صابر بن عامر
في عام 2018، تحديدا في الحادي والعشرين من مارس/آذار، وبعد سنوات من الانتظار، تمّ تدشين مدينة الثقافة بالعاصمة.
تدشين استبشر به مثقّفو تونس وفنانوها، بعدما كاد يتلاشى الحلم في أكثر من مرّة بسبب تعثّر عملية إنشاء المدينة على مدى سنوات، وهي التي انطلقت أشغالها الأوّلية في عام 2006، لتنتهي أشغال الجزء الأول منها في عام 2018.
مراحل متعثّرة
12 عاما بالتمام والكمال، كانت خلالها المدينة تلملم بنيانها الذي توقّفت أشغاله إثر ثورة 14 جانفي/يناير 2011، إذ تعاقبت حكومات وأكثر من خمسة وزراء ثقافة (من 2011 إلى 2018)، وظلّ الصرح على حاله لم يتقدّم قيد أنملة.
كلّف المشروع الضّخم المقام على مساحة تناهز التسعة هكتارات، 130 مليون دينار (54 مليون دولار)، وبدأت فكرة إنجاز مدينة جامعة للثقافة في تونس عام 1992، وانطلقت فعليا شركة تشيكيّة في عملية البناء عام 2006، لكنها توقّفت في 2008.
كان يُفترض أن تُستأنف عمليات البناء في 2009، لكنّها تعطّلت مرة أخرى بسبب خلاف بين الشركة والحكومة التونسية قبل أن يزداد الوضع تأزّما مع اندلاع انتفاضة 2011، ليتمّ فسخ العقد مع الشركة التشيكية ومنح مهمة استكمال الإنشاءات لشركة تونسية في 2016.
وتحتضن المدينة، ثلاثة مسارح، وهي: الأوبرا (1800 متفرّج) ومسرح مخصّص للجهات (700 متفرج) وآخر يهتمّ بالمبدعين الشبان (300 متفرج)، إضافة إلى ست قاعات للتمارين والإنتاج والتخزين، ومتحف يُعنى بالفنون المعاصرة والحديثة، فضلا عن مركز وطني للكتب وآخر للاستثمار الثقافي.
وتضمّ المدينة كذلك مجمع السينما الذي يحتوي على قاعتين تتّسع الأولى لـ350 متفرجا، والثانية ذات نصف طاقة استيعاب الأولى، إضافة إلى مكتبة سينمائية ومركز وطني للسينما والصورة، إلى جانب بيت الرواية، وغيرها من القاعات القادرة على احتضان الندوات الفكرية واللقاءات الأدبية والبرامج التلفزيونية والإذاعية.
تظاهر بالثقافة
كلّ هذا جميل وأصيل، لكن يبقى السؤال الأهم ما الذي قدّمته المدينة إلى الشارع الثقافي التونسي، وفنانيها وصانعي الفرجة في البلاد؟
كي لا نكون جازمين مُتشائمين، نقول حقّقت المدينة بعضا من “التظاهر الثقافي”، لا غير، بتعدّد تظاهراتها الثقافية، منذ إرساء المدينة بالشارع الرئيسيّ: محمد الخامس بالعاصمة.
فمنذ أربع سنوات خلت، كثُرت أيام قرطاج الثقافية بشكل “تسونامي” سريالي، انطلاقا من أيام قرطاج السينمائية، فالمسرحية، فالموسيقية، مرورا بأيام قرطاج الشعرية، فالكوريغرافية، وأيام قرطاج لفنون العرائس، والفن المعاصر، وصولا إلى أيام قرطاج للهندسة المعمارية.
كلّها أيام ثقافية تونسية/دولية انحصر حضورها في تلك البناية العمودية، المكتظة بالأنشطة الفنية على مدار العام بلا لون ولا طعم ولا رائحة، بل بلا روح أصلا.
فأيّ معنى، على سبيل الذكر لا الحصر، لافتتاح أيام قرطاج السينمائية والمسرحية واختتامها -أكثر مهرجانات تونس شعبية وجماهيرية- في تلك البناية المُحاصرة في جانبيها الأمامي والخلفي بطريق سيارة؟ بلا فضاءات ترفيهية ولا مطاعم ولا منشآت ولا حياة.
فيأتي الافتتاح والاختتام، في كل عام بحضور ما تيسّر من النجوم وسط غياب مُفزع للجمهور: أساس المهرجانات وغايتها وهدفها!
أين الأيام ممّا مضى، حين كان الشارع الرئيسيّ للعاصمة تونس، الحبيب بورقيبة، مزار كل الفنانين والمثقّفين العرب؟ فيغدون ويجيؤون في جاداته، ويؤمّون مقاهيه ومطاعمه المنثورة ذات اليمين وذات الشمال، مُلتقطين في طريقهم الصور التذكارية مع ناسه وجلّاسه، فيسعد النجم بعشّاقه ويزهو المواطن البسيط بمُصافحة فنانه المحبّب إلى قلبه.
أليس من أوكد أهداف الثقافة دعم السياحة والمساهمة في تنشيط الدورة الاقتصادية في بلد يعيش منذ عشرية أعظم أزماته الاقتصادية وأشدّها وقعا على الشعب منذ الاستقلال وغداته؟ فماذا سيرى ضيوف تونس من السياحة في مدينة مُغلقة ومُنغلقة على ذاتها ومن كل الاتّجاهات؟
ماذا قدّمت مدينة الثقافة إلى الجهات؟ عدا دعوتها بين الفينة والأخرى بعض الولايات إلى أن تستعرض فنونها وتراثها أمام جمع من المارّة، صدفة، أو المدّعوين عُنوة، فيُراقبون ويُشاهدون ثم يمضون… وسط تكريس مُضاعف لمركزية الثقافة بالعاصمة، والحال أنها بُعثت لأجل تقويض لامركزية الفنون والذهاب بها إلى عامة أفراد الشعب، لا أن يأتوا بأنفسهم إليها في مجموعات محدودة العدد أنهكتها فولكلورية العروض وروتينيتها.