ثقافة

كعادته.. سليم دولة يُهدي توأم ميلاده محمود درويش رسالته السنوية

صابر بن عامر

في الثالث عشر من مارس من كل عام تعوّد الكاتب الحر والفيلسوف الشاعر سليم دولة إهداء “توأم ميلاده” شاعر الحرية والحب والتفاصيل العاطفية والتعاطف الشعري الخالص المخلص للموجوعين كما “الهنود الحمر” محمود درويش، رسالته السنوية بمناسبة توافق يومي ميلادهما وإن تباعدت السنوات، فالأول أي الشاعر التونسي سليم دولة من مواليد 1953 بمنطقة قصر قفصة التابعة لمحافظة قفصة جنوب تونس، والثاني أي الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش من مواليد 1941 في قرية البروة التابعة لمدينة الجليل قرب ساحل عكا بفلسطين.

تعوّد سليم الصديق في مثل الـ13 من مارس، ومنذ الرحيل الفاجعة لتوأم حبره وآهاته محمود في التاسع من أوت 2008، على أن يرسل إليه رسالة مطوّلة.. أو ورقة طائرة في كتاب الكون.

دولة، صاحب ديوان “كليمنسيا الجميلة”، الذي أهدى بوابة تونس قصيدته السنوية، لم يترك يوم الميلاد يمرّ دون أن يوجّه إلى صاحبه، شذراته الأخيرة، تحت عنوان “الجمال يقع سريعا يا “ابن حورية” ويذوي في عمر الفراش والورد”، هذا نصها:

“13 مارس/آذار 2023، مناسبة عودة عيد ميلادك حين ابتسمت بك للدنيا الخالة “حورية” أمك، وهو اليوم نفسه يوم استهلالي الحياة وإن أنا أتعبت أمي كما أخبرتني السيدة القابلة”.

ويسترسل دولة موجّها حديثه إلى صاحبه الراحل: “نصبت قدّام بيتي الريفي بعمرة قفصا حديديا_شراكا، لأوقع بجرذ خبيث عند الصباح الباكر فوقعت قبرة أنيقة، أخذني حزن خفيف، وقلت لك كما لو أنك منتصب القامة قُدّامي، وفعلا أنت منتصب القامة قُدّامي.. تقلب صفحات كتاب “المستجاد من فعلات الأجواد” للتنوخي”.

قُلت لك: “الجمال يقع سريعا يا (ابن حورية) ويذوي في عمر الفراش والورد والقبح طويل العمر.. كما وجع الفراق”، وإذا بك تنزع نظارتك وتهمس لي كما لنفسك: “أقاتل كل جبار عنيد.. ويقتلني الفراق بلا قتال”، ثم قلتَ كلاما لم أتبيّنه.. وترحّمت أنت طويلا على روح عنترة العبسي.. فترحّمت أنا على روح حبيبك طرفة بن العبد.

يُواصل: “قُلت لك بعد هِراشٍ لغوي: اترك أذني لا رغبة لي أن أسرد عليك أخبار الذين.. بذّرت حيواتهم “رماح الجن”، وهي التسمية القديمة للطاعون كما ورد الأمر في”كتاب  ثمار القلوب”، لأنني أكاد أجنّ من أخبار الغياب وسرديات “صلصلة الزلازل”.. تقتلني. ما رأيك أن نغيّر مقاسات المرارة وأزفّ لك خبرا يسعدني وقد يسعدك؟”.

مأمأت بلا اكتراث، وقُلت لي حرفيا: “أرجو ألا يكون تسوقك اللغوي من الأخبار أثقل على قلبي من فراق  الأحبة.. دون وداع يليق براهفة الوداع الأخير”.

قُلت لك: “أفرحتني المصالحة التاريخية بين الشقيقة العربية السعودية والشقيقة إيران..”.

“قُلت لي: “هذا خبر مُفرح.. مُفرح حقا”.

ثم سكتتَ وسكتتُ.. هنيهة وقُلت لي: “أرجو أن تكون هذه المصالحة بنت المؤقت.. أتعرف لماذا؟”.. لم أُجبك.

فقُلت لي: “لأن المؤقت هو الذي يدوم عندنا”. وسرّحت النظر في قطعان السحب..

وأنا بقيت أسرّح النظر عند ديوان به تنبيهات بيداغوجيا الحياة من أم لابنتها التي سوف تكون شاعرة.. من يمكن أن تكون؟

يسترسل دولة: “آه أعرف أنك تعرف أنني كذبت عليك حين توهّمت أنني أخفيت عليك ما كنت كتبت.. الأحسن لوحيد القلب ألّا يفكّر في معنى الحياة”.

إشارة أولى منه إليه

“لم أولد في مَكانين، لكنْ في وسْعي أنْ أمُوتَ في أكْثر مِنْ مكانٍ.. وفي مقْدُوري أيضا أنْ أولدَ وأمُوت في كلّ قصيدةٍ،  تلك هي حُريتي”. من كلمات محمود درويش “ابن حورية” في ڨفصة ذات سنة.

إشارة ثانية من صاحب “زرادشْت”

“أليْسَتْ اُلْكَلِمَاتُ إنْ هِـِيّ كَما اُلْـمَعَانـِي أَقْواسُ قُزَحٍ وَجُسُورُ أَوْهَامٍ.. بينَ مَنْ شَتّـتَهُمْ اُلْدّهْرُ مَرّةً وَاحِدِةً وَإلَى اُلْأَبَدْ..؟” الفيْلسوف اُلْشّاعِر فريديريك نيتشه.

سامية.. الرهيفة.. الفنانة

 بعد إشارتيه الآنفتين يُواصل سليم دولة رسالته التي خصّ بها بوابة تونس موجّها كلامه هذه المرّة إلى الممثلة التونسية (الغائبة-الحاضرة) سامية العياري، قائلا: “شقيقتي في التراب والنشيد الوطني. شكرا.. لنبلك السيدة الفنانة النبيلة لاستحضار عودة عيد ميلادي”.

ويُواصل موجّها حديثه لها: “أرجو أن تكون أحوال السيدة الوالدة قد تحسّنت. يا غالية.. تعوّدت في كل 13 مارس/آذار أن أكتب رسالة لمحمود درويش “ابن حورية”، كما يحلو لي ويحلو له أن أُناديه، لأن ذكرى ميلاده هي ذكرى وجع أمي بي ذات فجر.. هنا في عمرة العامرة بأهلها والشجر.. ليس بعيدا عن بيتي الريفي بأكثر من 150 متر.. وذي شرفي العظيم، وإن هي أوراق ميلادي الرسمية تقول إنني مولود بڨصر ڨفصة.. وهذا شرفي العظيم كذلك”.

يسترسل كما الموجوع أبدا: “آه يا سامية.. كتبت رسالة بخط يدي البارحة.. فجرا على فوانيس شمسية صينية، وحين أعدت قراءتها مع الثامنة والنصف صباحا وفي حضرة الحمامات الجميلات مزّقتها.. لأنها موغلة في الأوجاع. دون طيف مسرة واحدة. نعم مزقتها.. لأنني أكاد أجزم أن الموتى فيهم ما يكفيهم من أنكاد الأحياء.. ولأن لهم أوجاعهم المُتجددة هناك.. المنكتبة لديهم منذ ذاكرتهم الحلبية.. منذ مشوا عليها هي هذي الأرض..”.

آه ثانية قالها، واستمرّ: “آه السيدة الفنانة أكاد أجزم أن العيش في الجنان لا يُغني الراحلات الحرائر والراحلين الأحرار حنينهم إلى الأوطان.. فما بالنا إذا كانت منتهكة وسليبة.. هي بوصلات الروح.. يا للوجع المقيم في نياط القلب، سارعت إلى موسيقى الهنود الحمر.. ورقصت بحضرة الحمامات الجميلات لوحدي.. طبعا”.

يُواصل: “الأحسن لوحيد القلب ألا يُفكّر في معنى الحياة.. لأن المعنى مقترن بالمحنة لئلا يفعلها الواحد بنفسه، جرعة من النسيان أو التناسي قد تُشفي الموجوعات والموجوعين.. ولهذا الأمر، تحديدا اخترع الإنسان الخمر والحشيش وإدمان المال والجنس والحب والحرب وجميع أشكال التملك والتقنية والفن..”.

يقول دولة موجّها كلامه إلى سامية: “كم هو مُحقّ آلبار كامو حين أشار إلى أنّ “سؤال الانتحار” هو السؤال الوحيد الفلسفي بحقّ، هنيئا للذين يُزاولون وجودهم كأنّ لا قلوب تحت ثيابهم تخفق، وكأنّ لا أعين تحت جباهم تدمع، وكأنّ لا عواطف ترُجّهم من تحت معاطفهم.. أعترف لك أمام آلاف الكائنات بأنني لا أصدّق من العواطف الصادقة غير عواطف الأمهات والصداقة الصادقة، لذلك وسواه يشدّني أدب استحضار الأم في عموم الفنون والآداب”.

يُواصل: “أرجو للسيدة الوالدة الصحة والسلامة والسلام للجميع أهلا ووطنا عاطفيا. وإن أنا تتردّد في خلاياي.. عبارة بن مقبل منذ آلاف السنين؛ “لو أنّ الفتى حجر يا ليتني حجر”.

يعود موجّها كلامه إلى رفيقه الحبريّ الراحل: “تلك هي الورقة التي تلعثمت فيها، ولم أرغب في أن تطّلع عليها، لا تنسى دهشتك حين قلت لك في ڨفصة أنّ يوم الثالث عشر من مارس/آذار، إنما هو يوم يسمى بيوم “ظهور الخطاف”، كما ورد في “عجائب المخلوقات”، ولم أكن أعلم أنني سوف أجد في الكتاب نفسه ما أدهشني في غيابك.. حيث أن يوم رحيلك في كتاب الوجود الأوسع يُسمّى “يوم ارتباك الرياح”.

ويختم دولة رسالته إلى صاحبه، قائلا: “يا للحياة حياتك، بين ظهور الخطاف.. وارتباك الرياح.. ثمّة شعرية عالية تستحقّ المديح العالي.. على كل حال، الجمال يقع سريعا يا “ابن حورية” ويذوي في عمر الفراش والورد، وهو ما سوف يبقى لغزا من الألغاز”.