بدأ كل شي من مدرجات ملاعب الكرة في تونس، هكذا تختزل روابط الجماهير والمعروفة “بالألتراس” راويتها الخاصة، لجانب من المحطات التاريخية التي مهدت لثورة الحرية والكرامة.
قبل عقد من الآن، وعندما كان النظام الديكتاتوري يطبق الخناق على كافة مجالات الحياة، كانت ملاعب كرة القدم ومدارجها عصية على التدجين، وخارجة عن السيطرة، ما جعلها مجال مواجهة قائمة بين السلطة ومجموعات الألتراس وروابط المشجعين الرافعة لشعارات التمرد، والتي تصدح حناجرها بالهتافات ضد قمع الشرطة.
حكاية الثورة على المدرجات
هكذا سلط موقع “سلات” الفرنسي الضوء على ظاهرة مجموعات وروابط جماهير كرة القدم التونسية في الذكرى العاشرة للثورة، وإسهامها في تحرير المدرجات والملاعب من رقابة النظام، ما جعل من المدرجات ساحة مواجهات مستمرة مع الشرطة، وانعكاسًا لحالة الغليان الشعبي التي كان تتحسب منها الديكتاتورية.
على طاولة مثبتة على الرصيف بأحد المقاهي الشعبية، كان اللقاء مع خمسة من قدماء نشطاء الألتراس، والذي كانوا ضمن مجموعة “زاباتيستا إيسبيرانزا”، وهي إحدى تشكيلات روابط مشجي الترجي الرياضي التونسي.
تعود تفاصيل الحكاية إلى منتصف العام سنة 2010، خلال مباراة جمعت بين الترجي الرياضي التونسي ونادي حمام الأنف، كان الوضع في البلاد حينذاك قد بلغ حدًا لا يطاق من الانسداد السياسي والاحتقان الداخلي، والذي زاد في حدته محاولات النظام المستمر السيطرة على كرة القدم، من خلال الجامعة التونسية لكرة القدم والتي كان يتم تعيين أعضائها بتزكية من دوائر بن علي، إلى جانب رؤساء الأندية الرياضية الذين لا يتم تثبيتهم إلا بمقتضى ضوء اخضر من السلطة.
برغم هذا، عجزت السلطات عن تدجين الجماهير وخاصة روابط المشجعين، التي تحولت إلى دولة مستقلة على المدارج، تفرض شعاراتها وأهازيجها، ولا تتوقف عن مهاجمة النظام والتنديد بالقمع والعصا البوليسية.
“في أفريل 2010 بلغت الأوضاع حدًا لا يطاق، ولم يعد بإمكاننا تحملها، أصبح من الصعب للغاية حضور مباراة”، يتحدث محمد لموقع سلات متشحًا بقبعة تحمل ألوان فريقه نادي باب سويقة ومستذكرا تلك المرحلة، “بدأ فريقنا يخسر، وبدأت الجماهير تغضب فأرادت الشرطة التدخل لتهدئة الأمور، قطعوا الكهرباء عن الملعب وتوترت الأجواء بشدة، صعدت الشرطة إلى المدرجات، كانت هناك حالتا وفاة من جانبهم بسبب المواجهات، تلك الأحداث كانت بمثابة الشرارة ، لم يعد بعدها من الممكن السيطرة على الوضع في الملاعب”.
خلفية ظاهرة “الألتراس”
من جانبه، يرجع الصحفي الرياضي التونسي مراد الزغيدي جانبًا من أسطورة “الألتراس”، إلى حالة الانغلاق في المشهد العام في تونس خلال تلك المرحلة، ما دفع الجماهير لمزيد التجمع حول كرة القدم باعتبارها المتنفس الوحيد، وهو الأمر الذي تصاعد نتيجة احتدام التنافس ين الأندية الكبرى، فكان الملعب هو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تقول فيه “يسقط الرئيس”، كانت كرة القدم حقا أفيون الشعب في تلك المرحلة.
يفسر الزغيدي العوامل التي أسهمت في الصعود السريع لروابط المشجعين في بتونس، قائلا “كانت هناك ثلاث معطيات أساسية، أولًا القاعدة الجماهيرية الواسعة للفرق الكبرى التي تتمتع بحد كبير من استقلالية الموارد المالية وعدم تعويلها على دعم الدولة، ثم الطبيعة المستقلة التي ميزت تأسيس روابط المشجعين عن إدارات الأندية، الأمر الذي جعلها خارج نطاق التحكم، وأخيرًا الانتشار الواسع لظاهرة روابط الأحباء على المستوى العالمي والتي انطلقت من ملاعب أمريكا اللاتينية، خاصة الأرجنتين والبرازيل لتجتاح ملاعب أوروبا وشمال إفريقيا، وتميزت بخلفياتها ومواقفها السياسية”.
ويضيف الزغيدي، “بالمقابل لم يكن النظام غبيًا تمامًا، فقد سمح بوجود هذه المجموعات كنوع من المتنفس، لكنه فقد السيطرة عليها لاحقًا”.
ينحدر أغلب عناصر روابط المشجعين من الأحياء الشعبية والضواحي، التي تعتبر بمثابة تجمعات سكنية عشوائية تتميز بكثافة معدلات الفقر والبطالة والتهميش، وهو ما ينعكس على المستوى العام لأغلب الأعضاء الذين تتشابه أوضاعهم وظروفهم.
تواضع مستوى التعليم والبطالة، هي السمة المشتركة لأغلب أعضاء الرابطات الأمر الذي يراكم من مشاعر الغبن والإحباط والثورة بينهم، ويجعلهم مهيئين لرد الفعل العنيف والغضب في وجه قوات الأمن عند توتر الأجواء على المدرجات.
“لم تغير الثورة شيئا من الوضع فجماهير “الألتراس” ما تزال تتميز بمواقفها الراديكالية وعدم المهادنة، ولكنها ترفض الانخراط في توظيفها سياسيًا”، هكذا يكشف متحدث آخر من بين قدماء رابطة “الزابتيستا”، مضيفًا “بعد الثورة حاول البعض من رجال الأعمال استخدام بعض الفرق الأكثر شعبية لغايات انتخابية وسياسية لكنه لم ينجحوا”.
تواصل اليوم رابطات المشجعين بالمدرجات، رافعين أهازيج وشعارات أكثر حدة ومباشرة في انتقاد النظام، انتقادات لا تنحصر على صعيد السياسة فحسب، بل تشمل كل المجالات والأوضاع السلبية على المستوى الاجتماعي والقضايا التي تمس الرأي العام، ولعل من بين أشهر النماذج في هذا السياق، أغنية “يا حياتنا” التي انتشرت بشكل واسع منذ سنة 2019 على مواقع التواصل الاجتماعي من طرف مجموعة “الوينارز” إحدى روابط النادي الإفريقي والتي تكرس حضور الشأن الاجتماعي والسياسي في ملاعب كرة القدم.