وبإجراء فحص الحمض النووي ثبت أنّه الأب البيولوجي له، وتمكنّت الشرطة أيضا من اكتشاف رفضه طلب مارجي لخلاص نفقة ابنه خوفا من أن تكتشف زوجته خيانته.

وبدل ذلك عرض أوزفالت على مارجي بضعة آلاف من الدولارات، لكنّها وجدت المبلغ غير كاف بالمرة لتغطية المصاريف.

خلال المحاكمة، تقدّمت الشرطية شارلين سوير لتعرض شهادتها عن الرواية التي سردها لها زميلها أوزفالت حول الحادثة.

وقالت إنّ مارجي وأزفالت التقيا خارج المطعم، وتناقشا في سيارته عن مبلغ النفقة، لكن مارجي لم تقبل بالمبلغ الزهيد، وهدّدته بفضح اغتصابه لها، وبأنّه والد ابنها. استشاط أوزفالت غضبا وخنقها بوشاحها ثم ألقى بالجثة في النهر، معتقدا أنّه أفلت من العقاب.

وبعد التحقّق من سجلّات الخدمة ليلة الواقعة، اكتشفت الشرطة أنّ أوزفالت قد قام بفبركة التقرير حتى يمنح نفسه حجّة غياب عن مسرح الجريمة.

حوكم أوزفالت بالسجن طوال 15 سنة، ثم طلب إخلاء سبيله بسراح مشروط بعد مرور 10 سنوات، لكن المحكمة رفضت طلبه وبقي إلى نهاية حكمه خلف القضبان.