لايف ستايل

كيف أدمن التونسيون “التكروري” في القرن 18 قبل اكتشافهم الشاي؟

شاربو شاي وبعد الشاي يأتي تدخين التكروري، ربما هكذا يختزل المؤرخ وصف الحياة اليومية في تونس بداية القرن الماضي لا سيما في العشرينيات والثلاثينيات وحتى الأربعينيات والخمسينيات منه. التكروري صنف من أصناف الحشيش لم يكن حتى وقت قريب ممنوعًا في تونس، بل كان ضمن ثقافة الأمسيات في بيوت عديدة وفي مناطق متفرقة من تونس، يأتي كطقس من طقوس ما بعد العشاء. كيف تبنى التونسيون التكروري؟ قصة الشاي تكاد تكون محسومة وإن كانت بدورها دخيلة كذلك لكن المفارقة في حضور التكروري قبل الشاي بعقود قبل تصنيفه مخدراً.

في رواية التوت المر للأديب التونسي الراحل محمد العروسي المطوي، شهادة توثيقية للواقع المجتمعي في تونس، خلال حقبتيْ العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، والعادات والسلوكيات الطارئة عليه نتيجة التحولات الثقافية والتغيرات التي كرّسها الاستعمار الفرنسي.

والمُتمعّن في تفاصيل الرواية التي تدور أحداثها بإحدى قرى الجنوب التونسي يتبيّن انتشار شرب الشاي كثقافة متجذرة بين السكان خلال تلك المرحلة إلى جانب ظاهرة استهلاك حشيشة “التكروري” المخدرة.

وتُوضّح تفاصيل الرواية من خلال وصفها العادات اليومية للسكان إدمانهم على الشاي، لتنضاف إلى ما توثّقه الدراسات التاريخية والاجتماعية عن تحوّل هذه المادة من مشروب وافد على البلاد التونسية خلال العقد الأول من القرن المنقضي، إلى عادة تونسية وثقافة شعبية.

المهاجرون الليبيون وثقافة الشاي

ينسب انتشار استهلاك الشاي في تونس إلى المهاجرين الليبيّين، والذين حملوا معهم عادة استهلاك وشرب الشاي خلال هجرتهم الكثيفة إلى تونس منذ سنة 1911 على إثر الغزو الايطالي، بحسب المؤرخيْن عبد الرحمان قيقة وجون مانيان.

وتُجمِع البحوث التي تناولت الظواهر الاستهلاكية في تونس بالقرن الماضي، أنّ الشاي لم يكن معروفا أو منتشرا بين عموم التونسيّين والنّخب الحاكمة والطبقة البرجوازية.

وتكشف تقارير العمال والقادة المحليّين وهم المسؤولون الترابيّون بمختلف جهات البلاد خلال تلك الفترة، عن ملاحظات “بشأن دور أهالي طرابلس الوافدين إلى الأيالة التونسية في تعميم الشاي”، والذي اشتهرت طريقة طهوه “بالطرابلسية”.

أسهم الانتشار الكثيف لعشرات آلاف المهاجرين الطرابلسيّين داخل تونس خلال موجات الهجرة بين 1911 و 1922م، إلى تحوّل ثقافة الشاي إلى عادة محلية صميمة خلال عقد ونيّف فقط، بعد أنْ قوبلت في البداية بانتقادات واسعة وحملات لمحاربة “أفيون الشاي” كما أطلقت عليه بعض التيارات المحافظة.

طقوس خاصة لجلسات الشاي  

لم يقتصر تأثير الهجرة الليبية على انتقال عدوى الشاي فحسب، إذ نقل الوافدون من الجارة الشرقية عاداتهم في تهيئته وطقوس جلساته وأدواته، والتي تتكون من الإبريق النحاسي الصغير المعروف “بالبراد” باللهجة العامية، وكذلك الكؤوس الصغيرة والتي أضحت تعرف بكؤوس الطرابلسي نسبة إلى مصدرها.

وتتميز عملية إعداد وشرب الشاي بطقوس خاصة تختلف بحسب طبيعة الجلسات سواء في البيوت أو بين الشباب أو في ساعات السمر بالمقهى، وكذلك المناسبات خاصة الأعراس.

وخلال الجلسات التي تشهد تجمّع الرجال في اللقاءات أو السهرات، يكون تحضير الشاي وتوزيعه بعهدة من يشهد له بحسن إعداده، ويسهر على كل تفاصيله المتعلقة بخلط الحشيشة مع السكر وضبط المقادير.

وحسب العادات الدارجة بالجهات الداخلية والجنوب التونسي فإنّ توزيع كؤوس الشاي لا تقتصر على دور واحد، بل يشمل عدة أدوار مع الحرص على أن يكون الدور الأول مركّزا وثقيلا، بحيث تغلب فيه مرارة الشاي على حلاوة السكر.

ينظر إلى الشاي على الصعيد الشعبي باعتباره منشطا ينزع الخمول عن الجسم، وهو ما يفسر العادة المتداولة بتناوله بعد طعام الغداء باعتباره مساعدا على الهضم، وينزع الشعور بالامتلاء والكسل فضلا عن كون المدمنين على تناوله يعتبرونه أساسا لتعديل المزاج.

 ويفضل السواد الأعظم من التونسيّين تناول الشاي الأسود، والذي يطلق عليه الأحمر بالعامية، باعتبار أن حشيشته أثقل مقارنة بالأخضر برغم منافعه الصحية.

“التكروري” حشيشة استعمارية لتخدير الشعب

خلال الحقبة الاستعمارية ارتبطت عادة شرب الشاي باستهلاك مادة “التكروري”، وهي حشيشة مخدرة مستخرجة من مادة القنب الهندي.

وعلى العكس من الشاي الذي يُعتبر حديث العهد في تونس، فإنّ استهلاك وتدخين “التكروري” كان شائعا في تونس منذ القرن الثامن عشر، من طرف حاشية القصر ورجالات الدولة والنخبة التركية الحاكمة.

وتشير بعض الروايات إلى أنّ إسماعيل أبو الفداء، أحد خدمة الباي وجدّ الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، عُرف بهذه الكنية لأنه كان مشرفا على إدارة جلسة تدخين الحشيشة وإعداد أدواتها، وخاصة المبسم أو “السبسي” كما يصطلح على تسميته في تونس.

شجّعت السلطات الاستعمارية تدخين التكروري بين عامة الشعب، حيث انتشر استهلاكه بين الطبقات الشعبية والعمال والأرياف والمناطق الداخلية.

وتصوّر بعض الأعمال الأدبية التي تناولت المرحلة الاستعمارية، على غرار مؤلفات البشير خريف ومحمد صالح الجابري، انتشار الإدمان على التكروري في أوساط عمال الحوض المنجمي.

المعمرون وزراعة التكروري

دعمت الإدارة الفرنسية زراعة التكروري من طرف المعمرين في تونس، على الرغم من حظره في فرنسا، وغضّت الطرف عن عمليات التهريب والاتّجار غير القانوني، بهدف رفع مستويات الإدمان وإلهاء التونسيّين وتخديرهم.

اعتمدت الخطة الفرنسية في التعامل مع التكروري على بعد اقتصادي، نتيجة الأرباح التي توفّرها زراعته، إلى جانب العاملين الاجتماعي والسياسي الذين يُمكّناها من السيطرة على الشارع التونسي من خلال تشجيع الاستهلاك.

سياسة اقتصادية لاحتكار التكروري

تراوح تعاطي الإدارة الاستعمارية تجاه استهلاك التكروري، بين التسامح في فترات معينة، والتشدد والرقابة الصارمة، ما كان يؤدي إلى ارتفاع أسعاره نتيجة تعطل عمليات الاتجار غير المرخصة، وتوقّف عمليات التهريب من القطر الجزائري.

وعلى عكس ثقافة احتساء الشاي التي تحوّلت إلى ممارسة يومية وعادية، قوبل التكروري بحرب شرسة على المستوى السياسي من جانب المجلس الأكبر، الذي طالب بحظر استهلاك وزرع هذه المادة، نتيجة انعكاساتها الصحية والذهنية على المتعاطين، إلى جانب قوى الحركة الوطنية التي وظّفت التكروري ضمْن حملاتها على السياسات الاستعمارية، وصدرت فتاوى دينيّة بتحريمه شرعا، باعتباره من مذهبات العقل ما يجعله مساويا للخمور وفق القياس الشرعي.

مع تزايد الطلب على الاستهلاك وارتفاع ظاهرة التهريب، أصدرت الإدارة الفرنسية قرارا سنة 1927 باحتكار تجارة التكروري من الدولة، وحصْرها بإدارة الجمارك وأصبحت مكلفة بإسناد رخص البيع والاتجار والزراعة.

حينذاك صار التكروري يُدرّ مداخيل هائلة على الخزينة العامة ويوفّر أرباحا طائلة، ما أدى إلى رفع سعره ثلاثة أضعاف بحجة “محاربة الإدمان “.

سنة 1953 ومع تقدّم المفاوضات المتعلقة بالاستقلال الداخلي، صدر تشريع جديد يمنع تجارة الحشيشة وزراعتها، ويوفّر إسعافا بسنتيْن لتصريف الكميات المتبقية بالأسواق، وهو ما مكّن من إنهاء الظاهرة والقضاء عليها عشيّة استقلال البلاد.