كُـــلفة التسمية الخطإ.. المسار أم المنحدر ؟
tunigate post cover
رأي

كُـــلفة التسمية الخطإ.. المسار أم المنحدر ؟

المسار ضاق عن الجميع وصارت "الحركة التصحيحية" تحتاج من يرشّدها وينصح لها
2023-02-04 09:54

بقلم فوزي الصدقاوي 

احتاجت “لحظة 25 جويلية 2021 ” من التونسيين (كثير منهم أو قليل) بعض الوقت لاستيعابها، ومنحها تسمية مناسبة، فقد وصفها بعضهم بـ”الزلزال” وسمّاها البعض الآخر “لحظة انتصار”، و هي أيضا لحظة “للانتقام” عند آخرين. لكن بكلّ حال، ورغم طول انتظار، لم تضف تلك “اللحظة” إلى تاريخ تونس السياسي بعد عام ونصف سوى مَــسْخ من مشاهدَ سرياليّة، وَعَدَ أحدهم واثقا يوما بمشاهدتها، حين قال: ”مش حتأدر تغمّض عينيك”، وقد كان، إذ لم تُغمَض للتونسيين عين مـُـذ يومها، أرقا وفزعا. 

الأوقات التي احتاجها هؤلاء وأولئك ليدركوا ماهيّة اللحظة حقيقة، كانت كافية ليبلغ “الخراب” الجُرفَ ويَطْرُقَ على التونسيين الباب، فكلّ تلك الأوقات من أجل اسم مناسب ليوم 25 جويلية، كانت هدرا للوقت والمال وعبثا بأرصدة الأجيال، بما زاد على كُلفةِ عشرية الانتقال المتعثّر.

الحالة المصرية مناسبة للقياس، (يُرجّح أن يستمر   الجنيه المصري في الهبوط إلى حدود ما يُتداول اليوم في السوق الموازية أي بين 30 و 33 جنيها مقابل الدولار). فبعد سقوط الجنيه المصري إلى أدنى مستوياته على مرّ التاريخ، بدأ الحزام الإعلامي القريب من منظومة الحكم في مصر، يتبرّم من الانقلاب، وربّما بدأ الناس يذكُرون اللحظات الأولى من “مصر حكم العسكر”، حين كان الإعلام يستعير في 3 جويلية 2013 للتورية عن الانقلاب، بعبارة “ثورة”، بينما كان آخرون يقولون عن تلك الـــ”ثورة”، إنّها إذا كانت تمشي كالبطّة وتُصدِر صوتا كالبطة، فهي إذن بطة.   

لكن تورية الانقلاب عندنا بأوصاف من مثل ”مرحلة استثنائية” و”سلطة أمر الواقع” و ”مسار 25 جويلية” و”الحركة التصحيحيّة” و “الانفجار الثوري” و”اختصار التاريخ”، كانت جميعها عبارات تمنح ”الانقلاب” توصيفات” هي إلى الخطابة أقرب منها إلى الخطاب، فهي لا تؤسّس للمستقبل، وإنّما هي تُقنع العقول الفارغة وترضي النفوس الحاقدة، ومن يحسن الاستفادة من “التورية”، لأنّها تمنحهم فرصة استعادة مواقع خسروها بالصندوق، ولم يمكنهم إلّا بالمخاتلة والمغالبة السطو عليها مجدّدا. 

فبعد العام ونصف العام، ما تزال “المرحلة” استثنائية فعلا، بكل المعاني. وليس (الاستفتاء والانتخابات بدورتي 17 ديسمبر 2022، ثم 30 جانفي 2023)، سوى ضرورة استدعاها المشهد السريالي، وحتى وإن بلغت نسبة مشاركة التونسيين الهزيلة في جميع المحطّات ما يعادل 0%، فهي مشاركة من أجل “تأبيد الاستثناء”. 

لقد زاد ”أمرَ الواقع” خلال العام ونصف، احتكاما في الواقع، وضاق المسار عن الجميع، ليصبح بوتقة لا تسع إلّا رأيا واحدا، وصارت “الحركة التصحيحية” تحتاج من يرشّدها وينصح لها، و“الانفجار الثوري” صار   تخريبا ورجعيّة فوضوية، وبدا أنّ الناس، من دون حاجة إلى إحصاء، قد أوشكــوا على استيعاب الدرس، وربما فهموا أنّ ”اختصار التاريخ” لم يكن يعني سوى لَــيّ أذرع مسار الانتقال الديمقراطي وإسقاطه، وتحويله مع الوقت من مسار إلى منحدر.

وحيث أنّ الأمر بات على ذلك النحو، فإنّ أيّ مبادرة سياسية، تدّعي أنّها تَصْلُح لإنقاذ البلاد، لن تكون كذلك ما لم تجتهد في أن تسمّي الأشياء بأسمائها، لأنّ ”الخطأ في تسمية الأشياء يزيد من بؤس العَالم” كما يقول ألبير كامو (Albert Camus). فتسمية الانقلاب باسمه سيضع المرء أمام خط البداية وعند عتبات المبادرة المنقذة حقا، والتي ستجعل التفكير في “اللحظة” تفكيرا في الواقع، وبحثا في الممكن واستبصارا لمستقبل، وتقدّما في التاريخ، لا ”اختصارا له”. 

هو انقلاب لأنّه يحنث بالقسم مثل الانقلاب، و يؤوّل ما لا يحقّ له تأويله مثل الانقلاب ويشرّع مثل الانقلاب، ويُنقض ويُبرم من غير مشورة تماما، مثل الانقلاب ويلاحق خصومه مثل الانقلاب، جميع بياناته مثل البيان رقم واحد، انتخاباته مثل الانقلاب، وقاموسه اللغوي بفصاحته الباردة والمتكلّسة، متشنّج ومشحون بالعنف والدعوة إلى التباغض كقاموس الانقلابيين… ولأنّه مثل الانقلاب عقل ونصّ وقول وإقرار وإجراء، فهو إذن.. انقلاب. 

المشاركة الهزيلة جدا والمكرّرة في الانتخابات أسقطت “الشعبية والمشروعية” عن ”مسار التصحيح” برمّته، وألغت ”الموعد مع التاريخ”، ومحت الأسماء المستعارة، لتعود فكرة الثورة بكرا إلى شارع الثورة يوم 14 جانفي 2023، في ذكراها الثانية عشرة. وسيستعدّ كل يوم من الأيام القادمة، ليكون 17 ديسمبر، وستعود سيول الغضب العارم إلى مدن الثورة لا محالة، لأنّ التاريخ له مواعيد فعلا، لكن يحدّدها سرّا مع شعبه. وربما أدرك، ولو بعد حين، أولئك الذين قفزوا من القارب، أنّ تسمية الأشياء بأسمائها، مسألة استراتيجية، وليست مجرّد ترف لغوي، وأنّ الأسماء لا تُستجلب لأشيائها إلّا من معاجمها: نصوص تأسيسيّة ومدوّنات قانونية ومؤسّسات وطنية، ومجال تداولي للسياسةِ مشترك وسلوك منضبط وطنيّا ودوليّا للقواعد والأعراف. 

*هذا المقال لا يعبّر بالضرورة عن سياسة موقع بوابة تونس وإنما يمثل رأي كاتبه فقط

الأزمة السياسية#
الثورة التونسية#
قيس سعيد#

عناوين أخرى