بدأت أبرز الإسهامات الحديثة في مجال علوم الرياضيات والجبْر من مكتبة عربية منسية منذ أكثر من ألف عام، فمن بطْن بيت الحكمة ببغداد عاصمة الخلافة العباسية والحضارة العربية الإسلامية في أوجّ ازدهارها، اقتبس العالم الإيطالي ليوناردو دي بيزا، نظرية الأرقام الهندية العربية التي كانت بمثابة ثورة في مجال علوم الحساب.
يختزل جون بارو جرين – أستاذ تاريخ الرياضيات في الجامعة المفتوحة ببريطانيا – الدور الحيوي الذي لعبه بيت الحكمة في النهضة المعرفية في مجال العلوم والرياضيات الحديثة فيقول: “كان لبيت الحكمة دور مهمّ وأساسي، بفضل الترجمات التي وضعها العلماء العرب، استنادًا إلى الأفكار والقواعد الإغريقية وتطويرها، والتي من خلالها شكلنا حجر الأساس لفهمنا الرياضي”.
بيت الحكمة واكتشاف قواعد الرياضيات
مثّل تدمير بيت الحكمة سنة 656 هـجرية الموافق 1258 ميلادية، خلال الخراب الواسع الذي عمّ عاصمة الخلافة العباسية بغداد بعد غزو المغول مأساة معرفية وعلمية لا تقدّر، حيث أتلفت آلاف المخطوطات والكتب في شتّى مجالات المعرفة والحقول العلمية.
تصف روايات المؤرّخين حجم الخسارة الفادحة التي تكبّدتْها الحضارة الإسلامية، بالإشارة إلى نهر دجلة والذي اصطبغت مياهه باللون الأسود بسبب أحبار الكتب التي ألقيت فيه.
ساعات من الغزو الهمجي والتخريب كانت كفيلة بالقضاء على خلاصة المؤلفات العلمية والحضارية والفكرية العربية والإسلامية، والتي تسيّد بفضلها العالم في نفس الوقت الذي كانت فيه القارة الأوروبية قابعة في الظلام الفكري.
لعله من حسن حظ الحضارة الإنسانية أنّ بعضا من الباحثين الغربيّين والعلماء الساعين إلى اكتساب واقتباس المعارف من العرب، قدّر لهم زيارة بغداد وعواصم عربية وإسلامية أخرى كانت بدورها منارات للعلوم، كان من بينهم ليناردو دي بيزا الذي سافر إلى عاصمة الخلافة العباسية عقودًا قبل خرابها، حيث كان على موعد مع اكتشاف القواعد الرياضية المستخدمة لدى العرب، ورموز الأرقام من صفر إلى تسعة، والتي نقلها ضمْن سلسلة من المؤلفات عن النظام العددي العربي.
ثورة هائلة في مجال الرياضيات
عندما أصدر دي بيزا كتابه الأول عام 1202 ميلادية، لم تكن الأرقام الهندية العربية معروفة سوى لعدد قليل من العلماء الأوروبيّين، وكان النظام التعليمي وكذلك المعاملات الحسابية والتجارية تعتمد على الأرقام الرومانية، الأمر الذي جعل من معادلات الضرب والقسمة عمليات مرهقة ومعقّدة.
لم تتجّسم عبقرية العالم الايطالي في مجال إبداعه في الرياضيات فحسب، بل تجلّت في استيعابه الكامل للقواعد التي وضعها العلماء المسلمون، والتي شملت الصيّغ الحسابيّة والنظام العشري ومبادئ الجبْر التي رسّخها الخوارزمي، وهو العالم الذي يستمدّ علم الرياضيات الحديث والمركبة مبادئه من اكتشافاته في معالجة المعادلات التربيعية.
كان الخوارزمي صاحب إسهامات واسعة في الفلك والفيزياء وعلم الجبر، وينسب إليه الفضل في ترسيخ فكرته القائمة على استعادة الأجزاء المكسورة، كما رسّخ مكانته في عصره بشغل منصب رئيس بيت الحكمة.
يرجع الفضل في وضع أسس الرياضيات الحديثة إلى الإرث العلمي للخوارزمي، والذي أعاد دي بيزا اقتباسه وترجمته وشرحه، ليكون بيت الحكمة بمثابة الجسر المعرفي، الذي ربط ما بين رجُليْن من حضارتيْن مختلفيْن يفصل بينهما أربعة قرون.
نادرا ما يتناول المؤرخون الغربيون الإرث العلمي العربي والإسلامي في العلوم والرياضيات والذي مثّل مُنطلقا لانجازات عصْر النهضة الأوروبية واكتشافاتها، وهي مُعضلة أخلاقية وعلمية تُقرّ بها لوسي ريكروفت سميث، الباحثة والمطورة في قسم الرياضيات بجامعة كامبريدج بقولها: ” يتمحور السؤال حول من نروي قصصه ومن نُفضّل ثقافته، وأيّ أشكال من المعرفة نُخلّدُها في التاريخ، ستجد أنّنا في الغالب نميل إلى تراثنا الاستعماري الغربي”.
حقائق قد تُعيد تشكيل وجهة نظرنا بشأن الإسهامات الغربية في تطوير الرياضيات، وتسليط الضوء على الإنجازات العلمية للعالم الإسلامي.