كيف تحول المسرح البلدي بتونس من صرح معماري إلى خلفية للصراع السياسي

وجدي بن مسعود


يكاد الحديث عن المسرح البلدي ينحصر طوال السنوات الأخيرة في الوقفات الاحتجاجية التي باتت ساحته وسلمه الشهير ساحة لها، برمزيته كموقع بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس.

فمنذ ثورة الكرامة والحرية 2010/2011، تحول المسرح البلدي إلى قبلة لمئات الوقفات والتحركات سواء النقابية منها والحزبية والشعبية، أو الفنية في مشهد سريالي يستحضر مقولة أن “الفن انعكاس لروح الشعوب الحية وأفكارها”.

تحفة معمارية عريقة  

بالمقاييس المعمارية والفنية المحيطة بتصميمه البديع، لا يمكن أن يصنف المسرح البلدي بالعاصمة إلا في خانة قصور الثقافة الكبرى، إذ يمثل تحفة هندسية تنطق جمالية وإبداعا، كما أن نمطه وتفاصيله الكبرى مستلهمة من فن العمارة الإيطالية في عصر النهضة، والممتزجة مع ما يعرف بنمط الفن الهندسي الجديد في البناء.

يعود تاريخ تأسيس هذا الرمز الثقافي والمعماري الأعرق والأقدم بين المسارح التونسية إلى أكثر من 119 عاما، حيث افتتح رسميا في نوفمبر/تشرين الثاني 1902 بعد عمليات تشييد استغرقت قرابة سنتين.

أطلق المهندس المعماري الفرنسي “جان إميل راسبلندي” الذي ينسب إليه وضع التصميم الفريد للمسرح على الشكل الهندسي والمعماري للمشروع تسمية “علبة الحلوى”، لهندسته الداخلية الشبيهة بعلب الكراميل المخملية ذائعة الصيت في أوروبا. 

ويحتاج زوار المكان إلى إلقاء نظرة بانورامية من الأدوار العلوية، للوقوف على شكله الداخلي المبهر الذي يشتمل على القاعة الرئيسية مربعة الأضلاع تشرف عليها الأدوار العلوية بشرفاتها، مع تصميم دائري يبدو أشبه بغطاء العلبة الذي يكلل القاعة الأرضية.

من الكازينو إلى المسرح  

اكتسب المسرح البلدي بعيد افتتاحه الأول سنة 1902 صفة “كازينو تونس”، واحتضن بالمناسبة أول عرض فني في تاريخه لأوبيرا “مانون،” للفنان جيل هاسند وكان يتسع لحوالي 850 متفرجا.

سنة 1909 هدم الجزء الداخلي للمسرح وأعيد بناؤه وفق تصميم هندسي معدل حافظ على الشكل الأصلي، مع زيادة طاقة الاستيعاب وإضافة مقصورات خلفية وجانبية والأروقة، ليصبح قادرا على استقبال 1350 شخصا بعد افتتاحه مجددا في جانفي/يناير 1911.

تعتبر الواجهة الأمامية بمثابة هوية فنية ومعمارية بدرجها الشهير وزخرفتها وتزويقها، إلى جانب شرفتها ذات الإطلالة الواسعة على كامل شارع الحبيب بورقيبة.

ورغم أن المسرح البلدي كان خلال سنواته الأول خاصا بالأقليات الفرنسية والأوروبية وبعض العائلات الأرستقراطية المقربة من سلطات الحماية وحاشية السلطة، إلا أن المهندس الفرنسي أدرك بفطنته ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الجمهور المحلي المحافظ من عموم التونسيين المسلمين وبشكل خاص جمهور النساء، ما دفعه خلال إعادة بنائه سنة 1909 لتخصيص صف من المقصورات بالجزء الخلفي للقاعة الرئيسية لاستقبال النساء، تسمح بالحفاظ على خصوصية المشاهدين دون الاختلاط مع بقية الجالسين في القاعة.

بعد استقلال تونس سنة 1956 تحول المسرح البلدي إلى منارة ثقافية استقبلت مئات العروض الفنية والأعمال المسرحية الخالدة في الذاكرة، وصعد على ركحه لفيف من رواد الحركة المسرحية والمبدعين التونسيين، على رأسهم الراحل أب المسرح التونسي الحديث علي بن عياد.

الرمزية السياسية  

اكتسب المسرح البلدي رمزيته السياسية الراهنة بفضل حادثة مفصلية في خضم الحراك الثوري الهادر الذي كانت تموج به البلاد في جانفي 2011. 

فعلى إثر مبادرة عدد من الفنانين والمبدعين من بينهم المسرحي الفاضل الجعايبي والفنانة جليلة بكار وغيرهما إلى تنظيم وقفة احتجاجية صامتة أمام المسرح البلدي، مرفوقة بتعبيرات ولوحات فنية تعبيرا عن التضامن مع المحتجين وإدانة القمع البوليسي، قامت عناصر الأمن بالاعتداء عليهم بالضرب لفض الوقفة التي ضاعفت من الاحراج والضغوط التي تعرض لها النظام السابق. 

أكسبت الحادثة المكان رمزية للمقاومة في عيون شباب الثورة، فلم يعد فحسب معلما ثقافيا وفنيا بل أصبحت ساحته الأمامية حاضنة لكل أصوات الغضب والتمرد.

وهكذا أضحى هذا الصرح المعماري والتاريخي يضطلع بدور سياسي وشعبي في تعبئة الجماهير وبث الوعي في صفوفها، في خضم الارهاصات والمخاض السياسي المتعسر الذي عرفته طوال السنوات الأخيرة.

مع تراجع دوره الريادي في السنوات الأخيرة لصالح مدينة الثقافة، وانحسار مساحة الفعاليات والعروض التي يحتضنها، اكتسى المسرح البلدي بتونس لونا سياسيا يعكس صرخات الغاضبين وحيوية الشباب من مختلف المسارات والمشارب والتوجهات، وروح المجتمع المدني المتوثب للتغير والفعل، وقلقا اجتماعيا مزمنا يعمقه النزيف الاقتصادي الذي تعبر عنه تحركات النقابات والقوى العمالية، حتى يخيل للناظرين إلى واجهته الأمامية البديعة أنها تردد في أثر المحتجين “المجد لمن قال لا”.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *